شهر رمضان: بلسم القلوب المنكسرة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2022-04-11 06:57

عندما نقول بأن ضغوط الحياة كبيرة على الإنسان، فإننا في الحقيقة لا نأتي بجديد، فكل إنسان على قيد الحياة يواجه مصاعب شتى، وبعضها قد تكون خارج نطاق التحمّل، منها المصاعب المادية الملموسة، وأخرى تُثقل الإنسان نفسيا وفكريا ومعنويا، لذلك نجد الجميع يسعى لإيجاد السبل التي تخفف من وطأة المصاعب وثقلها عليه.

هناك من يعرف أن شهر رمضان أحد أعظم الفرص التي تساعده على تخفيف مصاعبه الدنيوية بشقّيها المادي والمعنوي، وهؤلاء ينتظرون حلو شهر (الله) بفارغ الصبر، وعلى أحرّ من الجمر، لأنهم في هذا الشهر يجدون أنفسهم، ويتعرفون عليها جيدا، ويشعرون بأن أنفسهم هادئة مستقرة مطمئنة، بعيدة عن توترات الحياة الكثيرة.

هؤلاء هم المستقبلون لشهر رمضان بمعرفة حقيقية لقيمة هذا الشهر، وهم ينظرون إليه على أنه فرصة لا يمكن تعويضها من ناحية استثماره لتحسين شخصياتهم وأفكارهم وحتى أعمالهم، لدرجة أن شخصياتهم قد تُبنى من جديد في هذا الشهر، ويغذون أنفسهم وقلوبهم بالقيم والأخلاق والمبادئ التي تعصمهم من أثقال المشاكل والمصاعب التي تقل أو تزول بمتانة العلاقات الاجتماعية والتزاور والتخفيف من وطأة الحياة.

لذلك فإن شهر رمضان بالنسبة لمن ينتظر مجيئه هو شهر الاطمئنان والاستقرار وجبر القلوب التي تكسرها أثقال الحياة وصراعاتها، إنه الشهر الذي يعيد الأمل للنفوس المقهورة، وهو شهر الخيرات والبركات، بحيث تتغير فيه النفوس نحو الأحسن وتصبح بكامل عنفوانها.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يرى في كتابه القيّم الموسوم: بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم) أن:

(شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة إلى النفوس المعذّبة والقلوب المنكسرة والأجساد المنهكة، انّه ضماد لجراحات القلب والجسد؛ يخفّف عنها عناء الحياة ومشاق العمل والكدّ، في لياليه المقمرة بالآمال وبأيامه الزاخرة بالعلاقات والزيارات وبالمحبة المتبادلة).

شهر الخيرات والسعادات

هذا هو شهر رمضان، يضمّد جراحات القلوب وحتى الأجساد، ويريحها، ويعيد إليها بهجتها، ويجعلها تجدد نظرتها إلى الحياة وإلى التعامل الصحيح مع الآخرين، وتلتزم بالأحكام والقيم والعادات السليمة التي تنظم التعاملات المختلفة بين الناس، ففي هذا الشهر تنتشر الفضيلة إلى أقصاها، وتخشع قلوب الناس وترقّ نفوسهم، ويُطرد الشياطين بعيدا عنهم، بعد أن يكونوا أكثر قدرة على مواجهته وطرده من حياتهم.

لذلك فإن فرصة شهر رمضان كبيرة ونادرة، وكلها خيرات ومسرات وسعادات للقلوب والنفوس، ولهذا يجب أن يستثمر كل إنسان فرصة شهر رمضان، لكي يستفيد منها أعظم الفائدة من خلال مراجعة نفسه، ومحاسبتها، وتصحيح ما زلَّ منها وتنمية ما جاد منها بالمحاسن والطيبات، فمن يعمل صالحا سوف يجده بانتظاره بالإضافة إلى الفائدة الفورية التي تتجلى في حياته، ومن يعمل الشر سيجده بانتظاره أيضا وسوف يتحمل عبء أعماله.

هكذا على الإنسان أن يستعيد رشده، وأن يكف عن الغلو ويبتعد عن الفحشاء بأنواعها، وأن يؤمن بأن التعامل مع الآخرين وفق معايير الرحمة والخير لهو أفضل له ملايين المرات من اللهاث المحموم وراء أموال السحت، أو مغانم الحرام بأنواعها، حتى لو كانت كنوز الأرض كلها، أو أعلى المناصب، أو أقوى الوجاهات، فالقوي هو الإنسان الذي يستثمر التوبة والعمل الصالح، ويجعل من شهر رمضان نقطة بداية جديدة للفوز بالسعادة الأبدية.

صلاح الإنسان في شهر رمضان هدف سهل جدا، ويمكن تحقيقه في هذا الشهر أسرع وأدقّ من كل الشهور الأخرى، نظرا لأجواء الغيمان التي تسوده، وروح التعاون والرحمة، وفتح أبواب التوبة على مصاريعها، لهذا عليه أن يتوجه نحو استثمار أفضل لشهر رمضان، ويهتدي ويُهدي، ويضاعف من عدد المؤمنين الداعمين للدين وللحق وللخير وللقيم الصالحة التي تبني الإنسان، وتجمّل الحياة وتجعلها في أفضل صورها.

يرد في كتاب الإمام الشيرازي: )على المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه ان يكون أفضل مما كان عليه، وان يعاهد الله سبحانه وتعالى ان يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية).

كيف تنظّف غبار الحياة؟

لابد أن نفهم ما هو معنى (غبار الحياة)، فهذه الجملة وإن كانت مجازية في معناها، إذ ليس هناك غبار حقيقي متخصص بالحياة أو متعلق بها ماديا، لكن المقصود بغبار الدنيا، هو الذنوب الصغيرة والمتوسطة والكبيرة التي يرتكبها الإنسان، هذا هو الغبار الحقيقي السلبي للحياة، وهو بحاجة إلى تنظيف وإزالة مستمرة.

حين يتراكم غبار الذنوب والمعاصي على القلوب، ويصبح طبقات فوق طبقات، فإن أمر إزالته يصبح أصعب وأكثر صلابة وعنادا، لهذا كلّما كانت طبقة غبار الذنوب خفيفة وقليلة يجب أن نسارع إلى غسلها وتنظيفها وإزالتها، وشهر رمضان هو أفضل وقت وأعظم فرصة لنفض هذا الغبار، والتخلص منه سريعا والعودة إلى رحاب الله بقلوب ونفوس بيضاء نظيفة.

في حال تلكّؤ الإنسان عن نفض غبار الحياة، فإنه سوف يُصاب بعمى البصيرة، وليس البصر، فهو يرى بعينه، لكنه لا يرى بقلبه أو بصيرته بسبب الغبار المتراكم عليها، وهكذا لا يرى بوضوح ما ينفعه، وينحرف عن الجادة الصواب، ولا يرى طريق التقدم في حياته، لذا عليه الإسراع لتنظيف وإزالة هذا الغبار من قلبه، وشهر رمضان فرصته الذهبية للقيام بهذا العمل على أفضل وجه.

يشير الإمام الشيرازي إلى:

إن (الانسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأنّ غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة وتحول بينه وبين طريق التقدم).

ليس عمى البصيرة وحدها ما يُصاب به الإنسان بسبب غبار الذنوب، وليس فقدانه لطريق التقدم فحسب، وإنما سوف يغوص عميقا في لجج الجهل، وسوف يتخبط في بحار اليأس، ويضيع تماما في دائرة التخلف المغلقة الأبواب والنوافذ، فيعيش في حياة متخلفة، ليس فيها غير اليأس والجهل والانحدار المتواصل نحو الأسفل.

في شهر رمضان (لابدّ من نفض ما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف)، هذا ما نقرأه في كتاب الإمام الشيرازي، وما على المتّعظين سوى الانتباه لما يجري في حياتهم، لاسيما أولئك الذين لا يفرقون بين غبار الذنوب ومغانم الحياة.

كل شيء في هذا الشهر الكريم يتحول إلى فائدة للناس، ويحث على الحركة والتبصّر، وكل كلمة يكون لها وقعها الكبير ومعناها الجلي الواضح المؤثر، فالكلمات هنا تتحول إلى حركة وبركة وإنجاز يشمل حياة الفرد والجماعة على حد سواء، لذا نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي:

(في شهر رمضان تترجم الأفكار إلى وقائع.. وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة).

وبعد كل ما تقدم، أليس من الحري بالإنسان أن يستثمر كل لحظة من لحظات شهر رمضان لكي يطور نفسه ويحميها من الأخطاء، ويمنع تراكم الغبار فوق قلبه ونفسه وبصيرته، نعم لابد لكل إنسان أن يعطي لهذا الشهر المكانة التي يستحقها، باعتباره شهر إنقاذ للناس من مهالك الدنيا بمختلف أشكالها وأنواعها ومدى خطورتها. فلابدّ ان نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر. ولابدّ ان نستغل كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي