السلام الأسَري وأثره في التماسك المجتمعي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2022-09-05 08:06
(يبدأ السلام في الأسرة بعد أن يحصل السلام بين الإنسان ونفسه)
الإمام الشيرازي
التصالح مع الذات قضية مهمة لم يعطِها الناس حجمها وتقديرها الصحيح أو المطلوب، وهذا الخلل الاجتماعي يعود لأسباب عديدة من بينها عدم اهتمام الناس بهذا الهدف، أو جهلهم بالنتائج الوخيمة التي تترتب على غياب التصالح مع الذات، ويكون السلام والاستقرار الأسري في صلب هذا الهدف، كما أن صلة الرحم لها تأثير مباشر على السلام الأسري.
لماذا ينصح علماء الاجتماع بضرورة تحقيق السلام الأسري، إن هذه النصيحة تتكرر في توجيهات وكتابات ومؤلفات وخطابات هؤلاء العلماء، فجميعهم ينصحون بالانطلاق من السلام الأسري إلى السلم الأعم والأشمل وهو السلم المجتمعي أو الأهلي، وغالبا ما يكون للمودة والرحمة دورها في هذا الجانب، كما أن صلة الرحم تشكل نقطة الانطلاق من الأسرى إلى عموم المجتمع لتحقيق هذا الهدف الذي يبدأ بتصالح الإنسان مع ذاته.
لذا يجب التركيز على الأسرة والأجواء التي تصنعها كحاضنة اجتماعية مصغّرة، ينشأ ويترعرع فيها الإنسان، ومنها ينطلق في علاقاته الأوسع، ونقصد بها العلاقات الاجتماعية خارج إطار الأسرة، فإذا تربّى الطفل في أسرته على السلم والسلام والتصالح المستمر مع الذات، فإنه سوف يكون عنصرا مسالما في المجتمع، يُسهم بطريقة فعالة على جعله مجتمعا مسالما.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام، الجزء السابع):
(تبدأ صلة الرحم من الدائرة الصغرى وهي الأسرة، اللبنة الأولى في محيط الأرحام وتعتبر أول وحدة اجتماعية يتدرّب فيها الإنسان على ممارسة علاقاته مع المجتمع، وهي المجال الحيوي الأول الذي تمر فيه الشخصية وتترعرع فيه فضائلها، وتكون أساسا للمجتمع كله، لأنه يتكون منها).
ما هي فوائد السلام بين الإنسان ونفسه؟، ولماذا عدّها الإمام الشيرازي شرطا مهمّا من الشروط اللازمة لتحقق الخير للإنسان؟، إن من أهم الأمور التي طالبَ بها الإسلام هي حفاظ الإنسان على نفسه والتصالح معها، لأن كيانه كلّه أمانه عنده، كالعقل والنفس، والروح، والجوارح وسواها، هذه كلها يكون الإنسان مؤتمَنا عليها.
المطلوب هو مداراة الإنسان لهذه المسمّيات المؤتَمن عليها، ونقصد بها (كيانه كله)، وهناك موازين وأحكام شرعية وعقلية، على الإنسان مراعاتها والالتزام بها في قضية الحفاظ على الأمانة، والتعامل السليم مع الذات وملحقاتها، لكن في حال أخفق الإنسان في هذه المهمة، فإنه سوف يخسر الخير سواء في الدنيا أم في الآخرة، لهذا فإن قضية التصالح والسلام مع النفس تعد في غاية الأهمية بالنسبة للإنسان.
الخسائر المزدوجة للإنسان
هذا ما يؤكد عليه الإمام الشيرازي حين يقول: (يبدأ السلام في الأسرة بعد أن يحصل السلام بين الإنسان ونفسه، وقد أوجب الإسلام هذه المصاحبة وذلك لأن بدن الإنسان وروحه ونفسه وعقله وسائر حواسه وجوارحه كلها أمانة بيده، فالمطلوب مداراتها جميعا حسب الموازين الصحيحة الواردة شرعا وعقلا، حتى يعيش الإنسان بسلم وسلام في الدنيا والآخرة، وإلا خسر ذاته وكلّ الخير في الدارين).
إن الإنسان الذي لا يتدرّب ويستعد باستمرار للتصالح الذاتي، فإن خسائره سوف تكون مزدوجة، أي أنه يخسر الآخر، ويخسر نفسه أيضا، لأن خسارة الذات وعدم التصالح معها تؤدي حتما إلى خسارة الآخرين، ويحدث هذا أولا في الوسط الاجتماعي الأصغر ونقصد به الأسرة، فمن لا يكون متصالحا مع أسرته (الزوج والزوجة والأخوة والأخوات)، لن يكون متصالحا مع المجتمع، وكل هذا يحدث لأن الإنسان في خصام مع نفسه.
وفي هذه الحالة فإنه سوف يخسر الجميع، ويخسر نفسه أيضا، وهنا سوف يكون الضرر كبيرا جدا، فهي خسارة كبيرة وفادحة، حيث يخسر الإنسان كل شيء، يخسر مكانته الاجتماعية والأسرية، ويكون عرضة للإهمال وعدم الاحترام من قبل الآخرين، والسبب يعود إلى تعامله الفج مع نفسه ومع أسرته، ثم ينتقل هذا الصراع ليصبح مع المجتمع بأكمله.
الإمام الشيرازي يقول عن هذه النقطة:
(ربما يخسر الإنسان غيره وربما يخسر نفسه، لكن النتيجة هي خسارة هذا الإنسان لنفسه فهو الذي خسّر وهو الذي خسر، كمن يضرب نفسه أو يقتلها حيث يكون ضاربا ومضروبا في نفس الوقت، وقاتلا ومقتولا كذلك).
كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من الوقوع في هذه المشكلة، (مشكلة عدم التصالح الذاتي)، هناك سبل عديدة يمكنها أن تجنب الإنسان حالة التناقض مع النفس، ثم تساعده على عدم خسارة نفسه، وأهم هذه السبل هي احترام الإنسان للحقوق الذاتية، أي احترامه لحقوق نفسه عليه، فكل إنسان يجب أن يتحمل مسؤولية حقوق نفسه، وهي حقوق معروفة.
أهمية قراءة الصحيفة السجادية
توجد رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام)، وقد تم تخصيص جزء منها لحقوق النفس على الإنسان، وبالإمكان الاطلاع على مضامين هذه الرسالة في (الصحيفة السجادية)، فهنالك شرح وافٍ كافٍ لمن يطلع ويقرأ كي يتعلم كيف يصون حقوق نفسه عليه، وبهذا يتحقق شرط احترام الحقوق الذاتية، ومنها ينطلق الإنسان لاحترام الآخر.
لذلك هنالك ارتباط قوي بين حالة خسارة الإنسان لنفسه، وحالة عدم احترامه لحقوق النفس الواجبة عليه، فمن لا يحترم حقوق نفسه عليه سوف يخسر نفسه، لهذا وجب على كل إنسان أن يحترم حقوق نفسه، حتى لا يخسرها، وبالتالي سوف تتحقق الأنواع الأخرى من التصالح النفسي، وأهمها التصالح الأسري لتحقيق الاستقرار الذي سوف يمتد ليشمل الاستقرار والسلم المجتمعي الأشمل.
يقول الإمام الشيرازي: (إذا أراد الإنسان أن لا يخسر نفسه فعليه أن يلتزم بحقوق نفسه عليه).
وفي ذات الوقت، فإن الإنسان الذي يكون صادقا مع نفسه، وراقبها جيدا، وقادها في الاتجاه الصحيح، ولم يسمح لها بقيادته بصورة خاطئة، فإنه في هذه الحالة سوف يكون قادرا على نقل حالة الصلح من نفسه وذاته إلى الآخرين، فيكون متصالحا معهم، وبهذه الطريقة يستطيع خلق التصالح الأسري الذي يقود بدوره إلى السلم والاستقرار المجتمعي.
وهكذا تكون الأسرة مصدرا للسلم والاستقرار الفردي والمجتمعي في وقت واحد، لاسيما إذا كان الإنسان واعيا لقضية التصالح مع الذات، وفاعلا قويا مع النفس وضابطا لها من مغريات الحياة الكثيرة التي قد تجعله ينزلق في مساراتها ومساربها.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة: (إذا صدق الإنسان مع نفسه وأصلح ما بين ذاته ونفسه فيمكنه أن يكون مصلحا للآخرين أيضا).
وبهذا نخلص إلى أن التصالح مع الذات يقود إلى السلام الأسري، ثم يجعل الإنسان متمسكا بالاستقامة، وسائرا في الصراط المستقيم، لينعكس ذلك على الأسرة ويُصْلِح أفرادها، ويجعل أجواءها مسالمة، لتصبح هذه الأسرة نقطة انطلاق إلى السلام المجتمعي كله.
من هنا يقول الإمام الشيرازي:
(إذا كان الإنسان مصاحبا لنفسه صحبة حسنة حسب ما أمر الله تعالى، يكون سالكا بنفسه صراطا مستقيما وطريقا سوّيا سليما إلى الهدف الذي يريده. ومن شأن هذه النتيجة أن تنعكس بالإيجاب على النواة الأولى في المجتمع ألا وهي الأسرة).
لهذا من يريد أن يصنع مجتمعا متماسكا، متنعما بالاستقرار والسلم الأهلي، فإنه يجب أن يصنع أسرة مسالمة أيضا من خلال مراعاة التصالح مع النفس والذات، فالإنسان المتصالح يكون قادرا على صنع أسرة متصالحة، ومن الانتقال من هذه الدرجة، إلى الدرجة الأكبر وهي صناعة المجتمع المتصالح المستقر الآمن والمسالم.