النفط وأثره في التحول الاقتصادي المستدام
باسم حسين الزيدي
2022-06-23 05:38
الثروات الطبيعية (النفط والمعادن وغيرها) يمكن ان تتسبب في إفقار وتعاسة المجتمعات التي لا تحسن التصرف في إدارة هذه الموارد والاستغلال الأمثل لها، وبالأخص المجتمعات الريعية، التي غالبا ما تعاني من المديونية الخارجية وارتفاع معدلات البطالة والتضخم ونسب الفساد والضرائب وتراجع الحريات وغيرها من السلبيات التي ترافق هذا النوع من النظام الاقتصادي الفاشل.
لقد شخص المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي هذه المشكلة في وقت مبكر جداً، وخص بالذكر البلاد الإسلامية وفي مقدمتها العراق، التي حبا الله (عزوجل) العديد منها بثروات طبيعية ضخمة يمكن ان تغير واقعها الاقتصادي المتأرجح بواقع اقتصادي ثابت وقوي ومنتج يرتكز على ثوابت علمية تجعله في مصاف الدول المتقدمة.
وفي موضوع البحث الذي سنركز فيه على (النفط) في بلد كـ(العراق) وأثره في تشكيل الاقتصاد الريعي فيه، خصوصاً وانه يشكل ما يزيد عن نسبة 90% من دخله القومي، الامر الذي حول هذه السلعة الى سبب مباشر في إعاقة أي خطوة نحو إقامة (اقتصاد مستدام) يمكن ان يشكل نقلة نوعية في تاريخ هذا البلد على المستوى الاقتصادي وما سيرافقه من تغيرات جذرية على المستويات الأخرى وفي مقدمتها السياسية.
إضافة الى العوامل الأخرى المؤدية للتراجع الاقتصادي والفقر والبطالة والمستوى الاقتصادي المتردي الذي تعاني منه هذه الدول ومنها العراق، وما هي الحلول التي يمكن طرحها لحل هذه الازمة.
ماذا بعد النفط؟
لقد طرح الامام الشيرازي (رحمه الله) قبل عشرات السنين السؤال الأبرز الذي ما زال البعض يتردد في طرحة او مناقشته حتى يومنا هذا: (ماذا بعد النفط)؟
وقد لخص الموضوع بقوله انه: "موضوع ذو أهمية كبرى للمسلمين، لأنهم يعيشون فوق أرضٍ حباها الله بهذه النعمة الكبرى، وهي تعد الركن الأول في اقتصاديات العالم الإسلامي منذ قرن من الزمن، واليوم يواجه المسلمون خطرا كبيرا، ذلك أن النفط في حالة نضوب، ولربما لا يستطيع البعض أن يتصور الكارثة التي ستحل قريبا عندما تجف آبار النفط، لكن ليس الأمر، فيما إذا وضع تخطيط حكيم له، بتلك الخطورة، فنحن نعيش فوق أرض أنعم الله عليها بشتى النعم، وأكبر نعمه هي الإسلام، الذي يعمل على تفجير طاقات الأمة، وبعثها من أجل البناء والرقي والازدهار.
فيما حدد المشكلة النفطية في نقطتين رئيستين هما:
الأولى: من المعروف أن النفط في حالة نفاد، فما تبقى في الآبار في أحسن الافتراضات سيبقى نصف قرن من الزمن.
الثانية: العامل الآخر الذي يهدد بغلق أنابيب النفط هو سقوط قيمته بحيث تكون تكاليف استخراجه أكثر من عائداته>
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، حتى وان لم تنضب ابار النفط فان العالم، وتحديداً الدول المتقدمة صناعياً، يتجه نحو بدائل الطاقة النظيفة نتيجة لما تعانيه الكرة الأرضية من التحولات المناخية والتلوث وارتفاع درجات الحرارة نتيجة للاحتباس الحراري، وبالتالي العزوف او تقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للطاقة، اما النقطة الثانية فالسعر الحقيقي او العادل للنفط لم يتحقق في يوم من الأيام، وهو يتأرجح بين الارتفاع والانخفاض بحسب المؤشرات والعوامل السياسية والاقتصادية التي ترافقه في الغالب، وبالتالي فان الامام الشيرازي بين حقيقة ان النفط لن يكون السبب الرئيسي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي او التنمية الاقتصادية، وانما كعامل مساعد او ثانوي.
"إذا استقرأنا أوضاعنا الاقتصادية يتضح لنا أن المديونية والمرض والجهل والفساد، ترجع فيما ترجع إليه، إلى عامل الفقر، وإذا أردنا دراسة أسباب الفقر نجد أن من أهم عوامله الاستبداد، فالمستبد يكبح جماح الطاقات والكفاءات ويعطل العقل المبدع الذي يخطط ويخترع ويبتكر، ويشل حركة المجتمع والفرد، إضافة إلى كل ذلك، فإن ثروة الأمة تذهب هدرا نتيجة المنهج غير الصحيح الذي يتلخص في عدم الشورى وعدم وجود الأحزاب الحرة المستندة إلى المؤسسات الدستورية".
فيما يحدد الشيرازي إشارة سريعة لبعض العوامل الأخرى المؤدية لإفقار البلاد والعباد على المستوى الاقتصادي:
أولا/ سرقة الحكام وأصحاب النفوذ:
يستحوذ أصحاب النفوذ أو الحاكم المستبد، العراق مثلاً، على أموال الشعب، ويغتصبها بمختلف الذرائع والحجج، وليس بمقدور أحد أن يحاسب الحاكم على تصرفاته، لأن من يريد المحاسبة يلزم أن يستعد للسجن والتعذيب والاتهام وأخيراً الإعدام.
ثانيا/ الضرائب:
من عوامل إفقار الشعوب فرض الضرائب الباهظة بغير حساب لصالح الحكام، حيث يستلزم ازدياد الشعب فقرا ويزداد عدد معدود من أفراد العائلة الحاكمة ثراء، وغالباً تذهب الثروة المتجمعة إلى البنوك الغربية، كما أن الضرائب تثقل الطبقة الفقيرة بشكل رهيب وتزيدهم فقراً على فقر.
ثالثا/ البطالة:
عندما تضع الدولة القيود والأغلال على حرية الزراعة والتجارة والصناعة والثقافة والسفر وإبداء الرأي وحيازة المباحات، وعندما يتوقف الإنتاج في المجتمع، فإن النتيجة تكون الفقر والفاقة.
رابعاً/ كثرة الموظفين:
إن الزيادة في عدد الموظفين العاملين في الدوائر الحكومية، تزيد البلاد فقراً على فقر ومنشأ هذه الظاهرة هو جهل الحكام بإدارة البلاد ورغبتهم في الأبهة وزيادة المصفقين لهم.
خامساً/ قلة الكفاءات وإبعادها:
بسبب السياسة التي تمارسها الحكومات الاستبدادية بجعل المعيار المنسوبية والمحسوبية، فقد هبطت نسبة ذوي الكفاءة والخبرة في البلاد، وتحولت الأمور إلى أشخاص لا يعرفون إدارة أمور البلاد من زراعة وصناعة وتجارة داخلية وخارجية وما إلى ذلك، ونتيجة لذلك يأخذ الاقتصاد في الانهيار إلى أن تقوم الثورة وتبدأ المشكلة بحكام جدد من جديد وهكذا دواليك.
ما هو العلاج؟
بعد ان شخص الامام الراحل السيد محمد الشيرازي مكامن الخلل وأسباب ضعف الاقتصاد الريعي او اقتصاد النفط، حاول بحث طرق العلاج ووضع الحلول المناسبة لوضع الأمور في مسارها الاقتصادي الصحيح، لخلق اقتصاد حقيقي ومتماسك يمكن ان يحقق تطلعات وامال المجتمعات الإنسانية ويحفظ كرامتها ويحقق لها السعادة والرفاه والتطور.
أولا/ النفط والبدائل:
استثمار عائدات النفط او جزء منها في برامج مستقبلية منتجة ورابحة، هو ما ركز عليه الشيرازي في طرحه: "يجب رصد مقدار معين من عائدات النفط لصرفها في خطط مستقبلية تستطيع أن تسد النقص الحاصل عن نضوب النفط، فهناك موارد كثيرة يمكن استخدامها بطريقة بحيث تستطيع أن توفر الرأسمال الكبير للدول النفطية، إذا أحسنت استخدامها".
