كيف تصنع من نفسك إنسانا متقدّمًا؟
شبكة النبأ
2024-07-01 06:21
(الإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته)
الإمام الشيرازي
من المشاكل المعقدة التي تعصف بالإنسان، حين يعتقد ويجزم مع نفسه بأن حالة التقدم والتأخر في حياته أمر يقع خارج إرادته، وأنه خارج هذه القدرة، لأن مجريات حياته كما يعتقد مخططة له مسبقا، لهذا فإن هذا الإنسان لا يحرك ساكنا، ولا يحرك عقله، ولا يُتعب نفسه في التأمل والتفكير لغرض بناء نفسه جيدا وصنع شخصية متقدمة متطورة لذاته أو نفسه.
ولكن هذا التفكير والاستسلام التام للجمود، وترك قضية التقدم الذاتي بعيدة عن إرادة الإنسان وتفكيره، أمر غير صحيح تماما، لأن القرآن نفسه يطلب من الإنسان أن يفكر، وأن يبحث عن الفرص الصحيحة، وأن يغتنمها، وأن يسعى للتزوّد بالعلم والمعرفة دائما، حتى يتعلم كيف يواجه مصاعب الحياة، وكيف يحمي نفسه من المخاطر.
لهذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: فتفكروا أيها الناس وتبصروا واعتبروا واتعظوا وتزودوا للآخرة تسعدوا). بمعنى يجب على الإنسان أن يفكر، وأن يُبصِر، وليس المقصود هنا رؤية العين وإنما رؤية القلب، البصيرة الداخلية التي ترى وتبصر ما هو خلف المحجوب أو المستور، كذلك يجب أخذ العِبرة مما يبصره الإنسان ويتعظ ويتزوّد للآخرة حتى يفوز بالسعادة، ذلك هناك أمور على الإنسان أن يعرفها جيدا حتى يضمن التقدم في حياته.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العبرة سبيل النجاة):
(لابد للمرء إذا أراد التقدم والخير لنفسه وللآخرين، أن يتأمل ويحقق في أربعة أمور مهمة، وعندها يعرف ماذا ينبغي له أن يصنع؟ وماذا يترك؟ وكيف يستفيد من التجارب الماضية؟، وأول هذه الأمور الأربعة متابعة التاريخ فلابد من متابعة التاريخ بالتحليل والتدقيق الصحيحين، حتى تُعرَف الأسباب والمسببات، والخلفيات والدوافع وما أشبه؛ وعندها سوف تنكشف علل سقوط الأشخاص والدول في التاريخ، وعلل سمو ونجاح البعض الآخر، وتنكشف عوامل الضعف والقوة عند الأمم والأفراد).
ولكن إذا كانت دراسة التاريخ بهذه الأهمية، ويمكن أن تفيد الإنسان إلى هذا الحد، فإن هناك أمرا آخر يمكن أن يستفيد منه الإنسان في صنع الشخصية المتقدمة، وهو هدف مشروع لكل إنسان، والأمر الثاني، هو الاستفادة من التجارب الشخصية التي يخوضها الإنسان نفسه، ففي الحقيقة أن كل شخص يمر بتجارب كثيرة متنوعة في أهدافها وظروفها، بعضها خطير، معقد، وتجارب أخرى ليست خطيرة وسهلة.
توظيف التجارب الذاتية جيدا
وهكذا يعيش كل إنسان تجارب مختلفة، ولكي يتطور ويتقدم عليه أن يستفيد من تجاربه هذه، ولذا قيل ليس عيبا على الإنسان أن يقع في الخطأ، ولكن العيب حين لا يستفيد من خطئهِ. نعم كل إنسان يجب أن يخوض التجارب حتى يتعلّم، ولا مشكلة في الوقوع بالخطأ أثناء التعلّم، كذلك على الإنسان أن يستثمر تجاربه جيدا حتى يطوّر نفسه ويصقلها جيدا.
يقول الإمام الشيرازي:
(الأمر الثاني التجارب الشخصية إذ يمر الإنسان في حياته العملية بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. قال أمير المؤمنين عليه السلام: من حفظ التجارب أصابت أفعاله).
من الأمور المطلوبة من كل إنسان لكي يتقدم في حياته، أن يدرس الأحداث المعاصرة، وأن يلتقطها بمهارة، وأن يقرأها جيدا، ويحللها، حتى يستفيد من هذه العملية في صقل مهاراته ومواهبه، ولكن هذا الالتقاط للقضايا المعاصرة يجب أن لا يكون سريعا أو شكليا أو سطحيا، بل يجب أن يتعمق جيدا فيه حتى يفهم لماذا وقع هذا الحدث.
ما هي الأسباب التي جعلت من هذا الحدث المعاصر خطيرا، حتى يمكن للإنسان أن يسيطر عليه إذا حدث مرة أخرى على مقربة منه، لأنه سبق أن عايش هذا الحدث، وعرف الظروف والدوافع التي تسببت في وقوعه، كما أنه فهم كيف يواجه هذه الأحداث المعاصرة لأنه اطلع عليها سابقا، فيقوم بمقارنتها مع الأحداث الجديدة وكيفية مواجهتها.
لذا يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
الشيء الثالث الذي ينبغي أن يتأمله الإنسان (الأحداث المعاصرة ودراستها والتأمل في كيفية وقوعها، وذلك بأن ينظر الإنسان إليها، ويرى ما هي مقدمات نشوء الحدث؟ وكيفية السيطرة عليه واحتوائه واستثماره؟ ومقارنته مع العِبر والحوادث السابقة، والاستفادة من الماضي في معرفة الحدث المعاصر، ووضع الاحتمالات المتوقعة، ووضع الحلول والبرامج لهذه الاحتمالات والنتائج).
ويضيف الإمام الشيرازي: (على الإنسان أن لا يقف مكتوف اليدين أمام الحوادث المحيطة به، بل عليه أن يلاحظ الحوادث السابقة المشابهة لهذا الحدث ويستفيد منها، ويقوم بدفع الشر الذي فيه؛ إذ أن الجهل بالحوادث، والجهل بمقدماتها، سوف يعرض الإنسان إلى أضرار خطيرة، ربما أدت إلى هلاكه؛ ولذلك صار دفع الضرر واجباً عقلياً. فعلى كل إنسان أن يدفع الضرر أو الخطر الجسيم عن نفسه، فإذا لم يدفعه يعد ذلك قبيحاً في عرف العقلاء).
وقد يقول قائل كيف يمكن أن أدفع الأضرار عني، وما هي السبل المطلوبة لتحقيق ذلك؟، وبالفعل هناك الكثير من الناس قد لا يعرفون كيفية مواجهة الأمور التي قد تلحق بهم الضرر، لأنهم في الحقيقة لم يتأملوها ولم يتعمقوا فيها سابقا، وكما ذكرنا هناك أناس يميلون للدعة والكسل، فلا يتعبون ولا يتحركون حتى في حماية حتى أنفسهم.
ومن الطبيعي أن الإنسان إذا لم يكن يعرف ما يضره، فإنه لا يستطيع مواجهته، والتخلص من عواقبه، لهذا يركز الإمام الشيرازي على قضية المعرفة، والابتعاد عن الجهل، والتمسك بالعلم، وفهم التجارب وقراءة التاريخ، والاستفادة مما يمر في حياة الإنسان من أحداث حتى يستطيع معالجة المشابه منها في حال تكرّر وقوعه في حياته.
صناعة الشخصية المستقبلية الناجحة
من هنا أصبحت المعرفة واجبة، فمن أهم خطوات دفع الضرر عن النفس هي المعرفة، وهذه تتأتى من التعلّم والدراسة والاحتكاك، والإصرار على معرفة ما يجهله الإنسان في جميع مجالات الحياة.
يقول الإمام الشيرازي: (أما كيف يمكن دفع الأضرار والحوادث التي ترهبه وتضره؟ فذلك لا يمكن ـ عادة ـ إلا إذا عرفها (أي إلا عرف الأضرار قبل وقعها عليه)، أما إذا كان جاهلاً بالأمر، فإنه لا يعرف الضرر من غيره، فكيف يمكن له أن يدفعه؟، ولذلك صارت المعرفة واجبة، إذ بها يتم معرفة الأضرار والمخاوف ودفعهما، من هنا كانت دراسة مجريات الأحداث أمراً مهماً لنجاة الإنسان).
أما دراسة المستقبل فهي من أهم الأمور التي تمنح الإنسان رؤية استكشافية كبيرة وثاقبة، لمعرفة ما سيحدث مسبقا، أو توقّع ما سيحدث، والتنبّؤ به قبل أن يحدث، وهذا كله ينتج عن دراسة الإنسان المستقبل والتنبّؤ به.
فالأمر الرابع الذي يجب القيام به (دراسة المستقبل) إذ يقول الإمام الشيرازي: لا يمكن إهمال دراسة المستقبل طبق المحتمل العقلائي؛ وذلك بأن يلاحظ الأثر المترتب على النتائج. فمثلاً: إذا كان أحد الأشخاص يسرق أموال الآخرين فالمحتمل العقلائي له الوقوع بيد السلطة القضائية، ومن ثم السجن. أما إذا كان إنسانا ينفع الآخرين، ويجيد الخطابة والتعليم للناس، فإن المحتمل العقلائي له أنه يكون في موقع احترام وتقدير الآخرين).
وهناك خطوة جوهرية يجب أن يفهمها الإنسان ويتمسك بها، وهي أن يأخذ العِبرة من كل التجارب والأحداث والقضايا التي تمر في حياته، لأن الاعتبار من الأشياء يعطي الإنسان قدرة على الاختيار الصحيح والصائب، من بين جميع الخيارات المتاحة له.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (كل شيء إذا فكر الإنسان فيه واعتبر منه، فإنه يستطيع أن يختار أفضل الطرق المؤدية إلى الحياة السعيدة، ويشخص الطرق الملتوية والسيئة، ومن ثم يسلك أفضل الطرق).
وبهذه الطريقة الواضحة، وهذه الخطوات الدقيقة، تستطيع أن تصنع من نفسك شخصية ناجحة يُشار لها بالبنان، لأنها قرأت التاريخ جيدا واستعدت للقادم، وحفظت التجارب الشخصية جيدا، وهضمت الأحداث التي عاصرتها ومرت بها، وأخيرا درست المستقبل أو تأملته جيدا استنادا إلى الوقائع المعاصرة والتاريخية، واستعدت لصنع الشخصية المستقبلية الناجحة.