فلسفة التاريخ: مقاربة لمباحث محكمة التاريخ
الدراسات التاريخية وجدلية البناء الحضاري (12)
موقع الامام الشيرازي
2017-02-04 06:50
د. هيثم الحلي الحسيني
يتبين من استقراء مخرجات البحث في مادة فلسفة التاريخ، ومن خلال مقاربة الكتاب موضوع الدراسة، إنها تتأسس وتتأصل ضمن مفهوم "محكمة التاريخ"، والذي وسم بها الفصل السادس من الكتاب، إذ أن قوانين فلسفة التاريخ، والتي يعبر عنها المجدد بروح التاريخ، لا تختزل بآليات لتفسير وتبيان وقائع التاريخ وأحداثه، بغرض دراستها الجامدة، أو البحث فيها بترف منهجي وحسب، لكنها وأسوة بمواد القوانين المدنية أو الإجرائية أو أصولها، والتي يفترض نفاذها، بتجرد وموضوعية وعدل ونزاهة، يراد بها محاكمة الأفعال المختلفة ومرتكبيها، وتبيان المسيء فيها من البريء، أو بيان فعل الخير وفاعله عن سواه.
فكذلك قوانين فلسفة التاريخ، التي تصلح بمساحة واسعة، لمحاكمة التاريخ، إن في وقائعه وحوادثه وشخوصه، وبالتالي تقييمها وتصنيفها، لتكون مادة لقراءة الحاضر، ومن ثم لاستقراء المستقبل، ضمن شهادة التاريخ، والحكم الموضوعي المتجرد لجزئياته، وصولاً الى الحكم على كليّاته، وهو المقصد العلمي المحوري، من حقل الدراسات المستقبلية، وكذلك السلوكية والتربوية والمجتمعية، فضلاً عن كونها مادة علمية خام، تصلح لاسقاطاتها في مجال دراسات "الأناسة"، أو ما يطلق عليها بعلم الإنسان "الأنثروبولوجي".
ولقد تبين من مقاربة عوامل فلسفة التاريخ، أن هذه المحكمة، يشترط فيها التعاطي الإيجابي مع سائر تلك العوامل، لتكون موضوعية ومتجردة، وغير متأثرة بعاطفة أو هوى، أو متبنيات عقدية أو فكرية، بل ضمن منهج علمي قويم ورصين، يضمن التثبت من جميع تلك العوامل، لتكون الأحكام عادلة ونزيهة.
وعليه فإن هذه الحلقة من الدراسة، والتي تزعم أن مخرجات البحث في الكتاب ومادته، تشتمل على مباحث "محكمة التاريخ"، ستنصرف الى مقاربة هذا الموضوع، والمنهج الذي سلكه الباحث المجدد، في توجيه مخرجاته البحثية، لمقاضاة وقائع التاريخ، ليكون شاهداً على الحاضر، ومستشرفاً متنبئاً للمستقبل، بأمانة وتجرد وموضوعية، وفق مباني الأنسنة والمهنيات السلوكية في البحث العلمي، التي ثبت أسبقيتها على اشتراطات البحث العلمي، لأسباب تأثيراتها في سلوك الفرد والمجتمع والسلم الأهلي.
منهج البحث في محكمة التاريخ
تأسيساً على كونه ضمن مخرجات البحث، يمكن اعتبار الفصل السادس موضوع الدراسة، الموسوم "محكمة التاريخ"، بمثابة مبحث سلوكي وتربوي، يخرج فيه الباحث ثقل المنهج التاريخي، وعبئ قوانين فلسفة التاريخ، ليلقي أثقاله في السلوك الإنساني، كونه الغاية النهائية للعلم والبحث، وذلك من خلال ثنائيات الخير والشر، والإحسان والإساءة، ليثبت أن الإنسان مختاراً في عمله وسلوكه، بين مفرداتها.
إن هذا المبنى في الوعظ السلوكي التربوي، قد فصّله الباحث المجدد، في مؤلفه الموسوم "التفسير الموضوعي"، بمعنى أنه مستمد من النص القرآني، وفق دلالاته واستبصاراته، ضمن عنوان "الإنسان يتحمل تبعات أعماله"، سواء في الإساءة أو الإحسان، وهي المسؤولية التاريخية، التي تلقى على عاتق الفرد، ثم توسعاً الى المجتمع والجماعة، وصولاً الى وحدة بناء الحضارة، ضمن أدبيات فلسفة التاريخ.
لقد خلصت هذه المباحث، الى التأكيد على وثاقة العلاقة، بين حكم التاريخ وفلسفة التاريخ، فهي دعوة للتأكيد على حتمية أن يضطلع المؤرخ بدور "القاضي"، على الواقعة التاريخية وحوادثها، والشخوص المرتبطة فيها، وعليه لا يجوز أن تسوّق الأفكار، التي تدعو الى أن تسقط هذا الحق من مهام التاريخ، والتي قد يعبّر عنها بالحماسة التاريخية لدى المؤرخ، وبدعوى أن الحكم فيها في ذمة التاريخ، والحال أن حكم التاريخ كائن حي لا يموت، وهو شاهد حي في الحاضر وفي المستقبل، لا تسقط دعاويه بالتقادم وإن بعدت.
ويستدل الى ذلك، أن الباحث قد ختم هذا الفصل، بمادة عنوانها "شهادة على التاريخ"، لتكون مساحة لتبيان بعض الرؤى الفلسفية، المتعلقة بنظريات التطور التاريخي، فضلاً عن المقارنة بين النظم الاقتصادية المختلفة، وذلك لتشكيل آليات لاستنباط الحكم التاريخي، بصدد الوقائع التاريخية وشخوصها.
مفردات "حكم التاريخ" وحيثياته
يخلص الباحث في عنوان "حكم التاريخ"، الى مسألة "ان لحكم التاريخ علاقة وطيدة مع فلسفة التاريخ"، حيث أن حكم التاريخ نابع من فلسفة التاريخ، بصفتها تعبّر عن "القضاء"، الذي يحكم على وقائع التاريخ وشخوصه، فهذه الفلسفة أمر واقعي لحكم التاريخ، المشتق عنها، والتي تحكم عليه بالصحة أو الفساد، أو بالتقدم أو بالتأخر، وهو حال دور القضاة، لكنه ضمن مساحة التاريخ، ويفسر الباحث هذه الجزئية، بأن في الأصول هنالك رؤية وحكماً، فلا دليل على وجود أحدهما دون الآخر، وهو محل الجدال بين العقلاء.
وفي عنوان "الأحكام التاريخية في محكمة التاريخ"، يخلص الباحث أن تاريخ العالم، هو محكمة العالم، فحينما يحكم المؤرخ على سلوك الشخصيات، نتيجة استثارة هذا السلوك، للنزعة التقييميّة للإنسان بوجه عام، وللمؤرخ بوجه خاص، يكون هذا من حكم التاريخ، إذ يكون "الضمير فيها منطقة حرة للإنسان"، فهو ضابط لنزعاته وتوجهاته.
مناقشة وظيفة التاريخ
ولغرض مناقشة "وظيفة التاريخ"، وهل هي ضمن الدراسات التاريخية، يتبين أن هذه الدراسات، دون تحليل لأسباب وتقييم لمواقف، بموضوعية وتجرد، يسكون مجرد سرد قصصي وحكاياتي، مما يؤكد أن وظيفة الدراسة التاريخية، هي الحكم والقضاء التاريخي، دون النظر أنهم باتوا ينتمون الى الماضي، لأنهم تحولوا بالعلّة الى موضوع دراسة التاريخ، الذي سيقضي في أفعالهم، وكذا دوافعها.
وهذا يفسر رؤية الباحث المجدد الى محكمة التاريخ، في تقاطعه مع الداعين الى معارضة قضاء التاريخ، بدعوى ضرورات التجرد في الدراسة التاريخية، فهو ينكر التأثير العاطفي على حكم التاريخ، لأنه سيتلاشى بتقادم الزمن، ويخلص أن السكوت عن الأفعال المشينة، هو جريمة وتشجيع للجريمة، وهي تنجرد ضمن المسؤولية التاريخية للباحث في التاريخ.
