هل يقود إسقاط الطائرة الأوكرانية إلى لحظة تشيرنوبيل إيرانية؟
بي بي سي عربي
2020-01-19 04:20
على مدى أسبوع، ظل المحتجون الإيرانيون يدعون على منصات وسائل التواصل الاجتماعي إلى الخروج في مظاهرات جديدة مناهضة للحكومة في جميع أنحاء البلاد.
وتحدث العديد منهم، داخل البلاد وفي الشتات، في وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات عبر الإنترنت، مثل موقع IranWire الإلكتروني، عما يسمونه "لحظة تشيرنوبيل".
وبدت تجمعات ومظاهرات هذا الأسبوع متناقضة مع الحشود الضخمة التي انطلقت قبل سبعة أيام فقط في تشييع جنازة قاسم سليماني -القائد الإيراني الذي قُتل في غارة أمريكية بطائرة مُسيّرة- وكان ثاني أكبر تشييع تشهده إيران بعد تشييع جنازة مؤسس الثورة الإسلامية آية الله خميني عام 1989.
إذاً، ما الذي تغير في هذه الفترة القصيرة من الزمن؟
في 8 يناير/كانون الثاني، تحطمت طائرة أوكرانية بعد وقت قصير من إقلاعها من مطار طهران، ما أدى إلى مقتل جميع من كان على متنها وعددهم 176 شخصاً، بضمنهم 100 مواطن إيراني، العديد منهم من الطلبة.
ما هي "لحظة تشيرنوبيل"
في العام الماضي، تابع الإيرانيون بشغف، مثل كثيرين آخرين في جميع أنحاء العالم - المسلسل التلفزيوني الذي انتجته قناة أج بي أو الأمريكية عن حادثة تشيرنوبيل، والذي يقدم معالجة درامية للكارثة النووية التي وقعت عام 1986 في أوكرانيا في فترة الاتحاد السوفيتي السابق. وسرعان ما أصبح المسلسل ظاهرة تلفزيونية، ولكن مفتاح نجاحه هذا في إيران، بحسب مناقشات العديد من المشاركين في موقع "IranWire" الإيراني المعارض، ربما يرجع إلى حقيقة أنهم رأوا فيه صدى لتجربتهم، وما يعيشونه.
ويقول المحلل الإيراني أراش عزيزي من جامعة نيويورك: "قد يرى الناس دولة غير كفوءة تعيش ظروفا مأساوية وتفقد معظم قدرتها الأساسية في حماية أرواح مواطنيها".
ويضيف أن جمهورية إيران الإسلامية قد تكون دولة رأسمالية، ولكنها، كما تكرر المعارضة الإيرانية غالبا، لا تختلف في بنية حكومتها الاستبدادية عن الأنظمة ذات أسلوب الحكم السوفييتي في القرن العشرين.
ويشدد عزيزي على القول: "هذا نظام يتجاهل حياة شعبه بشكل سافر، لأنه لا يُحاسب على أفعاله".
ويعود عزيزي إلى لحظات ظهور قادة معارضين في ظل أنظمة شمولية، كما هي الحال مع ليخ فاونسا في بولندا، فاتسلاف هافيل في تشيكوسلوفاكيا سابقا، أو حتى ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، حيث مهد ظهورهم الطريق لإسقاط الحكومات الموالية للسوفييت، ليقول إن أعضاء المعارضة الإيرانية يأملون أن يتكرر حدوث ذلك أيضاً في بلدهم.
مد وجزر
بعد تحطم الطائرة مباشرة، قالت السلطات الإيرانية إن ذلك كان حادثا، مستبعدة فرضية إسقاط الطائرة.
ولكن بعد ثلاثة أيام من نفي المسؤولين في الحكومة ووسائل الإعلام الحكومية وضباط في الجيش القاطع لأن تكون الطائرة قد اسقطت بأحد صواريخهم، أقرت السلطات أخيرا بأنها أسقطت الطائرة بعد إصابتها عن طريق الخطأ.
وقال علي ربيعي، المتحدث باسم الحكومة الإيرانية إن الحادث كان خطأً لا يُغتفر.
ثم خففت لهجة الاعتراف هذا، على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي أضاف أن الولايات المتحدة في النهاية هي المسؤولة عن "جميع المآسي"، لكنه أشار إلى أنه لا يزال يتعين على السلطات الإيرانية إجراء تحقيق مفصل.
بيد أن ما أعقب تحطم الطائرة تحول إلى حملة مستمرة ضد القيادة الدينية الإيرانية، ومظاهرات احتجاج، قاد معظمها الطلبة، في طهران وغيرها من المدن، حيث هتف المتظاهرون "الموت للديكتاتور!"
وكتب أحد المحتجين في وسائل التواصل الاجتماعي "نازلون إلى الشوارع للتظاهر ضد حكومة مُختلسة وفاسدة".
وكانت المشاركات والهتافات الأخرى أكثر حدة، من قبيل "الحرس الثوري هو بمثابة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في إيران".
ومنذ ذلك الحين، ظهر العديد من مقاطع الفيديو التي تصور تجمعات آلاف المحتجين في المدن بعموم البلاد، والتي تحدث أمام الجامعات في الغالب.
على الرغم من صعوبة تحديد حجم الاحتجاجات والاضطرابات بسبب القيود المفروضة على وسائل الإعلام المستقلة، تقول وكالة رويترز ووكالات أنباء أخرى إن هناك تقارير عن استخدام الغاز المسيل للدموع.
وبعض ما يقوله هؤلاء الطلاب هو أنه، كما سلط وقوع كارثة تشيرنوبيل الضوء على كل الأخطاء في زمن الشيوعية السوفيتية، بات الكذب بشأن تحطم الطائرة في طهران يلخص كل ما هو خاطئ في الجمهورية الإسلامية.
ويُشّبه منتقدو الحكومة الإيرانية في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشوارع، اسقاط الطائرة بـ "لحظة تشيرنوبيل".
تبعات ما بعد سليماني
كل ما يحدث الآن يتناقض بشدة مع ما حدث في وقت سابق من شهر يناير/كانون الثاني الحالي: عندما خرج الملايين من الإيرانيين لتشييع جنازة الفريق سليماني، الذي قُتل في غارة أمريكية في الأيام الأولى من الشهر الحالي.
ويقول خبير إيراني بقسم المتابعة الإعلامية في بي بي سي: "إن اغتيال الجنرال سليماني كان حدثًا وحد البلاد ضد عدو مشترك، الولايات المتحدة - لكن كما اتضح الآن، ربما كانت تلك لحظة عابرة".
ويضيف أن الكثيرين من أولئك الذين عارضوا النظام أو حملوا مشاعر متناقضة، قد يكونوا ما زالوا يؤيدون سليماني، لأنهم بدلاً من ربطه بقمع حرس الثورة الإسلامية للإيرانيين، رأوا أنه حفظهم في مأمن من خطر تنظيم الدولة الإسلامية.
ويوضح الخبير أنه بعد أسبوع واحد من مقتل سليماني -عند إسقاط الطائرة الأوكرانية- روجت وسائل الإعلام الحكومية بقوة للرواية الكاذبة التي قالت فيها إن إسقاط الطائرة كان بسبب "فشل في محرك الطائرة"، لدرجة أن الصحفيين حُذروا من التشكيك في الإفادة الرسمية بهذا الشأن.
وكتب حسام الدين أشنا، المستشار السياسي للرئيس روحاني، تغريدة في تويتر قال فيها: "حُذّر الصحفيون من أصل إيراني الذين يعملون في وسائل الإعلام باللغة الفارسية من المساهمة في الحرب النفسية بخصوص الطائرة الأوكرانية والتعاون مع أولئك الذين يكرهون إيران".
كما تلقى أهالي وأقارب ضحايا الطائرة مكالمات هاتفية وزيارات متطفلة وهم لا يزالون في حالة حداد على فقدانهم لأبنائهم، تحذرهم من التحدث إلى وسائل الإعلام الأجنبية.
وعندما اعترفت السلطات الإيرانية في اليوم الثالث بمسؤوليتها عن الحادث، أقرت أيضاً أنها "قتلت خطأً أكثر من 100 مدني إيراني" بحسب ما قال الخبير في بي بي سي.
يقول مارتن بيشنس، مراسل لبي بي سي لشؤون الشرق الأوسط: "كان الإيرانيون غاضبين".
ويوافقه الرأي زميله الخبير الإيراني في قسم المتابعة الإعلامية قائلاً: "كذبت الدولة بشأن ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكان الناس غاضبين. فخرج أولئك الذين قد لا يكونون بالضرورة موالين للنظام لكنهم عارضوا مقتل سليماني".
ويقول: "لقد انهارت الوحدة التي ظهرت بعد الاغتيال وخرج الناس إلى الشوارع غاضبين". ومُزقت ملصقات تحمل صور سليماني في تلك التجمعات ورددت هتافات ضده".
اجتمع المؤيدون المخلصون خارج السفارات الغربية لحرق الأعلام الأمريكية والإسرائيلية -لعدوي إيران الرئيسين- لكن في أماكن أخرى صُور الطلاب المحتجين وهم يرفضون السير فوق نفس الأعلام المرسومة على الأرض في "عرض واضح للتحدي ضد الحكومة" بحسب بيشنس.
ما الذي دفع الناس إلى الخروج إلى الشوارع في المناسبتين؟
يقول خبير إيراني في قسم المتابعة الإعلامية في بي بي سي إنه على الرغم من أنه قد يكون هناك تداخل بين الأشخاص الذين أبنوا سليماني والذين خرجوا في مسيرات ضد النظام بعد تحطم الطائرة، إلا أن معظم الإيرانيين لاحظوا "الطبيعة المختلفة تماماً للحدثين".
ويضيف: "بينما خرج الملايين بحماس شديدي من أجل سليماني -وفي بعض الحالات بالإكراه- من الحكومة، تجرأ بضعة آلاف آخرين على الاحتجاج وهم يعرفون أنهم يخاطرون حياتهم".
بلد منقسم بعمق
يقول مارتن بيشنس: "هذه أمة منقسمة جداً". ففي إيران، ثمة فقراء وأغنياء، ليبراليون ومحافظون، من يدعمون النظام ومستعدون للموت من أجله النظام، ومن يبغضونه كلياً".
ويوافقه بالرأي كيا عطري، وهو محلل إيراني آخر في قسم المتابعة الإعلامية في بي بي سي، بالقول: على الرغم من أن غالبية الناس ربما "يدعمون بقوة هذا النظام لكن ثمة أولئك الذين يريدون تغيير النظام أيضاً، وما زال هناك المترددون (الذين قد يبدلون مواقفهم بين الطرفين).
وفي هذه اللحظة، بات الغضب الشديد في الشوارع جلياً، كما أن الظروف الاقتصادية السيئة المتفاقمة تجعل هؤلاء الناس أكثر يأساً، وبالتالي أكثر استعداداً لتحمل مخاطر الاحتجاج"، بحسب عطري.
وثمة إمكاني لنمو الاحتجاجات الحالية على نطاق واسع، إذ سبق أن شهدت إيران اضطرابات من قبل، في 2009 و 2017 و 2018، فضلا عن الاحتجاجات الأخيرة على رفع أسعار الوقود في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويقول بيشنس،"قد يبدو النظام ضعيفاً في الوقت الحالي، إلا أنه على استعداد لاستخدام القوة عندما يشعر أن قبضته على السلطة مهددة".
من "لحظة تشيرنوبيل" إلى الانهيار
ويقول أراش عزيزي إنه لكي تؤدي "لحظة تشيرنوبيل" إلى لحظة "الانهيار"، تحتاج إيران لأن ترى ظهور قيادة سياسية بديلة، "قادرة على التوفيق بين مطالب الطبقة العاملة في عامي 2018 و2019 واحتجاجات الطبقة المتوسطة التي خرجت في عام 2020".
وفي الوقت الحالي، تبدو المعارضة مجزأة: متدينون وعلمانيون، جمهوريون وملكيون، طبقات اجتماعية متباينة لها آفاق مختلفة تماماً، فضلا عن الانقسام بين أولئك الذين يعيشون داخل إيران والإيرانيين خارجها.
ويقول عزيزي: "تحتاج المعارضة إلى زعيم قادر على تجاوز هذا الانقسام في الرأي، مثل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، ويكون قادرا على العمل من داخل بلده وتحشيد الناس حوله".
ويضيف عزيزي: لكي يظهر مثل هذا القائد في إيران "يجب على هذا الشخص أن يتغلب على الانقسامات ويمتلك رؤية إيجابية لمستقبل البلاد، بدلاً من الاعتماد على تأليب أحد قطاعات المجتمع ضد الآخر".
ويخلص إلى القول "ما زال هذا بعيد المدى وسيناريو سيسعى آية الله خامنئي بالتأكيد إلى منع حدوثه مهما كان الثمن".