صرخة الصمت

علي حسين عريبي

2024-10-27 04:23

يوسف رجل بسيط لكنه غني الروح، نشأ وترعرع بين الأزقة الضيقة لمدينته القديمة في البصرة، هوائها مشبعاً بالأشجار الرطبة، وتفوح منها رائحة الأرغفة الساخنة التي تتصاعد من تنانير الطين، وبيوتها متلاصقة كأنها تعانق بعضها بالألفة، مثل قلوب ناسها التي تعرف بعضها البعض كما يعرف المرء كفه.

كان يوسف يعمل موظفا بصفة معاون إداري لدى مستشفى العام في مدينته، وعندما كان يسير بين أروقة المستشفى ويسعى لخدمة الآخرين بملابسه المتواضعة وابتسامته الصافية التي يخفي خلفها ملامح رجل تعلم الصبر من قسوة الأيام، وكان محباً لعمله ومحبوباً من زملائه ومرؤوسيه.

ذلك المستشفى يرتبط مع يوسف في الماضي حلقة ذكريات أليمة لا تنسى من قاموس حياته، التي شهدت على معاناة والده في آخر أنفاسه، كان كل ممر يعبره في المستشفى يسمع همسات خافتة كأنه صوت والده المنهك من المرض ما زال يصدى بين الجدران، تتشابك الأصوات في ذهنه، صرخات المرضى والطاقم الطبي، وصفير وإنذار الأجهزة، وهمسات مليئة بالخشوع والرجاء إلى الله، كانت تلك الأصوات تلتصق بذاكرته وتطارده في كل خطوة.

كان يوسف دائماً يتحدث مع نفسه:" ربما اختارتني الأقدار لأكون هنا ليست صدفة، لكن لأستعيد وجود والدي إلى الحياة بطريقة أخرى، من خلال رحمة التي يقدمونها المرضى الذين اخدمهم، بعيونهم المرهقة وأجسادهم الهزيلة، أملاً أن تكون رحمتهم هي الطريق إلى رحلته وسكينته".

كانت حياة يوسف تدور حول رعاية والدته العجوز متجعدة الجبين من سنوات العمر الشاق، التي أصبحت كل ما لديه بعد فقدان والده منذ عده عقوداً من الزمن.

كان في الصباح قبل أن يغادر منزله متواضعاً يشرب الشاي مع والدته، وعند الظهيرة تنتظره والدته خلف الباب قبل أن يأتي من عمله لتفتح له الباب بابتسامة تعلوها التجاعيد، يوسف الابن الأكبر الذي لم يترك والدته أبداً، ويمنحها الحب والطاعة.

في صباح يوم الجمعة من منتصف شهر رمضان المبارك، خرج يوسف من منزله متوجهاً إلى السوق الشعبي في قلب مدينته؛ لغرض شراء بعض الحاجيات اليومية لعائلته، وكان السوق يعج بحركة الناس، وعندما كان يتجول بين صرخات الباعة وأصوات المشترين، وقف عند عربة صغيرة لبيع الأسماك الطازجة، ليشتري السمك ليس فقط لعائلته بل يوزعه على الجيران لثواب روح والده.

لكن في لحظة مفاجأة تغيرت معالم الكون، انقلب السوق إلى الميدان حرب، وتحولت ضحكات الناس إلى صرخات، والأجساد إلى جثث تقطعت أوصالها، وغاب يوسف عن الحياة كما تغيب الشمس عن الليل". 

عاد يوسف فقط كخبر يفيض من الحزن والفقدان إلى المستشفى، ثم إلى منزله ينتظر من يفتح له الباب ليسرق أحلام والدته، طرقت الباب كان في مخيلة والدة يوسف ان من طرق الباب ولدها، كالعادة ذهبت مسرعة لغرض أن تفتح الباب له، خوفاً عليه من أشعة الشمس اللاهبة، وأن ترى وجه الجميل وتسمع صوته العذب الذي كان يحب دائماً أن يسميها ب"الوطن" وتسميه ب"الأمان"، لكن قبل أن تصل للباب تعثرت وسقطت ارضاً وألمها قلبها وشعرت كأنه شيء ما في داخلها قد انكسر، حاولت أن تسرع بنهوض لتفتح الباب، لكن كانت صدمة كبيرة في حياتها هنا عندما فتحت الباب، إذ رأت وسمعت كان مختلفاً تماماً ومخيفاً عن ما كانت تتوقع، رأت أحد أبناء جيرانها يجهش بالبكاء، ويقول:" خالتي لقد استشهد يوسف في الانفجار... ساعد الله قلبكِ".

كان الخبر أنزل على والدته كصاعقة، في البداية ظنت ان الخبر فقط مجرد كابوس، وأنه ولدها سيعود في الظهيرة كعادته وهي تفتح له الباب، لكن ثم بدأت الحقيقة تتسلل ببطء إلى قلبها المقطع وأغمي عليها.

باتت الأيام على والدة الشهيد يوسف مجرد أرقام، لم تعد تفهم كيف يمكن ان تستمر الحياة بدون ثمرة فؤادها، وشعرت كأنه الزمن توقف منذ أتى ذلك الخبر، وبدأت تغوص في بحر من النسيان، وتسأل وتتحدث عنه كأنه لا زال على قيد الحياة، كانت تجلس في زوايا المنزل، وتعد الشاي كل الصباح، وفي المساء تحدق الى الباب تأمل عودته، وتبحث عنه في كل غرف المنزل وتقول:" أين أنت يا نور عيوني".

ظروف قاسية مرت على والده الشهيد، أنطفئ بريق عينيها بسبب البكاء الشديد على انتظار ولدها متى يعود لأحضانها، وأصيب عقلها "بالزهايمر"، ونسيت الأيام والوجود والوجوه، ولكن لا قدرت أن تنساه.

في نهاية رحلت إلى حيث رحل ولدها، تركت خلفها الأمل الذي مات معها منذ انفجر ذلك السوق. 

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي