من التراب الى التراب

علي حسين عريبي

2024-11-09 06:49

في إحدى الليالي الكربلائية الباردة الممطرة من شهر محرم، كانت عائلة أبي محمد تجتمع بقلوب مملوءة بالإيمان حول قدورة يتصاعد منها أعمدة البخار برائحة الخدمة، لإحياء ذكرى استشهاد من فضل الموت على الذل.

كان محمد لا يتجاوز عمره عشرة سنوات، حافي القدمين يركض بين أرجاء منزلهم المتواضع ويلهو بالظلال التي ترسمها النار المتراقصة على الجدران، ووالده يحضر الأواني استعدادًا لتوزيع طعام الثواب ويردد أبيات حسينية بصوت خافت (أيام أيام هاي الدنيا أيام)، بينما كانت والدته تضع لمساتها الأخيرة على القدور وتهمس ببعض الأدعية وكأنها تناجي ربها ليبارك في هذا الطعام، اما شقيقته فقد كانت تغمرها السعادة وهي تساعد أمها في تقليب الطعام.

فجأة كسرت سكينة الليل بصوت طرقات عنيفة على الباب، تسارعت دقات قلوب الجميع، فتحت الأم عينيها بذهول، بينما التفت الأب نحو الباب بوجه شاحب، ومحمد وشقيقته يرتجفان من رعب.

الأب قبل أن يقترب بخطوات بطيئة نحو الباب، اندفع رجال مسلحون إلى المنزل دون سابق إنذار، كانوا يرتدون بزات عسكرية ومدنية من حزب البعث الصدامي، وكانت وجوهم مشدودة بالعدوانية وقلوبهم متحجرة وأصواتهم جافة مليئة بالغضب، صرخ القائد:" كيف تتجرؤون على مخالفة قوانين الدولة". 

بدأوا بقلب القدور الطعام على الأرض وتفتيش المنزل بعنف واتهام العائلة بخرق القوانين النظام، الأب كان يحاول أن يشرح بأنهم لا يفعلون شيئًا لكن سرعان ما تراقصت الأيادي الغليظة والعصي على رأسه بلا رحمة، وأمر القائد بصوت مدوً لجنوده:" اعتقلوهم جميعًا"، صرخات محمد وشقيقته اندمجت مع صرخات والديهم.

في لحظة من الارتباك والخوف، تمكن محمد من التسلل بصمت وركض بسرعة نحو فناء المنزل الخلفي، كان قلبه ينبض بقوة وصوت أنفاسه متقطعة محاولاً الابتعاد عن المسلحين، كان يسمع أصوات خطواتهم الثقيلة تقترب منه بين الحين والأخر، تسلق محمد الجدران بحذر وهرب عبر الأزقة المظلمة من الكابوس، تعثر مراراً وهو يركض حافي القدمين بين الأنقاض، تاركاً خلفه صرخات عائلته وهم يقتادون إلى مصير مجهول.

أسابيع مضت ومحمد يختبئ بين المدن ويجوب شوارعها الجافة بروح منكسرة وقلب مملوء بالخوف ويقات على بقايا الطعام الذي يطوف حوله الذباب، وشعره أشعث أغبر وملابسه خارقت قواها، وكان يهرب من عيون الناس، بعد فترة قرر العودة الى منزله وكان متشبثًا ببصيص من الأمل أن يجتمع مع عائلته مره أخرى، لكن عندما وصل الى مكان منزلهم رأه أن قد تحول كومة من الحجارة والتراب، وقف محمد مصدومًا أمام منزلهم المهدوم، انهمرت دموعه بصمت على جبينه، بكى بحرقة وهو يودع المكان الذي كان يحمل فيه دفء عائلته وذكريات طفولته، وشعر أن كل شيء قد انتهى.

هرب محمد مرة أخرى، هذه المرة لا هربًا من المجرمين المسلحين، بل من الجنون الذي أصابه عندما ما رآه، عندما كان يتعثر في طريقه صادفه رجل مسن يرتدي الزي الريفي وملامح وجه مجبولة من تعب الأرض وتجاعيده تحكي قصة طويلة من الصبر، كان جالسًا بجانب إحدى الطرق تحت ظل شجرة، نظر الى محمد بنظرة مملوءة بالحنان، قصده وسأله بهدوء:" لماذا أنت وحدك يا ولدي، وفي هذه الحالة المأساوية؟"، لم يستطيع محمد على الإجابة، كانت الكلمات عالقة في حنجرته، لكن فقط دموعه كانت تجيب.

