تحريّر العقول وتهذيب النفوس: النبي محمد (ص) رسولاً ومعلماً
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2024-09-02 05:37
(كان الناس في شبه الجزيرة، بل في العالم كله بأمس الحاجة إلى من يخلّصهم ممّا هم فيه من الظلمات والجهل) الإمام الشيرازي
ذاكرة التاريخ تسجل كل الأحداث في صفحاتها، وتحتفظ بما قدمته الشخصيات العظيمة، تلك التي نذرت أعمارها ونفوسها لكي تنقذ البشرية من براثن الشر، والرسول صلى الله عليه وآله، يتقدم هذه الشخصيات بما قدمه لأمة المسلمين، وللبشرية كلها، من أعمال ومنجزات نقلت مجتمع الجزيرة والعالم بأسرة من سجون الظلام إلى فضاءات الحرية والنور.
فبعد رحلة فاقت الستين عاما بقليل، هي عمر الرسول الأكرم، حقق فيها ما لم يحققه الآخرون في مئات بل آلاف السنين، والدليل على ذلك أنه نقل مجتمع الجزيرة من عاداتهم البائسة وعلاقاتهم المتخلفة، وأخرجهم من حياة الاقتتال والاحتراب والبغضاء وغياب الأمان، وأكل الحقوق، ليجعل منهم أمة تتصدر قيادة البشرية كلها.
فقد كانت الخلافات منتشرة فيما بينهم، وكانت النيران المتبادلة تأكل بعضهم بعضا، فيما تسود التفرقة فيما بينها، وتدمرهم العادات المتوحشة، مثل وأد البنات، وحرمان النساء من حق الحياة، وحالات الاقتتال التي تبيح للقوي أن يأكل حقوق القوي بلا رادع ولا حدود ولا ضوابط أخلاقية أو دينية، بسبب إطباق الجهل عليهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الأئمة المعصومون الأربعة عشر/ الجزء الأول):
(كانت حالة الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله في شرّ حالة، فأنقذهم الله تعالى برسول الله الذي أخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة، فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً).
التناصح العظيم والنصيحة الخالدة
وكان سكان الجزيرة في ضلال تام، تستحكم بهك الأغلال، وتستعبدهم الأصنام، وفي نفغس الوقت تستخف بهم (الجاهلية الجهْلاء)، وهنا تعني أقصى درجات الجهل، وهو كما يصفه أهل الشأن يعبر عن أعمق درجات الظلام، حيث لا يرى فيه الإنسان حتى نفسه، ومع ذلك فهو أسير للكبرياء الجوفاء، يكبر على الآخرين وهو أدناهم مكانة وأقلهم شأنا، وأضعفهم مشاركة وإنتاجا، ولكن الكِبَر المزيّف يطغي على نفسه وسلوكه.
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا تقديم النصح لهم، وبلا مقابل، فقدم لهم صفحات النور بلا مقابل، بل لوجه الله تعالى، وجعل أبصارهم وبصائرهم تبصر الحقائق كما هي، ولا تتراكم الجهالة والغلو والبغضاء على قلوبهم، فيمسح عنهم بالنصيحة ذلك الحقد الدفين، ويجلو عن نفوسهم ذلك الخبث المستديم.
فمضى الرسول صلى الله عليه وآله في طريق النصيحة، وأضاء دروب الحياة أمام الناس جميعا، وعلمهم كيف يحاربون الجهل، ويقاطعون العادات القميئة، ويبتعدون عن التناحر ويستقطبون بعضهم بعضا نحو العمل المشترك، وإنشاء مجتمع خلوق خال من الكراهية، يحفظ الحقوق ويحمي الحريات، هذا ما قدمه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله لأمته.
حيث يضمن الإمام الشيرازي ما قله الإمام علي عليه السلام عن واقع أهل الجزيرة آنذاك:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (بعثه صلى الله عليه وآله والناس ضلال في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة).
وهكذا بدأت حملات تهذيب النفوس، وتنوير العقول، في حملات نبوية يتصدرها قائدة الإمة الإسلامية الرسول صلى الله عليه وآله، فانتشر سبل الخير، وتضاعفت مصابيح العدل والعرفان، وانتعش العلم، وفرّت غربان الظلام من عقول الناس، وبدأ الجميع يرى وينظر ببصيرة واضحة لا يقترب منها العماء، ولا يدنو منها الجهل.
واستمرت الأمور والأحوال على هذه الشاكلة، وبدأت العادات السيئة تندثر واحدة تلو الأخرى، فيما أخذ الناس يعتادون مع مرور الوقت ثقافة الإسلام الجديدة، وصار الجميع يسمعون نصائح الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، ويحفظونها عن ظهر قلب ويعلمونها للآخرين، والأهم من هذا كله يعملون بها، كل هذا حدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله.
يقول الإمام الشيرازي:
(إنّ الناس في شبه الجزيرة ـ بل في كل العالم ـ كانوا بأمس الحاجة إلى من يخلّصهم ممّا هم فيه من الظلمات، فمنّ الله عليهم بمن ينقذهم من ذلك الوضع وهو رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي هذّب النفوس ونوّر العقول وحوّل أوضاعهم من شرّ حال إلى خير أمة أخرجت للناس، ثم انتشر الإسلام ليشمل سائر الأمم والملل).
القراءة والعلم في مقدمة الأهداف
لكن السؤال الذي ملأ الأرض والسماء، طولا وعرضا، هل بقي المسلمون حافظين للأخلاق والنصائح النبوية، وهل راعوا حرمة ذوي الرسول الأكرم ومنها ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، الغريب أن هناك من المسلمين كانت تدار الأمور من قبلهم، هؤلاء أساءوا لابنة الرسول صلى الله عليه وآله، ولم يتعاملوا معها كما أوصاهم نبيهم وناصحهم ومنقذهم من أغلال الجهل والاستعباد.
لقد عادت العقول الجاهلة إلى جهلها، وانتشرت البغضاء، وسادت الأغلال مجددا، وهبّت عواصف الأحقاد على القلوب وضاعفت من سوادها، وها هي بنت الرسول تخاطبهم وتذكرهم بما كانوا عليه قبل إنقاذ النبي صلى الله عليه وآله لهم، حيث بعثه الله تعالى منقذا لهم.
يورد الإمام الشيرازي في كتابه هذا مقتبسا من خطبة السيدة الزهراء حيث نقرأ:
(قالت الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها: وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد اللتيا والتي).
لقد قدم الرسول العلم لعقول الناس، والأمن والإيمان لقلوبهم ونفوسهم، وعلمهم القراءة والكتابة، وجعل العلم والتعليم في المرتبة الأولى، حتى أن التاريخ يذكر لنا بأن أسرى قريش عند المسلمين تم إطلاق كل واحد منهم مقابل تعليمه لعشرة مسلمين القراءة والكتابة.
فحين كان يزور غار حراء، هبط عليه الوحي، ونزلت أولى الآيات القرآنية الكريمة لتعلن تلك الأهمية القصوى للقراءة، وهذا دليل قاطع على اهتمام الإسلام بالعلم والتعليم والقراءة والكتابة ومحاربة الجهل.
لذا يقول الإمام الشيرازي
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتعبّد في غار حراء، فنزل عليه الأمين جبرئيل عليه السلام بأول آيات الوحي المبين من سورة القلم قائلاً: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ). وهذه الآية المباركة تكشف عن عناية الإسلام بالعلم والتعلّم وأهمية القلم، على ما ذكرناه في بعض كتبنا).
هكذا هذّب الرسول صلى الله عليه وآله النفوس وأضاء العقول مسح عنها طبقات الظلام المتراكم، وملأ القلوب بالمحبة والإيمان، وعلّم الجميع على أهمية النصيحة والتناصح، فحري بالمسلمين اليوم أن يتناصحوا، وأن يتبادلوا المودّة والرحمة فيما بينهم، وأن يحطموا حواجز الجهل حتى تكون أمة المسلمين حاضرة في التنافس العالمي نحو الارتقاء والأفضلية دائما.