الذكاء الاصطناعي تحدٍّ وفرصة
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2025-11-15 04:30
ينحاز بعض الكتّاب إلى موقف يصور التكنولوجيا بوصفها آلات وأدوات مادية صماء، يمكن استعارتها من الآخر من دون أن تمس معتقداتنا وقيمنا وثقافتنا والمعاني التي تنشدها حياتنا، ومن دون أن تحدث تحولًا في رؤيتنا للعالم، أو في منظومتنا القيمية والمجتمعية، لذلك تراهم يوصون باستيراد التقنية، مع التشبث والإصرار على حماية البنية التقليدية الموروثة في إدارة الحياة.
هذا التصور يجافي الفهم العميق لأثر التكنولوجيا، ويكشف تبسيطًا شديدًا للواقع. التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، إنها رؤية للعالم، ونمط من التفكير، ومنظومة قيم، وطور وجودي جديد يتحقق فيه الإنسان، يعيد تشكيل الإدراك الإنساني، ويفرض نمطًا مغايرًا للعيش والمعنى والقيم والعلاقة بالعالم. إنها تعمل على تصدع البنى التقليدية، وتنخر الأسس القديمة للمعرفة والتنظيم، ثم تهشمها لاحقًا.
هذا ما أدركه الفيلسوف مارتن هايدغر حين نبّه إلى أن جوهر التقنية ليس تقنيًا بل ميتافيزيقيًا، فهي لا تكتفي باستخدام الموجودات، بل تحول الكائن إلى مجرد مورد قابل للتوظيف، وتخضع الطبيعة والإنسان لمنطق الاستهلاك والسيطرة، وتسلب الوجود معناه العميق، إذ تختزل العالم إلى مخزون طاقة جاهز للاستغلال.
في هذا السياق لا يمكن التعامل مع التكنولوجيا من خارج شروطها الوجودية، ولا يمكن إدارة الحياة الحديثة بمعايير رؤية ولغة تراثية. العصر الرقمي، بكل ما أفرزته ميتافيزيقا الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات، لا يغير أدوات الإنسان فحسب، بل يعيد تشكيل وجوده نفسه، وينتج نمطًا جديدًا من الوعي، والعلاقة بالذات، والآخر، والعالم.
إعادة بناء العقل شرط لا بد منه لفهم رؤية التكنولوجيا والتكيف معها من دون تضحيات أخلاقية أو خسائر حضارية، وهذا لا يتحقق بخطابات التحذير وحدها، ولا بالأساليب الوعظية، بل بالاستيعاب النقدي للفلسفة، والانفتاح على العلوم والمعارف الإنسانية، التي تمكننا من إعادة تعريف الإنسان في زمن تتضاعف فيه قدرات الآلة، ويتهدد فيه جوهر الإنسان بالتشييء وتبدد مفهوم الإنسان.
لقد بات لزاما علينا ألا نكتفي بتفسير الظواهر التقنية، بل نخوض غمار مساءلة كبرى للوجود، ترى الإنسان بما هو كائن في عطش أبدي إلى المعنى، لا إلى مزيد من الأدوات. ليس التقدم ما نراه في وفرة السلع وتضخم الأسواق، بل ما نلمسه في استعادة سلام الروح، وصيانة الكرامة، وتحرير الإنسان من عبوديته للآلة.
نحن الآن نعيش عصرًا جديدًا هو العصر الرقمي، الذي يتسيد فيه الذكاء الاصطناعي، وهذا الذكاء يحدث تغيرات هائلة في نظم التربية والتعليم، والثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والقيم، والمعتقدات، والدين، والعلاقات الاجتماعية، وبنية العائلة، والمجتمع، والدولة، العلاقات الدولية، والحرب، والسلام.
الذكاء الاصطناعي التوليدي يمثل منعطفًا حاسمًا يعيد إنتاج كل شيء في حياة الإنسان على وفق رهاناته، إنه منعطف لم تشهد البشرية ما يحدث آثاره كيفًا وكمًا في مراحل تاريخها المختلفة حتى اليوم. وتيرة التغيير في هذا العصر، الذي صار قدرًا للعالم، سريعة جدًا، فما كان يستغرق سنوات طويلة، بات يتحقق في أيام معدودة، وربما ساعات. هذا التغيير المتعجل يحدث تحولات كبرى في الاقتصاد، والسياسة، والمعتقدات، والقيم، والثقافات، والعلاقات، والتربية والتعليم، والسياسات المحلية والعلاقات الدولية.
الذكاء الاصطناعي، كما إنه تحد للإنسان، هو أيضًا فرصة عظيمة تعد بأن تجعل حياة الإنسان في المستقبل أيسر، إذا أحسن الإنسان استثماره في حل مشكلاته. التقدم العلمي يخدم الإنسان، غير أنه في الوقت ذاته ينتج مشكلاته الخاصة، إذ كثيرًا ما يفضي الانتقال من نمط ألفه الإنسان إلى نمط جديد لم يألفه إلى عواصف نفسية وعاطفية وروحية وقيمية وعرفية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية مزلزلة، تقذف بالإنسان في متاهة اغتراب موحش، خاصة إذا كانت النقلة نوعية هائلة.
مكاسب الذكاء الاصطناعي هائلة، تحدث منعطفًا نوعيًا كبيرًا في كل حقول حياة الإنسان، فالذكاء الاصطناعي التوليدي يمثل منعطفا تكنولوجيًا وحضاريًا ربما أعظم، من حيث آثاره بعيدة المدى، من اختراع جيمس واط للآلة البخارية، الذي دشن تحولًا جذريًا شمل مختلف مناحي الحياة في عصره وما تلاه. وهذه المكاسب التي تحدث تحولًا عميقًا، تجعل كل تكنولوجيا جديدة من هذا الطراز، تحدث آثارًا متنوعة، عميقة وواسعة النطاق، في بنى الاقتصاد، ومؤسسات المجتمع، وثقافة الأفراد، والقيم والمعتقدات، ونمط الحياة.
بينما تدخل معظم دول العالم اليوم في طور انتقال متسارع إلى عصر الذكاء الاصطناعي، لا نزال نمارس دور المتفرج، نرقب ما يجري من دون أن نكون عضوًا فاعلًا فيه، وهذا الانكفاء ليس مجرد تخلف عن ركب التطور، بل هو تسليم ضمني بمصير تقرره عقول أخرى لنا، تبدع هذا الذكاء وتنتج بنيته العلمية وتطبيقاته. إن لم نوظف الذكاء الاصطناعي التوليدي بمهارة في التنمية الشاملة لوطننا، ولم نتحكم بتوجيه بوصلته، فسوف يتحكم هو بمصيرنا. أما أن نعيد النظر في رؤيتنا للعالم وموقعنا فيه، وندرك أن إدارة الحاضر تستلزم فهم أدوات المستقبل، أو نظل أسرى موقف تاريخي يكرس هشاشتنا، ويعمق اغترابنا عن العصر.
ما دام العلم يواصل عمله على معالجة مشكلات تقدمه، فإنه كلما حقق تقدمًا عبر طفرات نوعية، تعاظمت قدرته على استحداث حلول للأزمات والمشكلات الناجمة عن هذا التقدم نفسه. العلم كما يقدم حلولًا لمشكلات الحياة، فإنه يقدم حلولًا للمشكلات الناتجة عنه. ليس هناك مَن يمتلك قدرة على حل هذه المشكلات مثل العلم الذي أحدثها، والفلسفة التي تجيب عن أسئلة العلم التي لا جواب لها في حقله.
مَن يمتلك الذكاء الاصطناعي التوليدي يمتلك التحكم بمستقبله ومستقبل العالم، الذكاء الاصطناعي قوة مهولة، بقدرات استثنائية لم تعرفها البشرية في تاريخها كله. يمكن أن يستثمر هذا الذكاء في البناء والتنمية الشاملة، وتأمين الاحتياجات المتنوعة للإنسان وإسعاده، كما يمكن أن يوظف في إنتاج أنواع الاسلحة الآلية والكيميائية والبيولوجية الفتاكة في الحروب، وتخريب الطبيعة، وكل ما يتسبب ببؤس الإنسان وشقائه. لا يقي الإنسان من الأخطار المتوقعة من الذكاء الاصطناعي إلا سن القوانين العادلة التي يصوغها علماء الحقوق والقانون، والقيم والأخلاق، ومخترعون وخبراء في هذا الذكاء، والصرامة في تطبيقها على الجميع بعدالة لا تستثني أحدًا، ويقظة القيم وترسيخها.