الاحتواء الناعم أو لعبة شراء الصوت أو الصمت
عريب الرنتاوي
2019-01-03 04:45
اهتدت أنظمة الفساد والاستبداد في عدد من الدول العربية إلى الوسيلة الأقل كلفة لـ"تحييد المثقفين" وإخراجهم من حلبة الصراع الاجتماعي، أو بالأحرى، إعادة إدخالهم إليه من بوابات قصورها وبلاطاتها ... الأساليب الخشنة في التعامل مع المثقفين، بدت في مرحلة من المراحل، شديدة الكلفة على صورة هذه الأنظمة ومكانتها في المجتمع الدولي، سيما بعد تصاعد أدوار المجتمع المدني العالمي، واندلاع موجة ديمقراطية جديدة إثر سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.
"الاحتواء الناعم"، كان وسيلة هذه الأنظمة ومنهجها الرئيس في التعامل مع هذه الشريحة من مجتمعاتها ... وهي وسيلة مهما بلغت كلفها المالية، تبقى أقل بكثير من كلف "الاحتواء الخشن" وتداعياته، وسيترتب عليها، ترك حركات الشارع الاحتجاجية، جسداً من دون رأس، وحراك من دون قيادة، و"فوضى مطالب" من دون تأطير أو تنظير، وأهداف قصيرة الأمد من دون رؤية على المديين المتوسط والبعيد.
تقريب المثقفين من دوائر صنع القرار، وإغراقهم بالأعطيات والعطايا، وإسباغ الكثير من الألقاب البرّاقة عليهم، وتكليفهم بمناصب ومهام ثانوية في مضمونها، و"مفخمة" في شكلها، كانت من بين وسائل وأدوات سياسة "الاحتواء الناعم" للمثقفين، التي ازدهرت وراجت منذ تسعينات القرن الفائت على وجه التحديد، وأنشئت من أجلها عشرات المؤسسات والمراكز الإعلامية والصحفية والبحثية.
ومع استتباب خضوع المنطقة العربية، لما بات يعرف بـ "الحقبة الخليجية"، تجاوزت سياسة "الاحتواء الناعم" الحدود الوطنية/القطرية للدولة العربية الحديثة، إلى النطاق الإقليمي الأعم والأوسع، وساعد دخول كل من العراق وليبيا في حقب ممتدة من الحصار وأنظمة العقوبات، على استفراد ثلاث دول خليجية على نحو خاص (السعودية، الإمارات وقطر)، بسوق الصحافة والإعلام والكتاب والنشر والأبحاث والدراما في العالم العربي، وأصبحت هذه العواصم قادرة على التحكم بحراك المثقفين وتقرير طبيعة نتاجاتهم، وتوظيف قدراتهم على نحو غير مسبوق، ولم يألفه العالم العربي في تاريخه الحديث والقديم.
وأظهرت الدول الثلاث، وعياً مبكراً لأهمية احتواء هذه النخبة من المثقفين العرب، في البدء لتفادي انتقاداتها لأنظمة الحكم فيها (شراء صمتها)، ومن ثم لتسخيرها في معاركها وحروبها مع خصومها على الساحتين العربية والإقليمية، مروراً بمحاولة استمطار "قصائد الثناء والمديح" بمنجزات هذه الأنظمة على الصعيدين الداخلي والخارجي (شراء صوتها).
لقد أتاحت حالة الفوضى التي عمت مناطق عربية واسعة في سياق ما بات يعرف بالربيع العربي، فرصة نادرة لهذه الدول لمد نفوذها إلى النخب الحزبية والسياسية في عدد من البلدان العربية، ووجدنا تيارات سياسية بأكملها، ومن مختلف المدارس، تدين بالولاء لمصادر التمويل، وقد تجلت أبرز إنجازات هذه الدول في أوساط المثقفين السوريين والعراقيين واللبنانيين والليبيين على نحو خاص... وامتد تأثير هذه الدول إلى حركات الإسلام السياسي التي لعبت دوراً متعاظماً في حراكات الشوارع العربية، فرأينا "علماء مسلمين" يتحدون تحت راية هذه الدولة ويتمتعون بملاءتها المالية، ورأينا في المقابل، "علماء ومفكرون مسلمون"، يتلحفون و"بلا حدود"، برايات دول منافسة أخرى، تتوفر بدورها على ملاءات مالية لا تقل وزنا أو أهمية.
