الجهل ليل بلا نجوم

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2023-05-08 08:05

(من علّم نفسه أسكت منتقديه) الإمام الشيرازي

توجد سلسلة من المسميات ترتبط بعضها ببعض لتشكل محتوى متكامل يساعد على بناء حياة مقبولة، وأي حلقة تضيع من هذه السلسلة لأي سبب كان تؤثر في كينونتها وعملها، ومن أهم عُرى هذه السلسلة المترابطة العلم، العقل، المعرفة، التعلّم، الحرية، والمال، هذه الأسماء الكبيرة في محتواها ومضمونها يمكنها أن تبني حياة تسرّ البشر.

ولكل منها نقيض، فالعلم نقيضه الجهل، والمعرفة نقيضها الجهل أيضا، والتعلم نقيضه الجهل كذلك، أما الحرية فمن ألدّ أعداها الجهل، ولهذا إذا أراد الإنسان أن يعيش حياة تليق بشخصية البشر عليه أن يحارب الجهل، ويغلق جميع الأبواب أمامه، ولا يسمح له بالاقتراب من عقله أو فكره أو معارفه لأنه سوف يشوّه شخصيته بأسوأ صور التشويه.

المعارف والعلوم يمكن أن تتشكل في كلمات وجمل مفيدة مفهومة وواضحة ومكتوبة، ولكن تتجلى قدرة المفكر والعالم والمثقف على تحويل المعارف إلى مضامين مفهومة من خلال جمال كلماته وعمقها ووضوحها، إذ لا فائدة من مضامين تتم كتابتها وتقديمها للناس في كلمات عجفاء يابسة لا روح فيها، فالفكر الجميل والعلم المضيء والمعرفة الغنية يجب أن تُكتَب بأسلوب وبكلمات بالغة الوضوح والعمق والجمال.

في عنوان هذا المقال صورة هائلة وقمة بالجمال لتعريف الجهل، هذه الجملة تعود للإمام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) وقد وردت في أحد مؤلَّفات وحملت عنوان: (مختارات من اقوال الامام الشيرازي حول العلم والمال والحرية)، يقول الإمام (رحمه الله) في هذه الجملة: (الجهل ليل بلا نجوم)، هل هناك رسم بالكلمات أروع وأجمل وأبلغ من هذا الرسم، أليس هذا نوعا من الصور الشعرية البلاغية النادرة؟

يريد الإمام الشيرازي أن يصف الجهل للناس بهذه الصورة المؤثرة، حتى تبقى عالقة في أذهانهم لقوة بلاغتها وجمال معانيها، ولنتخيَّل معا الليل بلا نجوم، إنه الظلام المطبق الذي يكتم الأنفاس ويشيع الخوف في القلوب والنفوس، ويسلب قدرة الإنسان على العيش بسلام، إنه ليل دامس مطبق ثقيل يدمّر شخصية الإنسان، بهذه الطريقة وهذا الأسلوب وهذه الصورة البلاغية العميقة يصف الإمام الشيرازي (رحمه الله) الجهل.

شتان بين السمو ونقيضه

في هذا المؤلَّف الغني للإمام الشيرازي يتم ذكر مجموعة من الاقوال والحكم حول: الجهل والعلم، الحياة والموت، المال، الحرية، العقل والعقلاء. ويقدم أقواله الحكيمة في صياغات لغوية غاية في الجمال، فمثلا يقول في إحدى حِكَمِه الراقية:

(الجاهل لا يرتفع بالغنى والعالم لا يتضع بالفقر).

ولو أننا حاولنا تفسير هذه الحكمة أو هذا القول فإننا سوف نكتشف في مضمونه متناقضات عديدة، منها الجاهل وفي مقابله العالم، وكذلك الغنى في مقابلها الفقر، والمتناقض الثالث نجده في (الرِفْعة و الضِعة)، فالرفعة هي السمو أما الضعة في من الوضاعة والدناءة، وشتان ما بين الإنسان العالي الشأن والإنسان الوضيع، فالأول يشي بشخصية متزنة عادلة وملتزمة تنبض بالإنسان، أو الثاني الوضيع فهو ذو أخلاق هابطة ونفس لئيمة.

أراد الإمام الشيرازي أن يُظهر الفارق الكبير بين من تكون جذوره الكرامة والسمو، ومن تكون جذوره الضحالة والوضاعة، وأراد أيضا أن يؤكد على أن الجاهل مهما بلغت أمواله وكنوزه وأرصدته فهي لا تغنيه لأنه يبقى جاهلا في أعماقه، وتبقى شخصيته مهزوزة ويبقى شعوره بالنقص قائما أما عينيه، فالمال لا يلغي الجهل.