وعليه فإن الأثر الإيجابي لتضمين الحكم في دراسة التاريخ، يؤدي الى عدم تكرار النتائج السيئة، نتيجة كشف نماذجهم، وإظهار مثالبهم، خاصة لجهة عدم تكرار ظهور الحكام ورجال السلطة والدولة والقرار، من أمثالهم.
الفصل بين السلوك الشخصي والسلوك الوظيفي
يتقاطع الباحث في عنوان "التاريخ بين الرحمة واللارحمة"، مع مبنى إنّ الإنسان الحاكم، ربما يكون على درجة من الاستقامة في حياته الخاصة، بينما ينطوي أداؤه، على درجة كبيرة من الفساد والإفساد، فتلك ازدواجية مرفوضة، وهي تفقد حجيتها المنطقية، فالإنسان في أدائه الوظيفي، إنما يعكس حقيقة سلوكه الشخصي، وليس ما يسوقه للآخرين، وعليه فإن موقف الباحث المجدد، يؤكد على أن محكمة التاريخ، معنية بإصدار الأحكام الأخلاقية والدينية، على حد سواء، وهي غير معفاة من هذه المهمة التاريخية.
وتفسير ذلك، أن الحكم التاريخي، ولهدف أن يكون القضاء فيه نزيهاً وموضوعياً، يتوجب الفصل بين السلوك الشخصي والسلوك الوظيفي، في حياة الزعماء والقادة، من الحكام وأصحاب القرار وصنّاعه، إذ أن الأثر الباقي في المجتمع، هو ما يتصل بأدائهم الوظيفي، وليس بسلوكهم الشخصي، والذي وإن كان سليماً، فهو إنما يكون بدواعي تأنيب الضمير أو لتجميل الصورة أمام المجتمع، وعليه ينظر في الحكم التاريخي، الى السلوك الوظيفي، المتصل بمعاملة الناس، بالعدل والنزاهة والحق، وإشاعة القيم الفاضلة.
اشتراط الأدلة الحجيّة في حكم التاريخ
إن مصداق هذه الرؤية لحكم التاريخ، تتبين في عنوان "الشهادة على التاريخ"، والذي يبين في مسألته، أن ليس من الصحيح الاستناد الى تاريخ لم يقم عليه دليل، كما إذا اشتهر حسب الظنون والخيالات والتصورات، لأن ما لم يثق الإنسان به، لم يكن تصوراً يغني عن الدليل.
وفي المثال لذلك، يسوق الباحث نظرية "ماركس"، بتفصيل وتحليل، بيّن فيه أن هذه النظرية، "قد جمعت أفكارها من أدلّة، لا تصلح حتى بصفتها استحسانات، بل أوهاماً، لا تمثل دراسة موضوعية عقلية برهانية للنظرة الإجتماعية، في تطورها خلال عصور التاريخ"، من أجل التعرف على أسباب قيام الأنظمة وعوامل انحلالها.
إذ يرى الباحث، أن النظرية قد دارت حول تحليل رأس المال في الحاضر، والتنبؤ بالشيوعية في المستقبل، أما بالنسبة الى الماضي، فهي تفتقر الى المنطق والدليل البرهاني، ضمن أوهام التطور التاريخي، من مرحلة المجتمع البدائي، الى مرحلة الزراعة ثم مرحلة الرق، فالمجتمع الإقطاعي، ثم المجتمع الصناعي، الذي ولد النظام الرأسمالي.
حيث تنبأت النظرية، تحول الرأسمالية الى ديكتاتورية "البروليتاريا" الشغيلة، وصولاً الى المجتمع الشيوعي، ضمن فلسفة مادية، تخالف العقل والاستدلال والمنطق، وهو ما جعل الباحث المجدد، يتنبأ بسقوط هذه النظرية، التي اعتمدت الى تفسيرات الحاضر والتنبؤات بالمستقبل، دون أن تنظر الى عامل التاريخ وروحه، وقوانين فلسفته.
الدراسة المقارنة لنظم الاقتصاد في محكمة التاريخ
وبالمقابل فإن محكمة التاريخ، يجب أن تصدر أحكامها بنظرة شمولية، ولذا فقد ساق الباحث مقومات النظام الرأسمالي ومعطياته، في مقارنته بالنظام الشيوعي، حيث خلص الى أن "النظام الرأسمالي، لا يحترم الفرد، وسائر طبقات المجتمع، ولا يجعل القوى المادية الخارجية في خدمة الإنسان، ويحرم العامل حقوقه من قيمة عمله، أو ما يعبر عنه بفائض القيمة، الذي يشكل الربح لصاحب العمل".
أما قيمة العمل في النظام الإسلامي، والتي بينها الباحث المجدد في أدبياته الاقتصادية، فتتمثل في العمل الجسدي، والعمل الفكري، والمواد "أو الموارد"، والعلاقات الاجتماعية، وشروط الزمان والمكان، وبذا يثاب العامل بكامل قيمة عمله، لأن القيمة العملية لكل سلعة، تعادل كمية العمل المتحقق فيها، والعامل هو المصدر المهم لهذه القيمة.
خلاصة مخرجات البحث في فلسفة التاريخ
يؤكد الباحث أن هذه الدراسة المقارنة، بين المنظومتين الشيوعية والرأسمالية، ثم مقارنتهما بالمنظومة الإسلامية، التي تقدم الحل الناجع بينهما، ليست بحثاً في السياسة أو الاقتصاد أو الإيديولوجيا، وإنما "لبيان فلسفة التاريخ، وإن اتخاذ القوانين الفلسفية المغلوطة منها، ينتهي الى العمل المنحرف، وبفلسفة منحرفة، فتكون النتائج كارثية، كما في الشيوعية، أو أقل انحرافاً، كما في الرأسمالية، فتكون النتيجة مشكلة معقدة".
ويخلص الباحث في نهاية هذا المبحث الحيوي، الى مخرجات بحثية رصينة، خلاصتها أن دراسة فلسفة التاريخ، والروح العامة فيه، تشترط عدم وجود الإنحراف الذهني والفكري، في اتخاذ تلك الفلسفة، أو اعتماد قوانينها، واستكشاف الروح فيها، وإلّا فإن الإنحراف القليل في بداية الخط، سينتهي الى انحراف كبير في نهاياته، بالإطراد في السير.
وحدة الاشتراك في الحضارات
يختم الباحث المجدد كتابه في "فلسفة التاريخ"، في فصله السابع الموسوم بعنوان "وحدة الاشتراك في الحضارات"، وهو فصل تطبيقي، يقدم نماذج عملية، لتسند الجوانب النظرية في متن الكتاب، وكان يمكن أن يكون ملحقاً بفصوله، ولكن وربما لدواعِ شكلية، ألحق ضمن فصل مستقل، ويجمل مادته في مسألة "أن الحضارات وعلى اختلافها، لها روح واحدة وروح عامة، هي فلسفة التاريخ".
وترى هذه الدراسة، أن تلك النماذج الحضارية المختلفة، إنما هي إسقاطات تطبيقية، لنظرية "التحدي والاستجابة"، التي أطلقها ونظر اليها، المفكر المؤرخ "توينبي"، بما تمثله من الأساس الفكري لفلسفة التاريخ، والتي استندت مبانيها، الى نظريات "بن خلدون"، في البحث التاريخي.
وعليه تجد الدراسة حاجة مستقبلية معرفية، لاستكمال حلقاتها في مادة "فلسفة التاريخ"، بشكل "حاشية" على متن الكتاب، موضوع الدراسة، لعرض ومناقشة الأسس والمرجعيات الفكرية لهذه النظريات، التي تمثل "القوانين" الكلّية لفلسفة التاريخ، لتكون داعماً معرفياً، لمادة "وحدة الاشتراك في الحضارات"، والفصول التأصيلية في الكتاب، ثم تضمّن الدراسة، بحلقات في مناهج البحث التاريخي، والتنبؤ في الدراسات المستقبلية، ضمن نماذج من تراث الباحث المجدد.