حداثة أخرى.. الكتابة الإبداعية للصحافة
علي الطالقاني
2024-03-16 10:00
عندما نتحدث عن الكتابة الإبداعية، سيخطر على بالنا الشعر والدراما والمسرح والخيال، وعندما نذكر الصحافة سنكون أمام نشاط كتابي صحفي ينقل الأخبار والأحداث التي تجري في العالم، وقد يقال إن الكتابة الإبداعية لديها رخصة للتخيل والقدرة على التلفيق وإنشاء وكتابة القصص، في حين أن الصحافة لا يمكن لها ذلك، لأنها ترتبط بالموضوعية والدقة والصدق، مما يجعل من المستحيل على الصحفي أن يتخيل قصة أو يختلقها.
مع توسع صناعة الإعلام إلى ما هو أبعد من الصحافة المطبوعة والمسموعة والمرئية التقليدية، ومع ظهور الويب وممارساته الجديدة والتركيز على أسلوب "الاتصال الأدبي" الذي تقوم به الصحف، نجد أن الكتابة الإبداعية دخلت عالم الصحافة منذ عقود وأصبحت الصحافة مفضلة للروائيين الذين جعلوا منها إطارا لرواياتهم وهذا يتضح خلال القرن التاسع عشر وولادة معظم الأنواع الصحفية الرئيسية التي شهدت ابتكارات أساسية في الكتابة.
رواية مختلفة
في كتابها "اختراع الرواية الإخبارية"، تتناول "ماري إيف ثيرينتي" وهي أستاذة الأدب الفرنسي ومديرة مركز الأبحاث، حداثة أخرى في الصحافة وعن رواية قصيرة حول حدث معين، أو قصة خيالية أو قصة إخبارية من الواقع أنتجها الأدباء.
وهناك العديد من الشواهد الأخرى، مثل الروائي الفرنسي "غوستاف فلوبير"(1821-1880) في ماكتب حول "التعليم العاطفي"، وكذلك "أونوريه دي بلزاك" أحد أسياد الرواية الفرنسية في ما كتب "الأوهام المفقودة" والذين يقدمون بذلك رؤيتهم للصحافة، وكان هناك من هم استثنائيون من الكتاب الصحفيين، ويكفي تصفح ببليوغرافيا الخاصة بالشخصيات التي تكتب.
في الأمثلة السابقة كتب كل من الصحفيين والكتاب المبدعين القصص التي تشترك في عنصر أساسي وهو "التدفق الطبيعي للمعلومات" بما يخلق تماسكا في النص بشكل يجعل القارئ المتابعة، فإذا كنا نكتب قصة صحفية، فإننا بحاجة إلى فهم كيفية سرد تلك القصة بشكل إبداعي، على سبيل المثال لو إننا شاهدنا برنامجا تلفزيونيا مميزا سنرى كيف يكون التعمق في القصة وتصوير المشاهد، وفي الميدان تظهر لنا المشاهد أو النصوص بطريقة إبداعية تستهوي المتابعين، لنرى كتب السيرة الذاتية للشخصيات التي غيرت وجه العالم، وهو عمل صحفي واقعي يروي لنا الكاتب ما كتبه بطريقة إبداعية نستمتع من خلالها بما نقرأ ونتعلم آفاق الكتابة والتعبير والخيال والصياغات اللغوية والوصف وغير ذلك من المعارف الكتابية.
نقطة الالتقاء بين الصحافة والكتابة الإبداعية كليهما يستفيد من فن الإبداع في الكتابة، فلا توجد قصة دون سياق؛ ودون قصة لا توجد كتابة إبداعية ولا صحافة، بمعنى أن هناك علاقة متشابكة بين الكتابة الإبداعية والصحافة، تضفي هذه العلاقة التي هي أشبه بنسيج العنكبوت، الحيوية على المعلومات والحقائق المستخدمة في الصحافة.
كصحفيين عندما نكتب الحقائق، نحتاج إلى تضمين عناصر إبداعية في كتابة القصة، وإلى بناء الجملة خصوصا في المقالة الصحفية والتقارير والتحقيقات بشكل يجذب القارئ ويجعله يستمر بقراءة الموضوع بطريقة تأسره، الكاتب المحترف يستثنى من المحددات ويكتب بانسيابية سواء من الناحية الصحفية أو من وجهة نظر الكتابة الإبداعية، بل لا يعتمد على الخيال بقدر ما أن تكون لأحداث الحياة الواقعية تأثيرا على الكتابة، فالمبدعون بحاجة إلى امتلاك هذه المهارة.
قد نرغب أن نكون مؤلفين أو صحفيين، ولكن في بعض الأحيان تلقي علينا الحياة بعض الصعوبات وقد يكون من الصعب الاستمرار بهذا العمل، لكن امتلاك القدرة على كتابة الأعمال الصحفية يفيد حياتنا المهنية بشكل كبير، ومن خلال التدريب يكون لدى الكاتب المبدع نظريا جميع العناصر التي قد يحتاجها لكتابة قصة ما بناء على ما شاهده وجمعه من معلومات.
