البيانات الضخمة ومخاطرها المستترة
بروجيكت سنديكيت
2016-08-18 09:40
كارلو راتي، ديرك هيلبينغ
كمبريدج ــ في نظرية الألعاب (الاستراتيجية المثلى)، يبين لنا "ثمن الفوضى" كيف يميل الأفراد الذين يعملون لخدمة مصلحتهم الذاتية في إطار نظام أكبر إلى إضعاف كفاءة ذلك النظام الأكبر. وهي ظاهرة واسعة الانتشار، وجميعنا تقريبا نواجهها على نحو منتظم بشكل أو آخر.
على سبيل المثال، إذا كانت مهنتك التخطيط للمدن وكنت مسؤولا عن إدارة المرور، فهناك طريقتان يمكنك من خلالهما معالجة تدفقات المرور في مدينتك. في عموم الأمر، يُعَد النهج المركزي الذي يُدار من أعلى إلى أسفل ــ والذي يستوعب النظام بالكامل، ويحدد نقاط الاختناق ويجري التغييرات اللازمة لإزالتها ــ أكثر كفاءة من مجرد السماح للسائقين باتخاذ اختياراتهم فرادى على الطريق، بناء على افتراض مفاده أن هذه الاختيارات، في مجموعها، سوف تؤدي إلى نتيجة مقبولة. وعلى هذا فإن النهج الأول يعمل على الحد من تكلفة الفوضى ويستغل المعلومات المتاحة على أفضل نحو.
واليوم تغمر العالم أمواج متلاطمة من البيانات. في عام 2015، أنتج البشر قدرا من المعلومات يعادل كل ما أنتِج من معلومات في كل ما سبق من سنوات الحضارة الإنسانية. وفي كل مرة نرسل رسالة، أو نجري مكالمة، أو نبرم صفقة، نترك آثار رقمية. ونحن نقترب بسرعة من إنتاج ما أسماه الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو ببصيرته الثاقبة "ذاكرة العالم": نسخة رقمية كاملة من كوننا المادي.
مع امتداد شبكة الإنترنت إلى عوالم جديدة من الفضاء المادي من خلال "إنترنت الأشياء"، يُصبِح ثمن الفوضى مقياسا حاسما في مجتمعنا، وسوف تتزايد قوة إغراء إزالته بالاستعانة بقوة تحليل البيانات الضخمة.
والأمثلة كثيرة. ولنتأمل هنا الممارسة المألوفة المتمثلة في شراء كتاب عن طريق أمازون على الإنترنت. الواقع أن شركة أمازون تحتفظ بجبل من المعلومات عن كل مستخدميها ــ من أوصافهم العامة إلى تاريخ بحثهم إلى الجمل التي يضعون عليها علامات إبراز في الكتب الإلكترونية ــ والتي تستخدمها للتنبؤ بما قد يرغبون في شرائه في المستقبل. وكما هي الحال في جميع أشكال الذكاء الاصطناعي المركزي، تُستَخدَم الأنماط السابقة للتنبؤ بأنماط المستقبل. وبوسع أمازون أن تنظر إلى آخر عشرة كتب اشتريتهم، فتقترح بقدر متزايد من الدقة الكتاب التالي الذي ربما ترغب في قراءته.
ولكن هنا ينبغي لنا أن نضع في الاعتبار ما قد نخسره عندما نحد من مستوى الفوضى. إن الكتاب الأكثر أهمية الذي ينبغي لك قراءته بعد تلك الكتب العشرة السابقة ليس الكتاب الذي ينسجم بشكل أنيق مع نمط ثابت، بل ذلك الذي يفاجئك أو يدعوك إلى النظر إلى العالم بطريقة مختلفة.
وخلافا لسيناريو تدفق حركة المرور الموصوف أعلاه، فإن الاقتراحات الأمثل ــ التي ترقى غالبا إلى نبوءة ذاتية التحقق لعملية الشراء المقبلة التي تقوم بها ــ قد لا تكون أفضل نموذج لتصفح الكتب على الإنترنت. ومن الممكن أن تعمل البيانات الضخمة على مضاعفة خياراتنا في حين تغربل الأشياء التي لا نريد أن نراها، ولكن هناك من الحجج ما قد يُساق لصالح اكتشاف الكتاب الحادي عشر من خلال المصادفة البحتة.
وما يصدق في حالة شراء الكتب ينطبق أيضا على العديد من الأنظمة الأخرى التي يجري تحويلها رقميا، مثل مدننا ومجتمعاتنا. فالآن تستخدم الأنظمة البلدية المركزية خوارزميات (نُظُم للحلول الحسابية) مصممة لمراقبة البنية الأساسية الحضرية، من إشارات المرور واستخدام أنفاق المترو، إلى التخلص من النفايات وتسليم الطاقة. والواقع أن العديد من رؤساء البلديات والمدن في مختلف أنحاء العالم مفتونون بفكرة غرفة التحكم المركزية، مثل مركز عمليات ريو دي جانيرو الذي صممته شركة آي بي إم، والذي يسمح للقائمين على إدارة المدينة بالاستجابة للمعلومات الجديدة لحظيا.
ولكن مع اقتراب الخوارزميات المركزية من إدارة جوانب المجتمع كافة، تهدد الأنظمة التكنوقراطية التي تعتمد على البيانات بسحق الإبداع والديمقراطية. ولابد من تجنب هذه النتيجة بأي ثمن. إن عملية اتخاذ القرار اللامركزية تشكل أهمية بالغة لإثراء المجتمع. وعلى النقيض من هذا، فإن نزعة توخي الأمثل استنادا على البيانات تستمد الحلول من نموذج محدد سلفا، والذي يستبعد في هيئته الحالية غالبا الأفكار التحويلية أو المعاكِسة للتوقعات البديهية التي تدفع البشرية إلى الأمام.
ويسمح قدر معين من العشوائية في حياتنا بنشوء أفكار أو طرق جديدة في التفكير ما كانت لتصبح متاحة لولا ذلك. وهذا القدر من العشوائية ضروري على المستوى الكلي للحياة ذاتها. فلو استخدمت الطبيعة خوارزميات تنبؤية تحول دون حدوث طفرة عشوائية في استنساخ الحمض النووي، فربما كان كوكبنا ليظل في مرحلة الكائن الوحيد الخلية الأقرب إلى الكمال.
إن لامركزية اتخاذ القرارات من الممكن أن تخلق أشكالا من التآزر والتضافر بين الذكاء البشري والآلي من خلال عمليات التطور المشترك الطبيعي والاصطناعي. وقد يعمل الذكاء الموزع في بعض الأحيان على التقليل من الكفاءة في الأمد القريب، ولكنه يقود في نهاية المطاف إلى مجتمع أكثر إبداعا وتنوعا ومرونة. ومن المؤكد أن ثمن الفوضى يستحق أن ندفعه إن كنا راغبين في الحفاظ على الإبداع من خلال المصادفة البحتة.