إتقان العمل: شرط لبناء الدولة المتقدمة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2025-09-29 04:45
(لقد اشتغلت حكوماتنا بالمصالح الفردية والشهوات، وتخلت عن العلم والعمل)
العلماء والمفكرون الحقيقيون ينشغلون في الكيفية التي تنقل أممهم وشعوبهم ودولهم إلى مصاف الأمم والدول المتقدمة، لذلك لا يتردد العالِم والمفكر الحقيقي من قضاء سنوات عمره كلها للمساعدة في تحقيق هذا الهدف، ونحن قرأنا أو سمعنا إلى قصص وحكايات مكتوبة أو مسموعة عن علماء ومفكرين أفنوا أعمارهم من أجل أن تتقدم دولهم وشعوبهم.
ولهذا غالبا ما يخططون ويُبحرون في مراكب العلم، ويسبرون أغوار التجارب الناجحة في نقل الأمم من حال إلى حال، ودفع الأمم إلى أمام، كي يفهموا ويدققوا في حيثيات وتفاصيل تلك التجارب، للاستفادة منها في صياغة الشروط الموضوعية الواقعية التي تساعد الدولة والشعب كي ينتقل من دائرة التخلف المغلقة إلى فضاء التقدم الحرّ.
لذلك يدعو العلماء والمفكرون الإيجابيون إلى إتقان العمل، بعد ضبط الإيقاع العلمي لشعوبهم، ومن ثم الاندفاع في السبل العلمية والعملية المتقنة التي تسهم في نقلهم من التخلف إلى التقدم، ويبذل العلماء في هذا المجال جهودا كبيرة ومضنية، لا يهمهم الإجهاد ولا الإعياء ولا التعب، لأنهم وضعوا الأهداف المهمة التي تحتاجها دولهم وشعوبهم نصب أعينهم، وأول واهم هذه الأهداف أن تنتقل دولهم من خانة التخلف إلى المساحات الواسعة للتقدم، كما أنهم عرفوا بأن الإسلام يدفع الأمة نحو التقدم من خلال جودة العمل، والتركيز الشديد على إتقانه.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد على هذه الإجراءات وأهميتها، وذلك في كتابه القيّم الموسوم بـ (طريق التقدم) حيث يقول:
(بعد أن ثبت بأن العمل والإكثار منه، أصبح عاملا من عوامل التقدم والرقي، نلاحظ بأن الإسلام يؤكّد على جودة العمل وإتقانه، وعلى الدقة فيه وإحكامه، فالتأكيد الإسلامي يشمل الجانبين الكمّي والكيفي معاً).
ولكن هل طبّق المسلمون هذه الشروط، (شروط التقدم والتخلص من التخلف)، وهل عملوا بها كي يصلوا إلى ما وصلت إليه الدول والأمم المتقدمة، بالطبع كما يذكر التاريخ وتؤيده أدلة الواقع، لم يعمل المسلمون بشروط التقدم، لاسيما الحكومات التي انشغلت بمصالحها الشخصية (مصالح الوزراء ورئيسهم)، وكذلك اهتمامهم بتلبية شهواتهم أكثر من تلبية واجبات التقدم لدولهم ومجتمعاتهم.
مخاطر عدم الالتزام بإتقان العمل
ونتيجة لذا الانشغال لم يعبأوا ولم يهتموا بالعلم، وبالمحصلة الطبيعية أدى ذلك إلى عدم اهتمامهم بالعمل، ولهذا لم يلتزموا بأهمية إتقان العمل، لأنهم أساسا لم يحترموا العمل، فكانت النتيجة الطبيعية هي البقاء في دائرة التخلف والتراجع إلى الوراء بينما الأمم والدول الأخرى تتبارى مع بعضها لكي تحتل صدارة التقدم والتطور.
يقول الإمام الشيرازي:
(أما البلاد الإسلامية فقد تأخرت لأن الأمة والحكومة قد انشغلت بالمصالح الذاتية والشهوات، وتخلت عن العلم والعمل).
ومن بين الدول الإسلامية التي تراجعت إلى الوراء تلك التي يبلغ عدد نفوسها أكثر من مئة مليون، ومع توفّر هذا العدد الضخم من الطاقات البشرية، إلا أن التخلف كان يهمين على دولة المائة مليون نسمة، بينما لو استثمرت الحكومة هذا العدد الهائل من البشر، لكانت هذه الدولة من أوائل الدول المتقدمة، لكن خذلان الحكومات لدولها وشعوبها، وعدم احترام العمل واتقانه، أدى إلى بقاء الدول التي لا تحب العمل في الدائرة المغلقة للتخلف.
ويذكر لنا التاريخ ما نتج عن الحرب العالمية الثانية من دمار كبير لدول إسلامية وغير إسلامية، فنرى أن تلك الدول الإسلامية لم تحقق تقدما ملموسا مثل دول أخرى غير إسلامية (كألمانيا واليابان)، هاتان الدولتان خرجتا من الحرب العالمية الثانية بدمار كامل، لكنها بعد عقود كسرت طوق التخلف وتحررت من قيده، ودخلت بقوة إلى فضاء التقدم الكبير، فأصبحت بذلك من الدول التي تحتل صدارة قائمة التقدم في العالم.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(نلاحظ أن بلداً إسلامياً كبيراً قد يصل عدد نفوسه إلى أكثر من مائة مليون نسمة، وكذلك بلدان إسلامية أخرى خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة وبقيت هكذا متأخرة، بينما خرجت ألمانيا واليابان وهما بحالة دمار شامل وإفلاس كامل، ولكن تقدمتا وتطورتا كثيرا).
في حين فشلت البلاد الإسلامية في نفض غبار الحرب عن جسدها، فبقيت تعاني من نتائج الحرب عقودا متتالية، لأنها أساسا لم تفكر بمعالجة النتائج الكبيرة والمؤلمة للحرب، لذلك ظلت تراوح في أماكنها، على العكس من الدول الأخرى التي رفضت البقاء تحت هيمنة التخلف.
لذا ظلت هذه الدول تدور في أمكنة التخلف، ولم تستطع الإفلات من قبضته، مع أنها تمتلك جميع مقومات الانتقال إلى حيّز التقدم الواسع، حتى أطلِق عليه مطلح (دول العالم الثالث)، لأنها سخرت من العمل، ومن العلم أيضا، ولم تتخذ منهما سبيلا إلأى الحرية العلمية العملية التي تنقذهم من سطوة التخلف القاتلة.
كمال قال الإمام الشيرازي:
(بينما لم تتقدم البلاد الإسلامية تقدماً واضحا وملموساً، ولم تغسل عن نفسها دمار وغبار الحرب غسلاً كاملاً، بل بقيت إلى يومناً هذا تعدّ من الدول المتخلفة، ومن بلدان العالم الثالث).
متى نبلغ صدارة الدول المتقدمة؟
بالطبع عندما يتكلم الإمام الشيرازي بهذا الوضوح العالي، إنما يريد أن يضع اصبعه على الجرح الذي يعاني منه المسلمون، وأن يكشف عنهم الغطاء الذي حجب عنهم حقيقة الأمم التي بلغت التقدم، وخرجت من دمار وخراب الحرب، إلى تجربة بناء فريدة من نوعية على الأصعدة كلها.
لهذا فإن طرح مشكلة التخلف التي واجهت الدول الإسلامية، تم طرحها بهذا الوضوح، في محاولة جادة وحقيقية لنقد الذات، وإزالة الغشاوة من على عيون وبصائر القادة، وحتى عن الشعوب نفسها، فمن يريد أن يتقدم عليه أن يتمسك بالعلم، ويحول ذلك إلى تجارب عملية فاعلة ومرموقة، وعلى الناس أن يؤمنوا بأن العمل وإتقانه سبيلهم نحو التطور والتقدم.
كما يؤكد الإمام الشيرازي ذلك في قوله:
(نحن لا نريد الحط من شأن البلاد الإسلامية؛ وإنما نشير إلى ذلك من باب نقد الذات في طريق البناء والتقدم).
ويختم الإمام الشيرازي ملاحظاته حول العمل والعلم والتقدم والتخلف بتساؤل مهم وأساسي غايته وضع النقاط على الحروف، وتوضيح ما يخفى على الناس، وهذا التساؤل يبحث عن السبب الذي يقف وراء التأخر والتخلف الذي أصاب الدول والمجتمعات الإسلامية.
فهل السبب يعود إلى العمال وتقاعسهم وعدم حبهم للعمل وإتقانه، أم هناك جهات أخرى هي السبب في ذلك؟، وهذه الجهات مجموعة القادة الذين لم يقوموا بدورهم كما يجب في إتقاذ شعوبهم ومجتمعاتهم من سطوة التخلف، لاسيما أن أولئك الحكام كانوا عملاء لدول أخرى أكبر وأقوى، بالإضافة إلى أن البشر أنفسهم لم يستجيبوا للإسلام ولم يعملوا بالنصائح التي قدمها لهم، والتي كانت رصيدهم الأكبر في تحقيق التقدم لو أنهم لم يعرِضوا عنها.
يقول الإمام الشيرازي:
(نتساءل لماذا هذا التأخر والتخلف، هل السبب لأن العمال في البلاد الإسلامية لم يتبرّعوا بساعات إضافية من العمل المتقن، أم السبب يكمن في رؤساء المسلمين وملوكهم الذين لم يكونوا يفكّرون بتقدّم البلاد والعباد فكانوا عملاء للأجانب، أو لأن الراعي والرعية معاً قد أعرضوا عن تعاليم الإسلام، تلك التعاليم التي تحيي البلاد والعباد بالتقدم والرقي، والنمّو والازدهار؟).
في الختام هل يُجدي قولنا أو تذكيرنا للمسلمين وقادتهم، بأن إتقان العمل وحبه بعد إتقان العلم، يجعلهم على دراية بالأسباب التي ترتقي بالأمم والدول، وتأخذها نحو حلبة التنافس مع الدول الأخرى، لكي تخوض غمارها، وتدخل في مضمار السباق كي تخرج من دائرة التخلف إلى فضاء التقدم وصولا إلى القمة أو إلى صدارة الدول المتقدمة في العالم؟