كذلك الفقر لا يعيب العالم والمتعلم، لأنه يمنحه القدرة على التعامل مع الناس ومع المواقف ومع المجتمع، ويجعله علمه بعيدا عن الفقر الفكري، وإذا كان فقيرا بالمال فإنه غني بعلمه ومعرفته، وهذا سوف يقوده حتما إلى سد النقص المادي.

ومن المقولات الرائعة التي نقرأها هنا للإمام الشيرازي ما يتعلق بالعلم والتعلم والكتب، فالإمام الراحل ينتقد ظاهرة طالما لاحظناها في مجتمعاتنا، وهي تخص (حمل الكتب ظاهريا، وعدم التعلّم منه) من باب التظاهر بأنه مثقف ومفكر ومطلع وعارف بالأمور، لكنه في الحقيقة يحمل الكتاب ويتظاهر بحبه وتعلقه بالكتاب في حين أنه لا يقرأه ولا يتعلم منه.

فيقول الإمام الشيرازي في هذه المقولة: (كثيرٌ من يحمل الكتاب لكنّ القليل من يتعلمه).

ويتطرق في بعض هذه الأقوال إلى الحياة الاجتماعية للناس، ويدقق فيها، ويصل إلى أعمال وأفعال يفعلها الناس يوميا لكننا لا نلاحظها، أما الإمام الشيرازي فهو يلتقطها بعينه ونظرته الثاقبة، ويذكر الناس بها عسى أن يتجنبوها ويبتعدوا عنها.

فيقول (رحمه الله): (أعقل الناس من قلل من المشكلات). وما أحوجنا اليوم إلى العقل وإلى الإنسان الذي يقلل المشكلات إلى أدنى حد ممكن.

العلم صديق لا يخون

وفي عودة إلى الجهل، يحذرنا الإمام الشيرازي في حياتنا الطويلة العريضة، من الجهل والجهال، والابتعاد عنهم وعدم مخالطتهم، وعدم اتخاذهم مقربين أو أصدقاء لأن من يصاحب الجاهل سوف يكون مثله، ولا نظن أن هناك إنسان سويّ يرغب أن يكون بلا معرفة وبلا علم، وبالتالي سوف يكون جاهلا إذا صاحب هذا النوع من الناس.

يقول الإمام الشيرازي: (من يصحب الجهال لا بدّ وأن يكون جاهلاً).

ومن الملاحظات المهمة التي يؤكد عليها الإمام كيفية تحصيل المكانة العظمى في المجتمع، أي كيف تكون عظيما بين الناس، وما هو الشيء الذي يجعل منك عظيما بين الناس، ويؤكد الإمام على أن عظمة أي إنسان تساوي علمه وأخلاقه، فكلما ازداد مستوى علمه وأخلاقه تتصاعد وتسمو مكانته بين الناس، ولا يفيد الإنسان أن يدّعي كونه عالما وهو بلا علم ومعدوم الأخلاق، فقيمته تُبنى بالعلم والأخلاق.

وهذا ما نقرأه في قول الإمام الشيرازي: (العالِم عظمته بقدر علمه وأخلاقه).

ومن أروع المعاني والحِكَم نجده في هذا المؤلَّف الرائع حيث يؤكد فيه الإمام الشيرازي على أن الإنسان الذي يطور نفسه علميا ومعرفيا سوف يُسكِت منتقديه، فلا يمكن أن يتعرض للنقد وهو متعلّم، أما إذا تكاسل وأهمل تعليم نفسه فإنه سوف يكون معرّضا للانتقاد، ولن يتردد الآخرون من توجيه الصفات والكلمات المسيئة له بسبب جهله، لهذا عليه أن يعلّم نفسه باستمرار حتى يغلق أفواه المنتقدين له.

لهذا يقول الإمام الشيرازي: (من علّم نفسه أسكت منتقديه).

ومن الأمور المتميزة التي التقطها الإمام الشيرازي أهمية تحويل المعارف إلى تطبيقات عملية، فلا فائدة من علم لا يتحول إلى عمل، ولا فائدة من معرفة لا يحولها صاحبها إلى التطبيق الفعلي في الواقع. لذا فإن الإنسان إذا تعلّم ولم يعمل بعلمه، وإذا عرف ولم يستفد من معرفته عمليا فهو جاهل.

كما نقرأ ذلك في هذا القول: (من عرف ولم يعمل فهو جاهل).

وأخيرا نقرأ مقولة هي من أروع المقولات، ومن أعمق الحِكَم، وأكثرها دقة من واقع البشر، حيث يقول الإمام الشيرازي في مقولته هذه: (العلم صديق لا يخون).

وهنا حوّل الإمام الشيرازي العلم من صفته العلمية المجردة إلى منحه كينونة ذات بعد بشري حي، وكأن العلم هنا كائن حي وليس مجرد كلمة أو معنى يتكون من مجموعة حروف لا أكثر، إضافة إلى البعد الجمالي الكبير لهذه الحكمة البديعة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي