الاستباق الثقافي لتحقيق التغيير الاجتماعي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-06-19 05:53
كثيرا ما يتم التأكيد على الثقافة ودورها في تغيير المجتمعات، لا يوجد اتفاق محدد حول معنى الثقافة من قبل العلماء والباحثين في حقول الاجتماع والانثروبولوجيا وغيرها من علوم إنسانية حديثة، مع وصول تعريفاتها الى ثلاثمائة تعريف، لكن تعريفها الكلاسيكي يعد هو الأشهر والأكثر انتشارا من بين التعريفات الاخرى، والذي يرى ان الثقافة هي: (ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، واي قدرات أو عادات يكتسبها الانسان كعضو في المجتمع).
وتختلف ثقافات الشعوب فيما بينها، ولكنها في المحصلة النهائية لا نجدها من خلال الأنساق الاجتماعية – الثقافية، تؤسس لشخصية منوالية، أو بتعبير اخر، الانا باعتباره استباقا ثقافيا.
بعض المجتمعات، وكنسق ثقافي تجعل من الجودة والكمال قيمة أساسية، والحاجة الى الجودة والكمال التي ينتهجها ذلك المجتمع – أي حسن الأداء والنجاح – انما تنزع وتميل من الناحية العملية للاضطلاع بدور المكون الأساس لشخصية الافراد المنتمين لهذه المجتمعات.
كما نلاحظ ذلك في المجتمع الأمريكي او الياباني او الألماني وغيرها من مجتمعات أخرى، تنزع ومن خلال عملية التراكم، الى تكوين رأسمال ثقافي يسمى أحيانا (اصالة) واحيانا (تراثا).
كل مجتمع من هذه المجتمعات التي تميل الى التميز بانساق قيمية سائدة، لا يعني انها في الوقت نفسه خالية من قيم انحرافية وتحولية، فمجتمع منغلق على التسالم لاوجود له في الواقع، وهو ليس اكثر من خيال او طوباوية، يكدر قيمه بعض قيم التغالب، حين يسود نمط التنافس والعنف ورغبة التفوق، وحين يصنع البشر تاريخهم ومأثورهم الثقافي.
في تمثله وتماهيه مع كل القيم الثقافية للاسلام، بما هو اسلام نبيه محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليهم السلام) وليس الإسلام المعاش في واقعنا الراهن، يعمل المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي على ان يكون (استباقا ثقافيا)، وهو نجح في ذلك، من خلال جعله من (الجودة والكمال) قيمة أساسية (للأداء والنجاح)، والتي أضحت مكونا أساسيا في شخصيته وحققت هذا الارتباط الوثيق بين الثقافة والشخصية، لكن على الضد مما يعتبرها الكثيرون من الباحثين في حقول العلوم الإنسانية، ان بنية الشخصية عادة شديدة التبعية للثقافة المميزة لمجتمع ما.
فلم يكن الامام الشيرازي، تابعا لثقافة مجتمعه التي تسودها الانعزالية والانهزامية والكبت والاستبداد والكسل والجهل، والتي ثار عليها مبكرا، وعاد الى الإسلام كما فهمه بوعي وتمثله حتى تماهى معه بكل قيمه وتعاليمه، الرافضة والثائرة على تلك السلبيات.
ولم يكتف بتلك القيم والتعاليم، كتجريدات نظرية في القرآن او الاحاديث والروايات، بل تماهى معها وبها على مستوى العمل والسلوك، لتحقيق الجودة والكمال.
ليس غريبا والحالة هذه، ان ينادي الامام الراحل، بالعودة الى (جذر الإسلام) كشرط اول لتغيير حال المسلمين، وهو يعتقد ان (الثقافة النافذة هي اول شرط في التغيير).
وهو اذ يؤكد أهمية الثقافة، والثقافة الإسلامية تحديدا، وعودتها وتمثلها والتماهي معها، كمدخل للتغيير، انما ينطلق من معرفته ان (كل انسان ارتقى، وكل انسان انحط، اذا لم يكن تحت ضغط خارجي، فانما هو بسبب فكره أولا وبالذات).
هذا التأكيد على وعي الافراد بالثقافة مهم، بل شديد الأهمية في نظره، وهو يعي حقيقة جوهرية أخرى، من حقائق الثقافة وكيفية بنائها وتشييدها، فالثقافة (تنبعث اول ما تنبعث من فكر انسان واحد عادة ثم تنتشر وتتوسع حتى تعم قطرا او اقطارا، وقد تكتسح العالم باجمعه).
الثقافة في الفهم الشيرازي، هي الرافعة الأولى للدين والدنيا، لانهما (يتقدمان بالثقافة)، وكمفهوم اشمل، لا يقيم فرقا بين ثقافة دينية، هي طريق الخلاص، وثقافة دنيوية هي طريق البناء، مع حث العلماء على (رفع مستوى الثقافة في البلد، من غير فرق بين الثقافة الدينية، او الثقافة الدنيوية).
وقد لخّصَ دور الثقافة في تغيير الإنسان من حال أسوأ الى حال أفضل، بكلمات دقيقة وواضحة وبالغة التأثير: (إن الثقافة هي التي تغير مسيرة الإنسان إلى الأحسن أو الأسوأ)، بمعنى هو قدرة الثقافة على تغيير طريقة تفكير الناس، وبالتالي إمكانية تغيير سلوكهم. ومن هنا فـ(إن التغيير الثقافي يساعد على تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعية لدى الناس، وهذه هي آثار الثقافة، ودورها الكبير في تغيير حياة الناس نحو الأفضل).
ولربما تبرز أهمية الثقافة الدنيوية، من خلال عدد من الأمور التي يؤكد عليها في توصيف دور رجل الدين او العالم، على الاضطلاع بمسؤوليته في تنوير مجتمعه، للخلاص من المشاكل والمعوقات وكل مفردات الجهل والتخلف حيث (ينبغي لرجال الدين العمل على رفع ثقافة الناس، ونشر الوعي السياسي بينهم بتعليمهم ثقافة التعددية عندهم، وتحذيرهم من الاستبداد الفردي، والانانية الشخصية، وحثهم على تشكيل الأحزاب الحرة، لتكون لهم الامن والأمان من الحكم الدكتاتوري الذي يحكمه الحزب الواحد كما يشاء).
ان الثقافة ومن خلال من يمثلون (استباقا ثقافيا) في مجتمعاتهم، هي إعادة صياغة لكل قيم وأفكار المجتمع الذي يتواجد فيه العالم والمثقف، وهي صياغة لا تتوقف عند الوصول الى غاية تحققها، بل يجب العمل على ادامتها وتطويرها والاستمرار في دفعها الى الامام وبشكل متواصل، (ان مهمة العالم والمثقف صياغة المجتمع صياغة جديدة، بحيث يحاول ان يرفع من مستوى الطبقات المتردية فكريا واقتصاديا وما الى ذلك، وفي نفس الوقت يحافظ او يرفع من مستوى الطبقات العالية والمتوسطة).
لا تقتصر الثقافة على شؤون المجتمع الداخلية وترقيتها والارتفاع بها، بل هي أيضا مصد للخارج الذي قد يتربص باي مجتمع طمعا في الاستحواذ على خيراته ومقدراته، ان الثقافة في دورها امام الاخرين، خارج المجتمعات هي (من اهم ما يحفظ الأمم واستقلالها وصمودها، امام غزو الأعداء).
فالاستباق الثقافي يرتكز على قاعدة أساسية في التغيير وهو الاستقلال، فليس هناك حركة ثقافية عميقة نحو التغيير في ظل الانغماس العميق في التبعية النفسية والاستلاب الفكري والاستيراد الثقافي: (فالثقافة إذا تحولت ـ لدى المسلمين ـ من ثقافة استعمارية إلى ثقافة إسلامية تحولوا هم أيضاً من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزّة والتقدم والاستقلال).
ولكن تبقى العملية الأهم في منهجية الاستباق الثقافي هو الاستقامة في بناء التراكم الثقافي المتصاعد حتى تستكمل حركة التغيير الاجتماعي بصورة صحيحة: (إنه من تراكم الثقافة الماضية والثقافة الحاضرة، يمكن أن يستكشف الخطوط العريضة للثقافة المستقبلة).