خطوات إبداعية
الكتابة تمنحنا الفرصة لتطوير المهارات من خلال قيمة التعليم وتطوير المهارات الحياتية وتعزيز قدراتنا، والراحة مع الكتابة تأتي من خلال الالتزام وأن نكتب بطرق مختلفة بغض النظر عن مسارنا المهني، حتى وإن كانت الكتابة في البداية دون المستوى فهذا أول طريق النجاح، وهذا يعني علينا أن نقفز قفزة إيمانية في هكذا نوع من العمل، وهناك خطوات قد تبدو أنها تقليدية لكنها مهمة وأساسية:
1- تنويع المصادر، من طرق تعزيز الإبداع للصحفي والكتابة الإبداعية، تنويع مصادر المعلومات، والتي لا تقتصر على المنافذ المعلوماتية المعتادة أو الخبراء أو الموضوعات التي يتم تداولها، فيمكن من خلال البحث عن وجهات نظر وتجارب جديدة تثري فهمنا، ويمكنك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو البودكاست أو النشرات الإخبارية أو المجتمعات عبر الإنترنت، والانفتاح والشجاعة لعبور حدود الأساليب المحددة.
2- بنية جديدة للكتابة، هناك طريقة أخرى لتعزيز إبداع الكاتب الصحفي وهي تجربة تنسيقات ومنصات مختلفة للقصص، فلا نلزم أنفسنا بطرق تقليدية أو نفس الأسلوب أو البنية التي اعتدنا عليها، ولنجرب طرقا جديدة لعرض معلوماتنا، مثل الرسوم البيانية أو مقاطع الفيديو أو الميزات التفاعلية، وإيجاد زوايا جديدة نظهر من خلالها تنوعنا وإبداعنا. فعلى سبيل المثال كتابة مقالات قصيرة ممتعة تثير اهتمامنا وتثير السرور، ثم مراجعة ما كتب لمعرفة ما يصلح وما لا يصلح، ثم نقل هذه الدروس إلى عالمنا.
3- تعاون مستمر، التعاون مع الآخرين الذين يمكنهم استكمال نقاط قوتنا من خلال العمل مع الزملاء أو الموجهين أو الخبراء من مختلف المجالات أو الخلفيات الذين يمكنهم تقديم تعليقات أو نصائح أو رؤى تحفز وتحسن عملنا، وكذلك الانضمام إلى الشبكات أو المجموعات أو الأحداث التي يمكنها توصلنا بصحفيين آخرين أو محترفين مبدعين يمكنهم مشاركة تجاربهم أو نصائحهم أو مواردهم التي يمكن أن تلهمنا وتساعدنا على النمو، ويمكن قراءة أو مشاهدة أو الاستماع إلى أعمال الصحفيين الآخرين أو المحترفين المبدعين الذين نعجب بهم أو الذين لديهم أسلوب أو نهج مختلف عنا.
4- طاقة مستمرة، الإبداع والابتكار ليس له حدود، بل يمكن أن يتأثر بالإجهاد أو التعب أو الإرهاق. لذلك من المهم أخذ فترات راحة وإعادة شحن الطاقة الصحية والجسدية والعقلية، وممارسة الهوايات أو الأنشطة التي يمكن أن تريحنا وتجعلنا سعداء، وبالتالي سيتجدد حماسنا وشغفنا بعملنا.
5- التحدي الذاتي، تعزيز الإبداع الصحفي يأتي أيضا من تحدي النفس، والخروج من منطقة الراحة الخاصة والتخلص من القيود، والبحث عن الفرص أو المهام أو المشاريع التي يمكن أن تمكننا من موضوعات أو الوصول إلى جمهور جديد بما يعزز قدراتنا، والتغلب على المخاوف وتعزيز الثقة بالنفس.
6- مراجعة الأفكار والقدرة على التحرير الجيد، يمكننا أن نحدد قائمة من الأفكار التي يتم إنشاؤها والتوصل إلى أفكار جديدة، خاصة عند البحث عن مقالات جديدة، ونبدأ بوضع فكرة إبداعية نختارها ونطلق العنان لخيالنا دون تردد لتتدفق الكلمات والأفكار التي لا تقدر بثمن، وإنتاج محتوى صحفي جذاب ومبتكر.
7- يحافظ الكتاب على علاقات وثيقة مع الصحافة وفي الوقت الذي يكافح فيه نشر وبيع الكتب لتلبية الطلب، تعرض الصحافة نشر الأعمال بشكل دوري، ويستثمر الكتاب في الصحافة من خلال نشر العديد من المقالات الجذابة، أو حتى من خلال إنشاء مجلات خاصة بهم.
8- يمكن أن تأخذ الكتابات الصحفية جوانب أدبية، ومن ناحية أخرى يميل الأدب إلى الاستلهام من الأشكال الصحفية المتطورة ضمن أساليب الكتابة، فبعض الكتاب، يقومون بتحقيقات بهدف كتابة رواياتهم.
خلاصة
الحديث عن علاقة الكتابة الابداعية مع الصحافة، لا يكون وفق مقاربات شعرية وسردية وأسلوبية وعامة فحسب، بل أيضا من خلال الأخذ بعين الاعتبار القضايا التاريخية والاجتماعية، وأبرزها سوسيولوجية الكاتب واجتماعياته في الإطار العام للتاريخ الثقافي.
الفصل بين الكتابة الابداعية والصحافة لا يصمد أمام الحقائق، وبمجرد أن نأخذ في الاعتبار الإنتاج الأدبي عبر تاريخ الكتابة والصحافة، فإننا ندرك أن الحدود بين العالمين الكتابي والإعلامي تتلاشى، وتفسح المجال لسلسلة متواصلة من الممارسات التي يصعب فصلها، بل تحتفظ الصحافة والكتابة الابداعية بعلاقات وثيقة.