أمسك ذلك الرجل بيد محمد بلطف وقال:" تعال معي ستجد مكانًا أمنًا بين الأموات"، أخذه الى مكان الذي يكسب قوت يومه عليه.

ترعرع محمد في مقبرة كربلاء بين صمت الموتى وضجيج الأحياء مع أحد الأولاد يدعى مجتبى الذي كان ذلك الرجل يعتني فيه، عاشوا في غرفة صغيرة سقفها مصنوع من سعف النخل، وجدرانها تتشابك فيها جذوع النخل في خطوات مستقيمة، لكنها كانت تحمل الأمان الذي فقدة محمد منذ تلك الليلة الهالكة.

كان يومًا يقف محمد وحيدًا بين القبور، ويسأل نفسه:" هل هذه نهاية كل من يعشقون سيد الشهداء؟"، لكن مع ذلك بقيت في داخله شعلة صغيرة من الأمل.

مع مرور السنوات أصبح محمد شابًا وجزءًا من العالم الصمت، كان ذلك الرجل المسن كالأب لمحمد، ومجتبى كاخ، وهنالك تعلم شيئًا لم يكن يتوقعه على أيديهم، تعلم مهنة دفن الأجساد وكيف يتعامل معها الى حيث ترقد بسلام في الأرض، وكيف يواسي الأحياء ويعينهم على فقدان أحبائهم.

مر عقد ونصف تقريبًا على تلك الليلة، عام 2003م احتلت قوات التحالف الدولي للعراق تحت عملية "حرية العراق"، وسقط حزب البعث من رئيسه المجرم صدام إلى أذنابه، وكانت كافة المحافظات العراقية تعج بالفوضى من القتل والدمار والنهب، بينما محمد ومجتبى وذلك الرجل بقوا هادئين في مأواهم.

جاء اليوم الحزين الذي يحمل ثقلاً على قلب محمد ومجتبى، فقد تركهما ذلك الرجل الذي ملأ حياتهما بالقيم والحكمة، بأيدِ مرتجفة وقلوب منكسرة قاما بدفنه كما علمهما.

ظلت صورة ذلك المنزل الذي غمرته رائحة الثواب عالقة في ذهن محمد، وصدى ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) يعيش في قلبه رغم الألم الذي يشعر به.

بعد فترة من الزمن قرر محمد أن يكشف عن قصته لصديقه مجتبى، كانت القصة ثقيلة على قلبه ولكنه شعر بالحاجة للبحث عن عائلته، طلب محمد من مجتبى أن يساعده في العثور على عائلته، قاده مجتبى محمد الى شخصية ذات نفوذ اجتماعي واسع وابن من أبرز العوائل الكربلائية المعروفة، تلك الشخصية وعدت محمد بالبحث عن عائلته.

بعد فترة من الانتظار جاءت تلك الشخصية الى المقبرة بإخبار مروعة، نظر الى محمد بعينين مليئتين بالحزن وأخبره بالحقيقة المرة، وقال:" عرفت من الجهات الرسمية أن عائلتك قد تم إعدامهم من قبل حزب البعث".

تلقت روح محمد الخبر كضربة صاعقة، وكأنه جرحًا قديمًا تمزق من جديد، وقف متجمدًا عاجزًا عن تصديق ما سمعه، وشعر بأن الأمل البسيط الذي عاش لأجله قد تلاشى في لحظة. 

مرت ثلاث سنوات تقريبًا عن ذلك الخبر المؤلم، وفي نهاية مظلمة رحل محمد الى حيث رحلت عائلته، وقع انفجار عنيف بقرب من القباب الطاهرة، استشهد محمد تاركًا خلفه حياة ممتلئة بالألم والإيمان والصبر، بعد استشهاده ظلت ذكراه حية في قلوب الجميع التي تعكس حياة مليئة بالحب لأسرته التي فقدها وإيمانه ببلده وعشقه لنهج الإمام الحسين (عليه السلام) الذي لم يتخل عنه يومًا.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي