رؤية المستقبل في فكر الامام الراحل الشيرازي

حمد جاسم محمد

2015-07-25 06:25

ان تاريخ المرجعية العظمى هو تاريخ حافل، ولقد انتهت الرئاسة والقيادة المرجعية إلى جمهور من عباقرة الأمة وأساطين الدين وزعماء الفكر الإسلامي، فلا مجال لذكره هنا في صفحات خصصت لذكرى الامام الأستاذ المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى المرحوم المغفور له السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، في ذكرى وفاته، ونذكر بإيجاز بعض خصال ومزايا هذه الأسرة العملاقة، وتاريخه العلمي وجهاده الخالد.

آل الشيرازي من أعرق الأسر العلمية العلوية في كل من كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وسامراء، وأشهرها في الملأ الشيعي، حيث نبغ منها جمهور كبير من أعلام الفكر وفرسان البيان وزعماء الدين وأبطال الجهاد وكانوا من حملة لواء العلم ودعائم المذهب والمرجعية العظمى خلفاً عن سلف، أباً عن جد، كان لهم دور حساس في العالم الإسلامي والمجامع العلمية العالية والنوادي الأدبية لأكثر من قرنين، وإن آثارهم ومآثرهم غرة ناصعة في جبين الدهر تتلألأ ما دامت الحياة، وكان لهم تأثير واضحٌ وكبيرٌ في صناعة الأحداث التي مر بها العالم الإسلامي، خصوصاً في البلدين المسلِمَين" إيران والعراق".

ان الامام "آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي" نادرة من نوادر التاريخ الشيعي، في شخصيته، وسيرته، وفكره، وآثاره.. ومع مرور الأيام سوف تتجلى جوانب العظمة في هذه الشخصية الفريدة، وينمو الأثر الذي تركه على الناس عاماً بعد عام، فهو في الدرجة الأولى مؤمن شديد الإيمان بالله واليوم الآخر، متدين شديد المحبة لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان زاهداً في زخارف الدنيا ومباهجها، ثم هو مرجع للفتوى، وزعيم ديني، من الطراز الأول.

ومن ينظر إلى كتبه ومؤلفاته يراه صاحب نظرية فكرية للنهوض بالأمة، وبناء مجتمع سعيد. ليس إلا، وصاحب فكر مستقبلي، ليسير بالامة نحو مستقبل مرسوم بكل دقة نحو الهدف الاسمى وهو الالتزام بالدين وعمل الخير.

ان علم المستقبل في الأساس يتحدث عن الثوابت المستقبلية، وهو يحاول أن يكشف ويعرّف الثوابت التي تحكم المستقبل، وهذا المستقبل بين قريب ومتوسط وبعيد، إلا أن علم المستقبل الحديث يقتصر على المستقبل القريب والمتوسط، ولا يصل إلى البعيد الدنيوي المتعلق بمرحلة ظهور الإمام المهدي المنتظر –عجل الله تعالى فرجه الشريف- كما أن علم المستقبل الحديث لم يتطرق إلى مستقبل ما وراء الحياة الدنيا، الا ان الامام الشيرازي في كتابه " فقه المستقبل" قد شمل المراحل الثلاثة بأكملها، كما تضمنته دفة هذا الكتاب حيث تحدث أولاً عن المدى القريب والمتوسط فيما يسبق مرحلة ظهور الإمام الحجة، ثم عقد فصلاً آخر لما بعد الظهور، كما أفرد فصلاً ثالثاً للحديث عن مراحل ما بعد هذا العالم، عالم البرزخ ثم القيامة ثم الجنة والنار.