واكد ان هذا التحول او البديل إلى: "تربية الكادر الخبروي لإدارة المعامل مع سائر شؤونها وما يتعلق بها: من تحصيل المواد من الأسواق العالمية والتسويق وغير ذلك، فلا بد من رصد نسبة معينة من أموال النفط في إنجاز منشآت صناعية قرب البحار والأنهار وشبهها، فهناك دول في العالم تقدمت صناعياً كاليابان، في الحال الحاضر، وهي لا تملك النفط، وكان تقدمها مرهونا بالخطة الحكيمة الموضوعة بسبب خبرائها".
واللازم أن يلاحظ التخطيط لذلك عدة أمور:
1. إقامة السياسة الصناعية على قاعدة حاجة الأمة في الحاضر والمستقبل، وليس حسب المخطط المرسوم من قبل الدول الكبرى، إن ربط الصناعة بالحاجة هي أهم قضية في استثمار عائدات النفط للأمور المستقبلية.
2. رعاية التنسيق والتوازن بين مختلف المعامل المحتاج إليها في البلاد الإسلامية كي لا يحدث إفراط وتضخم في جانب، وتفريط ونقص في جانب آخر.
3. تحقيق التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية قال تعالى: (تعاونوا على البر والتقوى).
ثانيا/ إطلاق الحريات:
إذا لم يكن بمقدور النفط أن يعالج مشكلة الفقر، فإن في إطلاق الحريات خير علاج لهذه المشكلة، فالحرية تعني توفير فرص السعي والعمل لكافة الناس وهي تعني زيادة نسبة الإنتاج وجودته، وبالإنتاج ينتشر الغنى ويتبدد الفقر، فعندما تنتشر الحرية لن يجد شبراً من الأرض غير معمور أو غير مزروع، فلا بد من السماح لعامة الناس بعمارة وزراعة كل الأراضي الموات وبدون مقابل فإنّ الأرض لله ولمن عمرها لا للدولة أو غيرها، وعلى الدولة والجمعيات الخيرية والأحزاب الحرة مساعدة الناس على تحويل تلك الأراضي القاحلة إلى أرض زراعية أو صناعية أو سكنية، وذلك تحت إشراف الخبراء والمهندسين وتسهيل عملية الاستيراد والتصدير وشبه ذلك.
وبالمقابل يجب على الدولة ألا تثقل نفسها بالأعمال والموظفين وأن يكون عملها التخطيط والإشراف، ولا غير، على سير برامجها الاقتصادية والثقافية والتربوية وغيرها.
وان تترك التجار وأصحاب الأموال وكل من أحب مهمة المشاريع الخدمية من أمثال فتح شبكات الكهرباء والماء والتليفون والمواصلات، لشأنهم بكل حرية.
وأن نترك للجمعيات الخيرية وللمتبرعين فتح المدارس والمساجد والحسينيات والمستوصفات والمستشفيات والبنوك والإذاعات والتلفزيونات وما أشبه ذلك، كما عليها إلى جوار السماح للناس بكل ذلك، أن تنفق واردات الدولة، وبإشراف منتخبي الأمة، في كل تلك المجالات أيضاً.
إن عمل الدولة الأساسي الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد فلا بد من وجود جهاز للحفاظ على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم في الداخل، ولا بد من وجود جيش للحفاظ على استقلال الدولة من أطماع الدول الأخرى.
وليس عملها أن تخنق الناس وتعطل كفاءاتهم، وتتصدى للقيام بكل الأعمال والمشاريع، وهذا هو طريق السعادة سعادة الدولة وسعادة الشعب، وحينذاك وحده يرتفع الضيق>
الخلاصة:
ان مدى الرؤية الثاقبة للسيد الشيرازي (رحمه الله) في تشخيص مكامن الخلل الاقتصادي وإيجاد الحلول المستقبلية لها يوضح الاهتمام الكبير الذي كان يوليه لمشاكل العالم الإسلامي والإنساني على حد سواء، وتبين محاولاته المستمرة في بحث أفضل الحلول وايجاد أقصر الطرق للوصول الى غاية اسعاد البشرية وتوفير سبل العيش لها بكرامة وحرية ورفاهية.
ولعل ما طرحه من رؤية مستقبلية في موضوع النفط او الاقتصاد احادي الجانب، وطرق معالجتها للتحول نحو الاقتصاد المتنوع والمستدام، يمكن الاستفادة منه بشكل أكثر دقة وتفصيل من قبل أصحاب الاختصاص، في بلد مثل العراق الذي عانى ويعاني، منذ عقود، سوء استخدام موارده الاقتصادية وما يرافقها من مشاكل أخرى على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوق والحريات والقوانين.