التضحيةُ بالقضيّةِ مِن أجلِ السلطةِ تُخسِّرنا الاثنين
سجعان قزي
2017-08-22 04:30
ما قُضِيَ على جماعةٍ قبلَ أن تَقضيَ هي على ذاتِها. وما انهزَمت جماعـةٌ أمامَ عدوٍّ قبل أن تَنهزِمَ في ما بينَها. وما كَـبُرت مأساةُ جماعةٍ قبلَ أن يَصـغُــرَ القــيِّـمون عليها. تدخُل الجماعةُ حالةَ الانتحارِ المُـغـفَّـل حين تَتخلّى عن قضـيّـتِـها ومشروعِها وقيمِها ووِحدتِها. وتَفقِد الجماعةُ روحَها وكرامتَها حين تَضعُ طموحاتِ قادتِها قبلَ قضـيّـتِها التاريخـيّـةِ ومصلحةِ أجيالِها. وتتراجعُ الجماعةُ حين تشكّكُ بمبرِّرِ وجودِها ودورِها وأحقـيّـةِ نضالِها، فـتَستُر مقاومتَـها وتَشتهي مقاومةَ غيرِها وقضـيّـتـَه وتَلتحقُ بمشروعِه. وتَشعُر الجماعةُ أنها تائهةٌ في وطنِها حين تَفتقِدُ لِذّةَ الكفاحِ في سبيلِ قضـيّـتِها التاريخـيّـة. وتُحِسّ الجماعةُ أنّـها تافهةٌ، ولو امتلَكت رصيداً حضاريًّـا، حين تَبتعدُ عن الثقافةِ وتقترِبُ من الانحطاطِ الفكريّ. هذه هي عوارضُ سقوطِ الجماعاتِ والإماراتِ والأُمبراطوريّـاتِ عبرَ العصور.
هذه حالُ الجماعةِ المسيحـيّـةِ في لبنانَ اليوم، لاسيما المارونـيّـةُ تحديداً. ومع فارقِ الأحجام، المسيحيّون، اليومَ، يُشبِهون الرومانَ الذين اعتقدوا أنَّ أُمبراطوريَّـتهم سرمديّــةٌ، فسَمحوا لأنفسِهم بالانقلاباتِ والعبَث. وحين بدأت روما تتهاوى تدريجاً ظـنّـوا أنَّ الأمرَ مرحلةٌ عابرة، وأنَّ القُسطنطينيّةَ مَلاذٌ مؤقّـتٌ، ومن أحشاءِ امرأةٍ سيطلَع رومانيٌّ عظيم، أو من المَنفى سيرجِعُ قائدٌ سابقٌ يُعيد مجدَ الأُمبراطوريّـة. لكنَّ استمرارَ المكائدِ بين الطبقةِ الحاكمةِ حطَّم الأملَ وسَقطت أُمبراطوريّـةُ الغرب، فأَرسَل "رومولوس أوغسطس"، آخرُ قياصرةِ روما، سنةَ 476 م. مع عسكريٍّ بربريٍّ شعاراتِ الأُمبراطوريّـةِ ونقوشَ نقودِها إلى زِينون أُمبراطورِ الشرق.
منذ خمسٍ وثلاثينَ سنةً والجماعةُ المارونـيّـةُ تعرِّض وجودَها ودورَها وسلطـتَها وحقوقَها للخطر، وتَروحُ تُطالب باستعادتِها من الآخرين بينما هي التي أضاعَتها وبدَّدتها في خِياراتٍ مغلوطةٍ وتحالفاتٍ مخطِئةٍ وفي حروبٍ انتقامـيّـةٍ. بين هذه الجماعةِ من يراهن، بعدُ، على المستقبلِ استناداً إلى مسارِ التاريخ. لكنَّ هذا المسارَ ليس حالةً مجرَّدةً، بل هو مُحصِّلةُ تطوراتٍ وتحوّلاتٍ جغرافـيّـةٍ وديمغرافـيّـةٍ واقتصاديّــةٍ وعسكريّــة. ومجموعُ هذه العناصرِ يَميل حالـيّـاً ضِدَّ مصلحةِ المسيحـيّين في لبنان ما لم يَـنتفِضوا على ذاتِهم ويُحصِّـنوا قِواهُم ويُـنظّموا قــوّاتِهم ويُــعـبّـِئوا شبابَـهم ويَستعيدوا المبادرةَ ويُـطالبوا بحقِّ تقريرِ المصيرِ في إطارِ الشراكةِ على غرارِ سائرِ الجماعاتِ القَلِقةِ في الشرقِ الأوسط.