ويشكل فكر الامام الراحل اية الله العظمى محمد الشيرازي رحمه الله، بوابة الانطلاق نحو دراسة واستقراء المستقبل بكل ابعاده، ويتميز فكره بالعمق في تحليل الوقائع، ومحاكات الواقع، والتجديد، لذلك يمكن لأي متابع ان يرى بوضوح الضوء الفكري المستقبلي في معظم الرؤى والافكار التي تنطوي عليها مؤلفات وكتابات ومحاضرات الامام الشيرازي، ففي كتابه القيّم، الموسوم بـ (فقه المستقبل)، يقول حول طرق الكشف عن غوامض المستقبل: "يمكن أن نتنبأ بالمستقبل بواسطة دراسة شمولية وتحليلية للتاريخ الماضي، وكذلك دراسة شاملة للحاضر. فإن دراسة الماضي تكشف للإنسان آفاق المستقبل، وعادة أفكارنا عن المستقبل تأتي من الماضي لا من المستقبل نفسه" ويقول تحت عنوان: المثقف والريادات المستقبلية: " إن مهمة الريادات المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور".

وربط سماحة الامام الراحل في كتاباته بين الحاضر والمستقبل، بمعنى انه حينما يركز على عالمنا المتحرك آنيا، فهو يلقي الضوء الساطع على خفايا المستقبل، وقد كتب عن البيئـة وعن الاقتصاد والحقـوق والقانون وعلم النفس والإعلام والسياسة والمستقبل، وعن كـل ما له تأثير علـى حياة الإنسان، واستطاع بهـذه الكتابات القيّمـة أن يستوعب حضارة الإنسان، واعتمد في تأليفاته على أدب ملتزم ونزيه، ينظر إلى الأدب كوسيلة لتحقيق الغاية، وهي إيصال الفكرة بطريقة سهلة وقوية إلى المخاطب، لهـذا التزم بالأسلوب السهل المبسّط، ولم ينس فـي الوقت نفسه مستوى القارئ، العالِم وغير العالِم، وهذه أهم قاعدة في البلاغة: أن يُحدّث الكاتب أو الخطيب الناس على قدر عقولهم وإدراكهم وفهمهم للأمور.

يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن: (يشهد عالمنا اليوم حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً إذا كان مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا. ومواكبة المستقبل تتمّ: عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه)، ونقرأ أيضا أفكارا قمة في الدقة والوضوح لسماحة الامام الشيرازي حينما يقول: (معرفة المستقبل أمر واجب في الجملة، والتخطيط له واجب آخر؛ لأنهما مقدمة الواجب، وهي وإن لم تكن كذلك شرعاً إلا أنها لازمة عقلاًـ وبهما يتم تحقيق أغراض المولى جل وعلا الملزمة، وهذه تعد أول خطوة في هذا الاتجاه. لذا لابد من معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه وجزئياته، فبدون المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يحسن التخطيط للمستقبل، وبدون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب المستقبل سقوطه).

مشيراً إلى أن الجذر الفكري لكل تغيير نحو المستقبل هو العمل على تجسير الفجوة بين ما هو قائم وما ينبغي أن يكون وهو ما انطلق منه الإمام الذي لاحظ الواقع السيئ الذي يعيشه المسلمون الذي لا ينسجم مع ما ينبغي ان يكون عليه الإسلام فكان التخلف والاستعمار والتشرذم والتجزئة والاستبداد فانطلق الإمام من هذه الإشكالية ليرسم معالم التغيير مرتكزاً على ثلاث نقاط مهمة هي:

- صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف.

- بناء نخبة دينية واجتماعية جديدة تعمل للالتصاق بالمبادئ وتتحرك لزرع الوعي والمعرفة الدينية الصحيحة لتحول الإنسان إلى شخص فاعل.

- المساهمة في بناء الحركات السياسية والاجتماعية التي تتبنى الإسلام وتعمل لتنفيذه في الأرض وتأخذ على عاتقها مشروع الإسلام سياسيا.

ويضيف سماحته: "إن المستقبل –عادة-ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً، فالتغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مُصاناً، ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل، ولا تثنيه متغيراته".

وتحت عنوان: كيف نتنبأ المستقبل؟ يتحدث –رحمه الله- عن أهمية دراسة الماضي ويرى: "أن دراسة الماضي تكشف للإنسان آفاق المستقبل"، ويقول: "عادةً أفكارنا عن المستقبل تأتي من الماضي لا من المستقبل نفسه، وذلك واضح لأن المستقبل لم يأتِ بعد، فما حدث في الماضي هو مصدر إرشاد الإنسان إلى ما قد يحدث في المستقبل"، ويضيف: "المستقبليون لا يقتنعون بمجرد فهم أبعاد ما حدث في الماضي، بل إنهم يستخدمون معرفتهم الفنية والتقنية الآتية في فهم احتمالات المستقبل، والتخطيط له أيضاً، فالماضي قد مضى بخيره وشرّه، وقيمة الماضي تكمن بإمكان استخدامه لإنارة المستقبل، أما كيف يمكن استخدام الماضي لدراسة المستقبل فإن افتراض أن الأوضاع التي كانت في الماضي سوف تتواصل في المستقبل مع لِحَاظ المتغيرات القطعية والمحتملة، مضافاً إلى دراسة الأسباب والمسببات والعلل والمعاليل، فان كل سبب ينتهي إلى نفس المسبب، وتلك سنة الله الثابتة في الكون".

كما يتحدث –قدس سره-عن الحاضر قائلاً: "يتوقع البعض أن الحاضر مرآة المستقبل في الجملة، لأن الوضع الذي يلحظه الإنسان في هذا اليوم سيبقى بنفسه إلى فترة من الزمن، أو يتغير قليلاً في المستقبل، قد يكون التغيير كثيراً أو كبيراً لكن الأصعب في الأمر هو اكتشاف (المتغيرات) التي تؤثر في النسبة والكيفية وفي اكتشاف درجة التغيير أو التطور".

ويصل الامام الشيرازي إلى خلاصة مفادها: "إن العقلاء كافة بحكم العقل لابد أن يفكروا بالمستقبل، فكما أن طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل، وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً أو مُدرّساً أو كاتباً أو خطيباً، فإنه يتعب ويسهر ويجتهد، وأحياناً يجهد نفسه خمسين سنة فيما لو طلب المرجعيةـ، وهكذا المزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة أو قصيرة بانتظار الثمار، كذلك على العقلاء أن يفكروا ويخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد".

ما تقدم أعلاه كان لمحة خاطفة تناولت بعض الجوانب الشخصية والفكرية للامام الشيرازي وهي لم تأت إلا بنذر يسير من روافد شخصيته العصامية، ولم تقرأ إلا بعض الجوانب العامة من أفكاره ومرئياته، وستبقى شخصيته محوراً فعالاً في نوادي الفكر والثقافة والأدب، وستغدو نظرياته وأفكاره واستشرافه لملامح المستقبل محط أنظار المتنورين والمهتمين لمصالح الأمة ونهضتها.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

...................................
1- مقتطفات من كتاب " فقه المستقبل" للإمام الراحل الشيرازي "قدس سره الشريف"، على موقع،
www.m-alshirazi.com/print.php?id=1687
2- الإمام الشيرازي في سطور، على موقع،
www.alshirazi.com/autobiography/shirazi/shirazi.htm
3- جماعة من العلماء. أضواء على حياة الإمام الشيرازي، ط4، (لبنان، بيروت)، 1993، ص 13، www.ahlulbaitonline.com/karbala/New/.../book.php
4- حسين صالح الشيخ، تأملات في الفكر السياسي عند الإمام الشيرازي، على موقع،
www.alshirazi.com/roaa/books/alhekmah/part1/7.htm
5- قراءة التطلعات والرؤى في فكر الإمام الشيرازي، على موقع،
www.annabaa.org/mlf/anniversary/1432/index.htm
6- الإعلام والمستقبل في فكر الإمام الشيرازي، على موقع،
www.annabaa.org/mlf/anniversary/1428/005.htm

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا