السوشيال ميديا حين تتحول إلى زعامة أخلاقية وشرطة آداب دولية
شبكة النبأ
2025-10-27 02:41
الحديث عن الجوانب السلبية التي تطبع عالم (السوشيال ميديا) عموما ذو شجون بامتياز لاسيما ما يتعلّق بمسائل الإضرار بسمعة الناس، وبث الشائعات المغرضة، وكذلك التجرؤ على نشر المعلومات المختلفة علمية كانت أو سياسية... الخ من دون تحقق وتدقيق، وما يدفع صناع المحتوى الرقمي عادة هو الهوس بجذب أكبر قدر من التفاعل، وتحقيق أعلى منسوب من الفرجة الرقمية، ومن ثم جني أرباح مادية كبيرة نسبيا تغدقها على هؤلاء بعض المواقع الرائجة مثل (تكتك وانستغرام) وغيرهما، وهو الأمر الصادم الذي يخالف تماما ما كان العمل جاريا بمقتضاه أيّام الصحافة التقليدية (رحمها الله)!
على أننا نريد من هذا الحديث الولوج إلى العالم الرقمي من زاوية أقل ضررا أو أكثر نفعا! وأعني بذلك ظهور جيل من المؤثرين على منصات بعينها ديدنهم الرئيسي هو العمل على تصحيح ما اعوج من مفاهيم على مستوى التجربة والتطبيق بوجه خاص، من ذلك ممارسة ما يمكن تسميته بدور (الرقابة الأخلاقية) على بعض السلوكيات التي تتعارض مع القيم والأعراف الإنسانية السائدة في مختلف أرجاء المعمورة، وبعضها يضرب روح الإنسانية بالصميم كانتقاد مظاهر العري، وسائر ما يندرج تحت بند المحتوى الهابط، ومن لوازمه الأساسية الإساءة إلى الفطرة السوية السليمة للمجتمع البشري بنحو عام، فضلا عن تناول بعض المنصات قضايا الفساد المالي والأخلاقي بطريقة استقصائية محترفة سواء في عالمنا العربي أو خارجه حتى أضحت بعض المنصات ذات التأثير الواسع بمنزلة مؤسسات قانونية تستحق الثناء بجدارة من لدن الملايين خاصة مع تراجع دور الإعلام الرسمي في توجيه الرأي العام، وهي مهمة سامية لا بد منها وتترك فراغا يتوجب عل المجتمع ملؤه بصيغة أو بأخرى.
ومن نافلة القول إن قطاعا كبيرا من الجمهور العام صار يرى في هؤلاء المؤثرين بصرف النظر عن خلفياتهم الفكرية (صوتًا شعبيًا مدويا) لابد من إطلاقه بوجه الفساد والتحلل؛ لأنه يعد برأيهم تمثيلا مقبولا للضمير العام حتى لو جاء بطريقة فوضوية أحيانا...
فالمؤثرون (الرقميون) أصبحوا يمارسون وظيفة شبيهة بشرطة الآداب إلى حدّ ما تنفع في ضبط القيم، وفرض معايير الصواب والخطأ بطرقهم الخاصة التي تتضمن (رمزيا) سلطة الطرد أو النبذ والفضح، ويمكن أن تتحول هذه السلطة الرمزية في أي لحظة إلى سلطة واقعية، وذلك حين تُترجم إلى ضغط اجتماعي أو اقتصادي ضد الأفراد أو المؤسسات المستهدفة...
وبلغة أقرب إلى الجزمية منها إلى الحدس والتخمين نستطيع القول إن التوزيع الكلاسيكي للسلطة الأخلاقية تبدل إلى بنية جديدة قائمة على اللامركزية، والمشاركة الجماعية في إصدار الأحكام المختلفة، وقد رضي قطاع كبير من الجمهور بفكرة صيرورة الضبط الأخلاقي من نظام رسمي ذي طابع مؤسسي إلى "نظام جماعي تفاعلي...
ومن هنا لم يعد الناس بمعظمهم يطالبون بسلطة رسمية لتأديب المنحرفين، وذلك لتوفر البديل الجاهز والسريع وقوامه الإجراء الفوري والعقاب الذي يتنوع من تشهير إلى سخرية ومقاطعة، وفضح أمام الملأ مما انتج رقابة أفقية تتمثل في مراقبة الأفراد بعضهم بعضًا!
وشيئا فشيئا تحوّلت مساحة الحرية الرقمية أو جزء منها إلى محاكم أخلاقية واجتماعية وسياسية...الخ يتربع عليها أحيانا -للأسف الشديد- من يوظفون الأخلاق (كرأسمال) لجلب المتابعين، وتحقيق المكاسب الشخصية عبر المتاجرة بالفضائح بوصفها سلعا متاحة مجانا أو تكاد، وبتعبير عالم النفس (بورديو) فإن الأخلاق تحوّلت إلى أداة للهيمنة الرمزية، لا مجرد تعبير عن القيم، هذه القيم التي تغدو محتوى (ترفيهيا) غرضه الأسمى هو السعي لبلوغ درجة (ترند)، ليصير صاحبها مع مرور الوقت و(الاستهلاك) زعيما أخلاقيا بغير وجه حق يطيح وأمثاله بوجود المؤسسات التقليدية كالقانون العادل والإعلام المهني في كل لحظة! وهو ما يتناسب مع الفكر الفلسفي الغربي الشائع في عصرنا الحاضر هذا.
وحجر الزاوية فيه كما هو معلوم الحسّ الفرداني والإزراء بقيم الجماعة البشرية التي تعارفت عليها الإنسانية منذ قرون متطاولة، هذه القيم التي ارتكزت -وهذا أهم ما في الموضوع- على معايير طبيعية يستشعر سويتها، وصحتها، وضرورتها العالم المتمدن بإسره، وليس على أسس هلامية هشة يمكن أن تتبدل بأي لحظة من النقيض إلى النقيض، ومن دون أن تواجه بفكر نقدي رادع يعيدها إلى الرشد والصواب المستند إلى الثبات والصدقية وإلى -درجة معتد بها- من قوة التعميم...