المجالس الحسينية وثقافة التكافل الاجتماعي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2015-11-09 12:22
منذ قرون طويلة، يعاني المسلمون في مختلف البلدان الاسلامية، وضعا معيشيا صعبا يلفّه الحرمان والجهل والمرض، وتتحكم به سياسات غبية يتسبب بها قادة ومسؤولون في غاية الجهل، وتفتك بهم الأمراض النفسية، ويعانون من النقص، فيصيبهم غرور السلطة، ويتعالون على البسطاء، ويحيلون حياتهم الى بؤس في بؤس، لاسيما أن الضوابط التي تحدد صلاحيات الحكام ضعيفة شكلية او غائبة كليا، فيصبح الحاكم متحكما بكل شيء.
يُضاف الى جهل الحكام وغرورهم الفارغ، تأثير السياسات الاستعمارية والحملات الاعلامية والثقافية التي يخططون لها وينفذونها، ما يجعل كثيرا من المسلمين متأثرين بهم، فيصيبهم داء الدنيا، ويتكالبون على المادة التي تصبح كل شيء بالنسبة لهم، لهذا السبب بقي المسلمون بحاجة دائمة الى حياة أفضل وثقافة ووعي مكتمل ينتشلهم من واقعهم الذي صنعه الحكام المستبدون والاستعمار الذي يتحكم بهم.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاستفادة من عاشوراء)، حول هذا الموضوع: (إنّ الأهواء النفسانية من جهة والسياسة الاستعمارية غربية وشرقية من جهة أخرى جعلت كثيراً من المسلمين يعرضون عـــن قوانين الله، ويتكالبون على الدنيا وملذّاتها، لذلك بقيت الملايين من الحاجات معطّلة).
ولا شك أن التخطيط الاستعماري يضع المؤثرات والسيناريوهات بدقة، ثم يحصد النتائج التي تلحق الأذى بالمسلمين، كأن يشغلهم بالمشاكل الداخلية فيما بينهم، كي تسهل له عمليات نهب الثروات والموارد، فيسرقها ويهربها الى بلداه الأصلية، فيما يتقاتل المسلمون مع بعضهم، غير مبالين بمن يسرق ثرواتهم وخيراتهم، لذلك يحدث تراجع في معظم مجالات الحياة حتى الاجتماعية منها.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي إذ يرى سماحته أنه نتيجة للسياسة الاستعمارية: (قلّتْ نسبة الزواج، وتفشت العزوبة بما تحمله من سلبيات، وأصبح كثير من الناس دون مسكن ومأوى، وفُقد الدواء أو قلّ أو ارتفعت قيمته، ولم يتوفر العدد الكافي من المدارس والمعاهد العلمية، وتقلصت موارد الاكتساب وتعقدت شرائطه وكثرت قيوده، ممّا زاد في نسبة العاطلين عن العمل). ويضيف سماحته: ونتيجة لذلك (بقيت كثير من الخدمات العامة متوقفة أمثال: تعبيد الطرق، وتوفير شبكات الري والكهرباء والماء، وكذلك مخازن المياه على الخصوص في القرى والأرياف، وتشجير البلاد وغير ذلك، كالمعامل والمصانع وشبهها).
الخطباء وإثارة الكوامن العاطفية
إن هذه الأوضاع البائسة التي يعاني منها المسلمون في العراق وسوريا وليبيا وفي دول اسلامية أخرى مثل بنغلادش وباكستان وغيرها، يمكن أن تتحسن، ويمكن أن يتعاون الناس من خلال التكافل الاجتماعي على تذليل كثير من المصاعب، وتوفير كثير من الحاجات، ولكن يحتاج الأمر الى سعي ووسائل ومبادرين يساعدون المسلمين على تحقيق مثل هذه الاهداف.
ومن هؤلاء، الخطباء الذين لهم دور كبير في توضيح الامور المغلفة بالغموض والضبابية أمام الناس، من خلال تحريك العاطفة واثارتها، ومن ثم رفع الوعي والمستوى الثقافي للمسلمين حيث يجعلهم اكثر قدرة على التعاون والتكافل ومد يد المساعدة لبعضهم، فيتم توفير الكثير من نواقصهم وحاجاتهم، لذا يمكن من خلال المجالس الحسينية استثمار الجانب العاطفي ونشر التراحم والتقارب بين المسلمين.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في كتابه المذكور قائلا: (إذا استثمرت المجالس الحسينية ـ باعتبارها تثير الكوامن العاطفية في النفس، وبما تحمل من التوجيه العقلي المؤثر في تغيير السلوك الإنساني ـ في قضاء حوائج الناس وفي التراحم والتوادد وإنجاز الخدمات الفردية والعامة، لقضيت ملايين الحاجات كل عام).
وهكذا يمكن للمسلمين الاستفادة من المجالس الحسينية في هذا المجال، ولكن لابد أن يبادر الخطباء الى تحفيز المسلمين وتنبيههم الى أوضاعهم، والى أهمية أن يكون التكافل الاجتماعي سلاحا مهما بأيديهم، يمكنهم من خلاله مقارعة مخططات الدول الطامعة بهم وأذنابهم من الحكام التابعين للأجنبي ويأتمرون بأوامره مقابل البقاء في السلطة، وهذا هو دور الخطيب في المجلس الحسيني، حيث يوضح الصورة للمسلمين ويضع النقاط على الحروف، كي يتنبّه المسلمون الى واقعهم، ويتعاونوا فيما بينهم من أجل أنفسهم.
لذلك ينبغي أن تتضاعف الجهود لترسيخ ثقافة التكافل الاجتماعي عبر السعي لتحقيق هذا الهدف، ويبرز هنا دور الخطيب كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (توجيه الخطيب للناس وإرشادهم إلى أهمية التكافل الاجتماعي، وإلى أعمال الخير، وذكر القصص المشوقة، وسرد الآيات والروايات التي تحث على ذلك. فقد ورد: من قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضي له يوم القيامة سبعين حاجة أيسرها دخول الجنّة. وقال الإمام الحسين (ع): واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتحور نقماً).
مشاركة الأثرياء وتبرعاتهم
(كلْ مالكَ قبل أن يأكلكْ)، هذا القول للإمام الحسين (ع)، وهو موجّه للمسلمين الأثرياء الذين ينبغي أن يجعلوا للمحتاجين حصة بأموالهم، على أن يتم استثمار هذه الأموال التي يتبرع بها الاصرياء في مجالات ومضامير يستفيد منها المجتمع الاسلامي، وخير مجال لاستخدام هذه الاموال هو ما يُسهم في تحسين حياة المسلمين.
لذلك هناك تأكيد كبير ومتواصل يدعو إليه النص القرآني الكريم (وأما بنعمة ربك فحدّث)، ويدعو إليه النبي الأكرم (ص)، وأئمة أهل البيت (ع)، حيث المطلوب من أثرياء المسلمين أن يسهموا بالمشاريع التي تجعل حياة المسلمين أفضل.
كما نقرأ ذلك في قول الإمام الشيرازي حول هذا الأمر: من المهم (مساهمة الناس الخيريين والتجّار الأثرياء في التبرع والتمويل، فقد قال الإمام الحسين (ع) في الحث على التبرع والإنفاق في سبيل الله: مالك إن لم يكن لك إن كنت له منفقاً فلا تبقه بعدك فيكون ذخيرة لغيرك، وتكون أنت المطالب به المأخوذ بحسابه، واعلم أنك لا تبقى له ولا يبقى عليك، فكله قبل أن يأكلك).
ومن الأمور المهمة التي يمكن أن يبادر بها الأثرياء من المسلمين، بناء المؤسسات المتنوعة التي تسهم في تطوير وعي المسلمين وثقافتهم، مثل الحسينيات والمدارس والمساجد والمؤسسات الخيرية ذات الطابع التنويري او الخدمي، وقد عرف تأريخنا الاسلامي الكثير من المتبرعين الأفذاذ الذين فضلوا العمل الخيري على المال والأملاك المختلفة، ولم يكنزوا الاموال كما يفعل غيرهم!.
فهناك أثرياء مسلمون بنوا عشرات المؤسسات الخيرية التي كانت ولا زالت تعمل من اجل خدمة المسلمين، بل بعضهم نذر عمره كله من اجل اقامة هذه المشاريع، فراح يعمل طوال عمره في التجارة او غيرها، ليس من اجل جمع الأموال لنفسه او لذويه وذريته، بل من اجل ان يقدم خدمة للاسلام والمسلمين عبر انشاء وتشييد المؤسسات الخيرية التي تضع نفسها في خدمة المسلمين على مدار الساعة، من باب التشجيع على التعاون والتكافل بين المسلمين لمواجهة المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تواجههم.
وهكذا يذكر لنا الامام الشيرازي نماذج من هؤلاء الأثرياء المتبرعين عندما يقول سماحته على نحو شخصي: (إني قد شاهدتُ أحد العلماء وقد تمكن من بناء أكثر من ثلاثمائة وخمسين مؤسسة في مدة نصف قرن، باستثمار مجالس الإمام الحسين (ع) وتحريض الناس على ذلك ورأيت عالماً آخراً تمكن من بناء أربعين مؤسسة في مدّة عشرة أعوام).