الابتكار وثالوث الزمن الضاغط
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-02-27 05:23
(كان رواد النهضة يتطلّعون إلى نشر التعليم، والاهتمام الجاد بالصناعة والزراعة)
الإمام الشيرازي
الابتكار حاجة إنسانية خُلقتْ مع خلق الإنسان، فمنذ أن وطأ الأرض كانت النواقص والاحتياجات تحيط به، منها تأمين الغذاء، ومن ثم الأمن، والسكن، والملبس وغيرها من الاحتياجات، التي بدأت تزداد كلّما ازداد عدد الناس في مكان واحد، وهكذا رافق الابتكار رحلة الإنسان منذ بواكيرها، لاسيما أن التطور المستمر كان يقترن بالحاجة المستمرة إلى ابتكار حلول للنواقص التي تعاني منها حياة الناس فرديا وجماعيا.
وهكذا ظهر الأذكياء البارعون الحالمون المبتكرون في الماضي، وهم موجودون في الحاضر أيضا، ليتصدوا لصورة المستقبل وكيف يكون، وما هي الابتكارات اللازمة لرسم مستقبل زاهر يليق بالعقول الكبيرة الفاعلة المتطورة، وهكذا ظهر من بين المسلمين، أولئك المبتكرون الكبار من ذوي العقول المضيئة والإرادات القوية ومن ذوي الخيال العابر للأزمان كما يصفه المفكرون، إنه الخيال الذي يرسم الحقائق قبل حدوثها، ويحول الابتكارات من ألفاظ إلى أشياء تعمل وتتحرك وتنتج ما هو مطلوب منها لتلبية احتياجات الناس.
لكن العقول الجامدة، الكسولة، المتقاعسة دائما تكون حاضرة سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، هؤلاء المتقاعسون حاضرون دائما في الثالوث الزمني (الماضي الحاضر المستقبل)، ودائما يشكلون الجزء الضاغط على العقول الابتكارية الملهمة، ودائما تجد العقول الراكدة معارضة للتجديد وساخرة من الابتكار، بل لا تستطيع أن تصدق إمكانية صنع هذا الابتكار أو ذاك لتطوير حياة البشر.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يذكر هؤلاء المتقاعسين واعتراضاتهم على أي خطوة يتم اتخاذها نحو التطور، فيقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (كتاب فقه المستقبل):
(لقد كان البعض يعتقد أن التقدم الصناعي نوع من الخرافة، فزعم هؤلاء باستحالة التصوير الفوتوغرافي لاستحالة انتقال الأعراض كما قال الفلاسفة، وكانوا يعتقدون باستحالة وجود المصباح بشكله الجديد؛ لاستحالة بقاء النار في مكان مغلق).
لماذا الاستخفاف بالعقول الفاعلة؟
إن الانتقال من نمط حياة إلى آخر ليس سهلا، كما أن قبوله من الناس قد يكون أكبر عقبة أمام هذا الانتقال حتى لو كان يحقق قفزة في حياتهم، لذلك فإن الضاغطين في الاتجاه المعاكس، يرفضون أي نوع من التغيير، كما أنهم يستخفون بالعقول الفاعلة المتميزة الوثّابة، ويصفونها بالخرافة، لأنها تفكر خارج (الصندوق) أو خارج ما يفكر به المتكاسلون العاجزون، إنها عقول ناهضة تحلم بالتحليق نحو أهدافها وتصل إليها فعلا.
لكن المعارضين لهذا النوع من الابتكار تجدهم في كل زمن، فهؤلاء بالأمس موجودون، واليوم في الحاضر موجودون أيضا، مثلما هم سوف يحضرون في المستقبل أيضا، وهؤلاء هم الناكرون دائما لأي نوع من التطور والتقدم والتغيير، لأنهم عاجزون عن تحقيقه.
يقول الإمام الشيرازي:
(كما استبعد المستخفون بالابتكار إمكانية أن يتكلم الإنسان في داره، ويسمع كلامه إنسان آخر في دارٍ أخرى أو في بلد آخر عبر ما يسمى بالهاتف ومن ثم التلفاز، وهكذا كانوا ينكرون التقدّم الصناعي الذي توصل إليه العلم في ذلك الزمان).
ومن أساليب التي اعتمد عليها المحور الضاغط على المبتكرين، وعلى العقول التي تتصدر مهمة التغيير، أنهم كانوا يرددون حجّة غير صحيحة، حين قالوا إننا لا نفعل أي شيء ولا نقوم بأي تغيير كان حتى ظهور الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، وهذا عذر غير مقبول، ولا يمكن أن يكون سببا لتعطيل العقول الهادفة لتطوير حياة الناس.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(كان بعضهم يعتقد بأنه ليس علينا شيء من الإصلاح حتى يظهر الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وقد أجبنا عن ذلك في بعض كتبنا).
ما حدث بالأمس من ضغوط ضد المبتكرين والعاملين على دفع عجلة التغيير والتقدم إلى الأمام، يحدث اليوم أيضا في واقع المسلمين، فهناك من ينظر إلى المبتكرين بعين الاستخفاف والرفض والمحاربة أيضا، وهو ما نعيش بعض جوانبه اليوم، وعلينا أن نتبّه إليه ولا نسمح بالضغط بالاتجاه الذي يعيد العقول إلى الوراء بدلا من دفعها إلى أمام بقوة.
لم يقف المسلمون مكتوفي الأيدي في ذلك الحين، بل تصدوا للنهضة وواصلوا عمليات الابتكار المتواصلة، وواجهوا الضاغطين ضد التغيير، وظهرت حركات تقدمية عديدة وقوية، كما برزت أسماء لمفكرين حققوا قفزة نهضوية كبيرة في تاريخ المسلمين والبشرية كلها، ولم تُترَك الساحة خالية للمعارضين المتكاسلين اليائسين من التغيير أو الخائفين منه.
الفلاسفة والمفكرون وقضايا النهضة
الإمام الشيرازي يؤكد هذه النقطة فيقول: (لكن في تلك الحقبة الزمنية ظهرت حركات نهضوية في بعض المناطق الإسلامية، كتركيا والعراق ومصر وسوريا، وبعض بلاد فارس كطهران وأصفهان وشيراز وتبريز، تسعى من أجل الجامعة الإسلامية، والدعوة للرجوع إلى قوانين الإسلام الحيوية، والتي نادى بها أمثال جمال الدين الأفغاني، من أجل وقف التدخل الغربي).
إننا في واقعنا الراهن يمكن أن نستفيد من ذلك التاريخ الناصع، حيث تصدى علماء ومبتكرون وفلاسفة ومثقفون لقضايا النهضة في ذلك الحين، وتمكنوا من طرح قضية التغيير والتطوير دونما تردد، وسعوا في إرادة قوة حرة وموحَّدة لدحر العقبات التي كان يضعها المعارضون لتأخير وتعويق عجلة التقدم إلى الأمام.
فـ (كان رواد هذه النهضة يتطلّعون إلى نشر التعليم الشامل، والأخذ بنصيب وافر من الصناعة والزراعة، ومحاربة التخلف والتقاعس في العمل، والوقوف بوجه الظلم والاستبداد والفردية. وكانوا يطالبون بإنقاذ المرأة من الظلم ومن التأخر، لكي تصل إلى مكانتها اللائقة التي قررها الإسلام). كما يقول الإمام الشيرازي.
ولم يتوقف الأمر عند المطالبة بالتغييرات الحقوقية والاجتماعية، بل تعدّاها الأمر إلى المطالبة بالتغييرات السياسية التي تحمي حقوق الإنسان، وتراعي حرمته وحدوده، وتعمل وفق معايير العدل والمساواة والتكافؤ بين الجميع من دون أفضليات ولا محسوبيات.
وكان الهدف الأكثر أهمية لرواد النهضة آنذاك هو ترسيخ منهج الشورى في الحكم، وأهمية شرعية السلطة، وأن الشعب والأمة والإنسان هو الأساس في شرعية هذه السلطة، ولابد من نشر منهج الشورى كأسلوب حياة في الدولة وفي المجتمع بشكل عام، وقد تصدى لهذه التغييرات الكبيرة مجموعة من العقول المبدعة المبتكِرة.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان رواد النهضة آنذاك يطالبون بالشورى، وكان كتاب النائيني "تنبيه الأمّة"، وكتاب الكواكبي "طبائع الاستبداد"، وبعض مقالات جمال الدين الأفغاني، وغيره، هي بعض المحاور التي تدور حولها الثقافة آنذاك).
إن المطلوب دائما من رواد النهضة في ثالوث الزمن المتعاقب، هو الدعوة إلى نشر الأفكار المتقدمة على واقعها وزمنها، وهذا ما يجب أن يتصدى له رواد النهضة اليوم، كما فعل رواد النهضة بالأمس، أما كثرة المعارضين للتغيير وكسر النمط السائد، فإنهم كثيرون، وقد يشكلون الأغلبية من الناس، لكن هذا لا يعني الاستسلام لهم.
كما أكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(لقد كان المثقفون من شباب المسلمين يدعون إلى هذه الأفكار المتقدمة على واقعها في ذلك الوقت، بينما كانت الغالبية من الناس إما هم في معزلٍ عنها أو معارضين لها).
في الخلاصة نؤكد أن الابتكار هو قرين الأزمنة بشكل دائم، وهو سبيل الدول والأمم والمجتمعات نحو التطور، وإن التخلي عنه، والاستسلام إلى العقول الراكدة، والأنماط السائدة، يعني التخلي عن مواكبة الحياة المسرعة إلى الأمام بقوة وإصرار.