النرجسية الرقمية: الذات في عصر اقتصاد الانتباه

أوس ستار الغانمي

2025-09-09 04:56

في عالمٍ تُحكم سيطرته بالصور المثالية والحياة المُعدّلة رقميًا، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مرآةً تعكس هوسًا متزايدًا بالذات، تحوّل معه الفرد من كائن اجتماعي إلى مُنتجٍ لصورةٍ افتراضية تسعى بلا كلل لإرضاء الجمهور. فكيف ساهمت هذه المنصات في تعميق هذه الظاهرة، وهل نحن أمام جيلٍ جديدٍ من "النرجسيين الرقميين"؟

الذات كسلعة: اقتصاد الانتباه والقياس الرقمي

لم تعد الذات ملكًا خاصًا لصاحبها، بل تحوّلت إلى سلعةٍ في سوق الاهتمام الرقمي، حيث تُقاس القيمة بعدد الإعجابات والمشاركات والمتابعين. أضافت المنصات بُعدًا جديدًا لفكرة "الوجود"؛ فأنت لا تكون ذا أهمية إلا إذا حظيتَ بموافقة الجمهور الافتراضي. هذه الديناميكية حوّلت التفاعل اليومي إلى سباق محموم لجذب الانتباه، حيث يتحول الفرد إلى مدير تسويق لصورته الشخصية، يُنفق الوقت والجهد لصياغة قصصٍ تليق بالجمهور، حتى لو تعارضت مع حقيقته.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022، فإن 68% من الشباب يعترفون بتعديل صورهم قبل نشرها، بينما يرتبط تلقّي الإعجابات بزيادة إفراز الدوبامين في الدماغ، مما يخلق إدمانًا نفسيًا على الموافقة الخارجية. هنا، يتحوّل الـ"أنا" من كيانٍ متكامل إلى صورةٍ مسطحةٍ تُقاس بأرقامٍ عابرة.

المقارنة السامة: عندما تصبح حياة الآخرين مقياسًا لنجاحك

إذا كانت المقارنة سمة بشرية قديمة، فإن المنصات حوّلتها إلى كابوس يومي. فالباحثون في جامعة كاليفورنيا لاحظوا أن قضاء 30 دقيقة يوميًا على إنستغرام يزيد مشاعر الدونية بنسبة 40%، خاصة عند مشاهدة حياة الآخرين المثالية. المشكلة أن هذه "المثالية" غالبًا ما تكون مُزيّفة، لكن العقل البشري يصدّقها ويجعلها مرجعًا. النتيجة؟ سعيٌ مستمر لتحقيق الكمال الوهمي، وانهزامٌ داخلي عندما تتعثر المحاولات.

الثقافة النرجسية: بين التأثير والتأثّر

لا تُنتج المنصات مستخدمين فحسب، بل تخلق "مؤثرين" يصنعون معايير جديدة للجمال والنجاح. هؤلاء ليسوا مجرد أشخاص عاديين، بل أصبحوا رموزًا تُقدّس الذات الفردية، وتُروّج لفكرة أن الحياة الاستثنائية هي الهدف الأسمى. دراسة نُشرت في مجلة "علم النفس الاجتماعي" عام 2023 أشارت إلى أن متابعة المؤثرين تزيد نزعات النرجسية بنسبة 25% بين المراهقين، حيث يتبنّون فلسفة "كن مركز الكون" كطريقٍ للنجاح.

لكن المفارقة أن المؤثرين أنفسهم ضحايا لهذا النظام؛ فالكثير منهم يعانون من القلق والاكتئاب نتيجة الضغط المستمر للحفاظ على الصورة المثالية، مما يؤكد أن الهوس بالذات حلقة مفرغة تُدمّر الجميع.

الخوارزميات: محرّكات تعزيز الأنانية

ليست المنصات بريئة في هذه اللعبة؛ فخوارزمياتها مصممة لتعزيز المحتوى الجذاب والمثير، حتى لو كان سطحيًا أو مبالغًا فيه. كلما نشرتَ صورًا شخصية أو تفاخرت بإنجازاتك، زادت احتمالية ظهورك للمتابعين، مما يخلق بيئة تشجع على التمركز حول الذات. هذه الآلية لا تُغذي النرجسية فحسب، بل تُضعف القيم الجماعية، حيث يتراجع الاهتمام بالقضايا المجتمعية لصالح الحديث عن التفاصيل التافهة في الحياة الفردية.

ما الحل؟ نحو وعي رقمي متوازن

ربما يكون الاتجاه العالمي الجديد نحو "الرقمنة العكسية" بداية الحل؛ حيث يبدأ المستخدمون في تقليل الاعتماد على المنصات، أو اعتماد حساباتٍ خاصة تسمح لهم بالعودة إلى الحياة الواقعية. لكن الحل الأعمق يتطلب إعادة تعريف قيم النجاح والسعادة، وفهم أن الذات الحقيقية ليست تلك التي تُعرض على الشاشات، بل التي تعيش في اللحظات غير المثالية. كما أن على المنصات تحمل مسؤوليتها الأخلاقية بتعديل الخوارزميات لدعم المحتوى الجماعي الإيجابي بدلًا من تعزيز الفردية المفرطة.

في النهاية، ليست المشكلة في المنصات ذاتها، بل في كيفية استخدامنا لها. فبقدر ما يمكنها أن تكون أدوات للتواصل الحقيقي، فإن تحويلها إلى مسرحٍ لعبادة الذات سيبقي البشر أسرى صورهم، بعيدًا عن عمقهم الإنساني.

ذات صلة

قوى محركة داخل الانسان تدفعه للمجهولالموازنة الفعلية في العراق بين المنهاج الوزاري والارقام الماليةفي صناعة مفهوم ثقافة الانتخابصعود الاستبداد التشريعيحذار من نداءات واشنطن المغرية