أصبحنا أقـلَّ عدداً من الماضي ـــ لِــمَ النُكرانُ؟! ـــ وما نزالُ نتصرّفُ كأنّـنا الغالِبيّةُ. أصبحنا مهدَّدين ـــ لِــمَ المكابرةُ؟! ـــ وما نزال نتحدّى كأنّـنا آمِنون. وأصبحنا في دولةٍ مقسَّمةٍ ـــ لِــمَ الخجَلُ؟! ـــ وما نزال نتصرّفُ كأنّـنا في دولةٍ موَّحَدة. وأصبحنا أصحابَ سلطةٍ وهميّـةٍ ـــ لِــمَ الخِداعُ ــــ وما نزالُ نؤمن بالرئيسِ القويِّ.
حالُ الجماعةِ المسيحـيّـةِ لا تَختلف عن حالِ لبنان، فلبنانُ أيضاً يعيش وضعَ روما في آخرِ أيّــامِها حيث أَجمَع المؤرِّخون على أنَّ سببَ سقوطِها يعود إلى "فسادِ المؤسّساتِ الدستوريّـةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّـةِ والعسكريّـةِ والاجتماعـيّـةِ، وإلى عدمِ كفاءةِ الحكّامِ وسيطرةِ الأقاربِ والحاشيةِ وخُنوعِ القضاءِ وفُقدانِ الرؤيةِ الوطنـيّـةِ وتدهورِ حالةِ السكّان وانخفاضِ عددِهم" (Gibbon Edward في كتابهDecline and Fall of the Roman Empire سنةَ 1776). وشعورُ بعضِ المكــوّناتِ اللبنانـيّـةِ بالقـوّةِ هو الضعفُ بحدِّ ذاتِه لأنَّ كلَّ قـوّةٍ خارجَ الشرعـيّـةِ هي مشروعُ حربٍ عليها وعلى لبنانَ عاجلاً أو آجلاً، فيما لبنانُ هو المشروعُ السلميُّ الوحيدُ الذي نَشأ في الشرق.
لكنَّ حالَ الجماعةِ المسيحـيّـةِ، والمارونـيّـةِ امتيازاً، تَـعنيني لأنَّ وجودَها الكيانيَّ ودورَها السياسيَّ محصوران في لبنان. إنْ سَقطَ سقطَت وإنْ سَقطت سَقط. منذُ خمسٍ وثلاثينَ سنةً تَـفـرَّغنا، نحن المسيحـيّين، للدفاعِ عن هزائمِنا ولتبريرِ إذعانِنا. انتقلنا من شعاراتِ العزّة: "العينُ تقاومُ المخرَز" و"الحقُّ يَهزِمُ القوّة" و"نحن قِدّيسو هذا الشرقِ وشياطيـنُـه" إلى شعاراتِ القُنوعِ: "ليس بالإمكانِ أفضلُ ممّا كان" و"هذا أفضلُ الأسوأ" و"التسوياتُ فنُّ السياسة". هذه شعاراتٌ لا تُشبه تاريخَنا ولا تُشرِّفُ أجدادَنا ولا تَحمي أبناءَنا ولا تَـفي حقَّ شهدائِنا. إنْ كان الصليبُ شعارَنا، فهو ليس قدَرَنا. القيامةُ قدرنُــا.
عمرُ البطريركـيّـةِ المارونـيّـةِ أقدمُ من عمرِ مملكةِ فرنسا: الأولى نَشأت سنةَ 686 بينما الثانيةُ سنةَ 987 لمّا تولّى الحكمَ هوغ كابيه Hugues Capet، فكان أوّلَ ملِكٍ فرنسيٍّ يَتكلّم الفرنسيّة. وهذا يَعني أنَّ الموارنةَ تكلّموا الفرنسيّـةَ قبلَ ملوكِ فرنسا. وبالتالي، لا يملِكُ أيُّ فردٍ أو فريقٍ سياسيٍّ مسيحيٍّ حقَّ التصرّفِ بتراثِ هذا الشعبِ ونضالِه المستمر منذ 1600 سنةٍ. ولا يملِك أحدٌ وَكالــةً لمقايضةِ إنجازاتِ هذا الشعبِ وتخديرِ قضـيّـتِه وتفويتِ لحظةِ تقريرِ مصيرِه مرّةً أخرى.
صحيحٌ أنَّ المارونـيّـةَ السياسيّـةَ عرَفت، بعدَ نشوءِ دولةِ لبنانَ الكبير، إحاديّــةً وثنائـيّـةً وثلاثـيّـةً، لكنَّ القراراتِ المصيريّــةَ كانت تُــتَّخذُ في إطارِ تشاورٍ واسعٍ وخَلَواتٍ طويلةٍ ولقاءاتٍ وطنـيّـةٍ جامِعة، فجَلس قادةُ أحزابِنا ومناطقِنا وكنائسِنا وأركانُ جامعاتِنا وعسكريّون ومؤرِّخون وفلاسِفةٌ وقـرّروا الخِياراتِ التاريخـيّـةَ السياسيّـةَ والعسكريّـة.
أثيرُ هذا الموضوعَ لأنَّ القرارَ المسيحيَّ مصادَرٌ ومعطَّلٌ ومُـغــيَّــبٌ، ولأنَّ هَّمَ السياسيّين أنْ يُحسِّنوا صورتَهم عِوضَ تحسينِ صورةِ الوطن، ولأن التنافسَ بينَهم على المناصبِ غَلَب التمسُّكَ بالثوابت، ولأنَّ القضيّـةَ اللبنانـيّـةَ غائبةٌ عن جدولِ اهتمامِ مرجِعـيّـاتنا وأحزابِنا.
لقد بَنينا لبنانَ بالصمودِ والمقاومةِ على أسُسِ القيمِ الروحـيّـةِ والوطنـيّـة. لم نَحصَل على لبنانَ الكبيرِ هديّــةً، بل تتويجاً لكفاحٍ طويل. ولم نبنِ لبنانَ ضِدَّ أحدٍ إنّما من أجلِ جماعاتِه كلِّها. وخِلافاً لما نعتقدُ، ليس لبنانُ مشروعَ حريّـةٍ فقط، بل مشروعُ وِحدةٍ بين المسيحيّين والمسلمين. كان مُـتاحاً للمسيحيّين أنْ يَنعموا بالحريّـةِ في إطارِ لبنانَ الجَبل مع إخوانِهم الدروز، لكـنّـهم فضَّلوا الحريَّــةَ موازيةً للشَراكةِ.
في لبنان، إن نظرتَ إلى الكنائسِ تفكِّر بالجوامع، وإن تَطلّعتَ إلى الجوامعِ تَـحِنُّ إلى الكنائس. وإن رأيتَ مُسلِماً تستعيدُ الإنجيل ("أَحبِبْ قريبَـك كنفسِك")، وإن شاهدتَ مسيحـيّـاً ذَكرتَ القرآن ("ولَـتَجِدَنَّ أَقــرَبَـهم مَودّةً للّذين آمنوا، الّذين قالوا إنّــا نَصارى"). يبقى أن تَشعُـرَ بالتاريخِ وتَطمئنَّ إلى المستقبلِ إن لمحتَ زعيماً.
إنَّ الخَشيةَ على مصيرِ لبنان يُحتِّم على القادةِ اللبنانـيّـين، وبخاصّـةٍ الموارنةُ، تعليقَ طموحاتِـهم السياسيّـةِ والانتخابـيّـة، والارتفاعَ إلى مستوى التاريخِ لإنقاذِ هذه الأمّـةِ من السقوط. عناصرُ السقوطِ مجتمعةٌ، لكنَّ طاقاتِ الصمودِ متوافِرةٌ أيضاً.