مكافحة الانحراف والتفكّك
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2024-06-10 05:41
(القصد من القصاص هو حقن الدماء وكف العدوان عن الأرواح) الإمام الشيرازي
قبل قرون سحيقة عرف الإنسان فوائد التجمع السكاني، مع العيوب التي ترافق ذلك، فمثلا هنالك مشكلة الجريمة التي تحدث في المجتمع لأسباب عدّة، كالسرقة، أو التجاوز على حقوق الآخرين، بسبب تضارب المصالح، وانتعاش نزعة الاستحواذ والجشع، هذه كلها أسباب تدفع بالمجرمين إلى ارتكاب جرائمهم ضد أناس آخرين مما يتطلب القصاص منهم.
أما دوافع القصاص فهي واضحة وضوح الشمس، إذ لا يمكن لتجمع سكاني أن يستقر إذا لم تتم مكافحة الفساد والتفكك والجريمة فيه، وأول وأقوى أساليب مكافحة التجاوزات بمختلف أنواعها يتمثل بالقصاص العادل ممن يرتكب الجرم المشهود، وقد نصت الأحكام الشرعية على هذه العقوبات وحددتها بحسب نوع التجاوز والجريمة، كما سنّت الدول القوانين الوضعية لمكافحة الجريمة والفساد والتفكك، بالإضافة إلى منظومة الأعراف الاجتماعية.
لذا فإن جميع المجتمعات، حتى البدائية منها، وضعت السبل والمحددات والنصوص العقابية التي تحد من الجريمة، وتوقف الفساد عند حده، وتكافح التفكك الاجتماعي بكل الوسائل المتاحة، وتسعى بكل السبل لمكافحة الجريمة، سعيا وراء الاستقرار الاجتماعي، والتفرغ للأعمال التي ترتفع بالمجتمع وتسعى لتقدمه، ووضعه في قائمة التنافس الدولي إلى أمام.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء الثالث):
(من الواضح أن جميع الأمم وحتى البدائية منها لها عقوبات تؤكّد على حماية المجتمع من الانحراف والفساد. لأن كثرة الجرائم والجنايات تسبب الفوضى وتخلق الانحراف وتُكثِر من الفساد).
تطبيق الأعراف الاجتماعية الجيدة
إذًا هنالك سبل وخطوات تتمسك بها المجتمعات، لكي تجبر أفرادها على الالتزام والكف عن إلحاق الأذى بالمجتمع، والحد من الجريمة بأنواعها، فالفساد يجب أن يتوقف عبر العمل المتكاتف والمكافحة الجماعية، رسميا وأهليا، فليس الحكومات وحدها المسؤولة عن حماية المجتمع، بل المجتمع نفسه أيضا مسؤول عن حماية نفسه.
فكيف يقوم المجتمع بمهمة مكافحة التفكك الاجتماعي، هذا الهدف له علاقة مباشرة بتطبيق الأعراف الاجتماعية الجيدة، وإزاحة القيم البليدة، أو تلك التي تسمى بالقيم الدخيلة التي لا تتناسب وتقاليدنا الاجتماعية الراسخة، لذا فإن الحاجة لتطبيق العقوبات على المتجاوزين يجب أن يكون لها أسبقية في التطبيق.
فالعقوبات الشرعية، أو القضائية، أو حتى الاجتماعية (العشائرية)، لها دورها الفعال في مكافحة الجريمة، والحد من ظواهر الفساد المختلفة، وملء فراغات التفكك التي قد تحدث هنا أو هناك، فتكون النتيجة في غاية الانضباط، ويمكن تحقيق نتائج بالغة الأهمية على صعيد الاستقرار الاجتماعي، وصنع المجتمع المعافى السويّ.
الإمام الشيرازي يؤكد هذه النقطة فيقول:
(إن الالتزام بالحدود والعقوبات يؤدي إلى صيانة المجتمع ويبعده عن الانحراف ويجعل منه مجتمعا سويّا معافى).
كذلك هنالك تأكيد مباشر على تطبيق القصاص بحق مرتكبي الجرائم، ومرتادي الفساد، ومتجاوزي الحدود، والساعين إلى زرع التفكك بين شرائح المجتمع، ذلك أن القصاص له قدرة كبيرة على مكافحة جميع الظواهر التي تضعف المجتمع.
لذا لابد من وجود خطة مرسومة في هذا الاتجاه، توضع من قبل خبرات متخصصة في مجال مكافحة الجريمة والفساد، وتقليل الجنايات إلى أدنى مستوى ممكن، يتم هذا عبر توظيف القدرات والخبرات بصورة عملية فعالة، الهدف منها وقف التفكك الأخلاقي في المجتمع.
فتكون مثل هذه الخطوات الرادعة ذات تأثير فعال في مكافحة الفساد والتفكك، كما أن حالات الظلم تتراجع، لتحل محله مؤشرات الأمن والسلام والاستقرار، فالمكافحة والردع والقصاص كلها مفاهيم تؤدي بالنتيجة إلى تقليص قدرات المفسدين، وتزرع في نفوسهم الخوف من الإقدام على نشر الفساد والرذيلة بين مكونات المجتمع، وهذا هو الهدف الأساس من تطبيق الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية وتقوية الأعراف الاجتماعية.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(من أجل إحلال الأمن والسلام في المجتمع. فإن للحدود والقصاص (العقوبة) الأثر الكبير في إحلال السلم والسلام في المجتمع، لأنها تكون رادعة للظلم ومانعة لارتكاب الجرائم العنيفة والإرهابية).
القصاص يحافظ على استمرارية الحياة
لم تكن خطوة القصاص فائضة عن الحاجة، أو أنها تنم عن نظرة قيادية مستبدة، بل هي خطوة هامة للحفاظ على استمرارية الحياة، وقد عبرت الآية القرآنية بوضوح عن هذا الهدف الكبير لمحاسبة المجرمين والمتجاوزين حيث جاء فيها: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، وهذا يعني أن المهمة الأولى للقصاص والعقاب هي وقف سفك الدماء.
كما ركز الإمام المعصوم أبو جعفر (عليه السلام)، على قيمة القصاص كفعل مهم له القدرة على كبح جماح النفوس الشريرة التي لا تتورع عن نشر الموت في كل الأمكنة التي تتزواجد فيها، فهناك نفوس لا يستهويها غير سفك الدماء وإزهاق الأرواح من دون وجه حق، ومن دون سبب مقنع، وكأن روح البشر لعبة في أيديهم.
من هنا يقول الإمام الشيرازي:
(القصد من القصاص هو حقن الدماء وكف العدوان عن الأرواح، وقد جاء في وصية الإمام أبي جعفر عليه السلام: (القصاص والحدود حقن الدماء)، وهذا هو أحد أسباب عيش الناس بأمن وسلام وحفظ الدماء من الهدر، والعرض من الهتك، والحياة من السفك، والمال من السطوة والاجتياح).
ومع الأهمية القصوى لردع القائمين بشتى أنواع الجرائم والتجاوزات على الناس، والأهمية القصوى لتطبيق الأحكام والقوانين الرادعة للمتسببين في إزهاق الأنفس ونشر الخراب فوق البسيطة، إلا أن الهدف الأول والأخير من القصاص هو القضاء على الفتن والضغائن بأنواعها، نعم يجب ردع كل من يعتدي على الأنفس البريئة، وردع كل من يتجاوز على حقوق الآخرين، إلا أن الغاية الأولى من العقاب والقصاص هي القضاء على الفتن، وكبح الضغينة من الانتشار بين الناس.
وهذا ما ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار عند الجهات والأشخاص الذين تعود لهم قرارات القصاص والعقاب، فعليهم الأخذ بنظر الاعتبار أن الهدف ليس الثأر وليس إشعال الفتن بين الناس، وإنما الهدف هو نشر الأمن والسلام والاستقرار، وإحقاق الحق، ومقارعة الظلم بكل أشكاله.
فلا توجد أية فائدة من تحويل القصاص إلى مصدر لإشعال الفتنة بين الناس، وليس هناك أية فائدة من القوانين عندما يتم تطبيقها بأكثر من مكيال، فتراعي القوي وتظلم الضعيف، أو تجامل الغني وتطيح بالفقير، فالهدف أولا وأخيرا من القصاص ومكافحة الفساد والتفكك، هو صناعة المجتمع المستقر الآمن المنشغل بالتقدم والتطور والازدهار.
الإمام الشيرازي يؤكد هذه القضية في قوله الواضح:
(مع أنّ العقوبة تزجر فاسد الأخلاق الذي تجري في دمه شهوة إراقة الدماء أو ما أشبه ذلك، إلا أنه يجب النظر إلى ما يرفع الأحقاد والضغائن من النفوس حقنا للدماء وحفاظا على الأرواح ولسلامة المجتمع عن الأخذ بالثأر الذي كان عادة جاهلية ليعيش الناس في أمن وسلام).
وهكذا ينبغي أن يأتي القصاص في إطار المنفعة العامة للمجتمع، وليس الهدف منه تأجيج النزعات الثأرية وسواها، إنما الغاية الأساسية هي محاربة كافة أنواع الانحراف، وإيقاف اسباب التفكك الاجتماعي، عبر اتخاذ الخطوات المعروفة في هذا المجال، ومنها بل في المقدمة منها تحريك آليات رصد الجرائم ومنابع الانحراف، ومعالجة بؤر التفكك أولا بأول.