وإذ رغبت هذه الدول في توسيع دوائر نفوذها، وتحشيد جيوش من "المثقفين العرب" من حولها، فقد تنبهت وإن متأخرة بعض الشيء، إلى حقيقة أن معظم المثقفين والمبدعين العرب، إنما يتحدرون من مدارس فكرية يسارية وقومية وليبرالية، علمانية بامتياز، فالإسلام السياسي العربي، أنتج أجيالاً من الوعاظ والشيوخ، ولم يفلح في انتاج مثقفين وفنانين وإعلاميين وصحفيين وازنين ... فأنشأت لغرض استقطاب هذه الشريحة التي طالما بادلتها عداءً بعداء، معاهد ومراكز ومؤسسات إعلامية ومواسم ثقافية ومهرجانات فنية وجوائز إعلامية ومسابقات في شتى المجالات، وكل ذلك، بهدف توسيع دائرة "المؤلّفة جيوبهم" في العواصم العربية المختلفة، وبناء نواة صلبة من هذه "القوة الناعمة" التي ثبت بالملموس أنها قادرة على القيام بأدوار مهمة في لعبة صراع المحاور والثورات المضادة التي شهدتها المنطقة في السنوات التسع الماضية.
لقد ترتب على تفشي ظاهرة "الاحتواء الناعم" إقليمياً، إفقار الحركات الشعبية العربية، المطلبية والاحتجاجية، من عقلها المفكر ورأسها المدبر، واستحدثت القطيعة بين المثقفين والجماهير العريضة، وسقطت مقولة أنطونيو غرامشي عن "المثقف العضوي" على مذبح "البترودولار"، وتولى مثقفون عرب من دول غير نفطية، مهمة الرقص على حبال الود بين عواصم بلدانهم المتحالفة مع بعض عواصم الخليج، فصار الانحياز لهذه الدولة الخليجية أو تلك، هو شكل من أشكال الولاء للنظام القائم في بلدانهم، ونشأت في معظم العواصم العربية "لوبيات ضغط" من هؤلاء المثقفين والإعلاميين والفنانين، تتولى بدورها الترويج والمنافحة عن سياسات وممارسات "دولة المنبع ودولة المصب".
وترتب على تفشي هذه الظاهرة كذلك، إلحاق أفدح الضرر بصورة التيار العلماني، وإصابة التيار اليساري على نحو خاص، بإعاقة شبه مزمنة، إذ بات يُنظر إلى رموز هذا التيار وفرسانه، بوصفهم "شعراء القبائل" العربية المتناحرة، الذين انتقلوا من خنادق الشعب والمعارضة إلى بلاط السلاطين والأمراء... وهذا يفسر، من ضمن عوامل أخرى، فشل هذا التيار المتراكم طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
وجاءت الأزمة الخليجية لتكشف عن عمق "الاختراقات" التي سجلتها سياسة "الاحتواء الناعم" في أوساط النخب الثقافية والفكرية والإعلامية في العديد من دول المنطقة ... فمع تفاقم حدة الاستقطاب بين الدول المصطرعة، فضحت الفضائيات ومراكز البحث والمؤتمرات والجوائز، حجم الاستتباع الذي نجحت هذه الدول في تسجيله ... فمن "مهرج" على هذه الفضائية بلقب كاتب ورتبة وزير، إلى "مفكر" يكتفي بإطلالات متباعدة يرسم فيها "بوقار مفرط"، الخيط الفاصل بين الخطأ والصواب، إلى شيخ وداعية، لا يتورع عن زيادة عدد "الخلفاء الراشدين الأربعة"، ليصبحوا خمسة أو ستة أو سبعة إن اقتضت الضرورة... مروراً بمنافح عن حقوق الانسان في بلاده، ومروّج للنهضة والتنوير والإصلاح في ممالك لم تتلمس بعد خطواتها الأولى على هذا المسار.
لقد ضاقت المساحات والفضاءات المتبقية للعقل العربي، النقدي والمستقل، فلكل فضائية أو مركز أو صحيفة "زبائنها"، ولكل عاصمة محظييها الذين تعرف كيف تصنع منهم "نجوماً"، وكيف تفبرك لهم الصفات والألقاب ... ومع تزايد الطلب على هؤلاء، وفي مناخات "تسليع" المثقف و"تصنيعه"، رأينا كيف تكاثر هؤلاء كالنبت الشيطاني، وكيف صاروا قدراً مفروضاً على القارئ والمشاهد والمستمع العربي.
هي صورة قاتمة بعض الشيء، أو إلى حد كبير، بيد أن الخبر الجيد وسط هذا الزحام من الأخبار السيئة، أن الحقبة الخليجية ذاتها، في طريقها للتآكل كلما تناقصت عوائدها النفطية، وأن تأثير دولها ونفوذها الدوليين إلى تراجع وانحدار، سيما بعد "صدمة" اغتيال جمال خاشقجي ويقظة المجتمع الدولي المتأخرة على فصول المأساة اليمنية المنسية، واضمحلال الأدوار الإقليمية لهذه الدول في عدد من أزمات المنطقة المفتوحة (سوريا والعراق)، ومع سقوط الرهان على طي صفحة الربيع العربي، إثر انطلاق موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة في كل من السودان وتونس والمغرب والأردن والعراق ولبنان، والتي تشي جميعها بأن قطار الربيع العربي توقف ولم يتعطل، وإنه بصدد استئناف رحلاته من محطة عربية إلى محطة أخرى.