قواعد العمل الخيري في منهج الإمام الشيرازي

جميل عودة ابراهيم

2021-05-18 03:52

ترك المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي عددا كبيرا من المؤسسات الخيرية والمنظمات الإنسانية، توزعت في العديد من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، وشملت قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا. كالمدارس العلمية والحوزات الدينية، وصناديق التكافل الاجتماعي، ومؤسسات رعاية الأيتام والأرامل، والمراكز الثقافية والإعلامية، ومراكز الدراسات والبحوث، بما فيها مراكز إنسانية تعنى بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية على وفق المنهج الإسلامي.

وازدادت هذه المؤسسات وتوسعت حتى يكاد لا يخلو بلد من حسينية، أو مؤسسة، أو مدرسة، أو صندوق، أو مركز ثقافي، أو قناة فضائية، كان هو قد وضع لبناتها الأولى أو أشرف عليها، أو تبناها أحد تلامذته أو أحد مرديه وأتباعه.

لقد كان اهتمام الإمام الراحل بهذه المؤسسات والجمعيات والصناديق الخيرية أمرا لافت للنظر، وباعثا لطرح عدد من الأسئلة التي نجد إننا بحاجة إلى الإجابة عليها. لأن رجال الدين والمراجع الدينية في العادة إما أن يمارسوا الدعوة إلى الدين والمذهب، وتدريس الفقه والعلوم الدينية على طلبتهم ويتركوا ما وراء ذلك. وإما أن يؤسسوا جمعية واحدة أو مدرسة واحدة أو صندوق واحد ويكتفوا بذلك، لأن العمل الخيري ليس غرضا أساسيا من أغراض رجال الدين، ولا يتمكن كل رجل دين أو مصلح من القيام بذلك.

فلماذا كان الإمام الشيرازي دون سواه من المراجع الدينية يهتم بتأسيس المؤسسات الخيرية والتربوية والإعلامية اهتماما يكاد أن يغلب على اهتماماته الأخرى؟ ولماذا كان يدعو المؤمنين دائما -سواء في لقاءاته أو في مؤلفاته- إلى أهمية البدء بتأسيس هذه المراكز، ودعوة الناس إليها، مع قلة عدد المنتمين، ومع ضعف التمويل المالي لها؟ وماهي النتائج التي حققها من خلال تلك المؤسسات على المستوى الإنساني والتعليمي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي، فضلا عن الجانب السياسي والإعلامي؟

ينطلق الإمام الشيرازي في تبنيه فكرة تأسيس الجمعيات والمؤسسات والصناديق الخيرية من منطلق أن الأديان السماوية كافة إنما تقوم على قاعدة الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك له، وإن الله قد بعث الأنبياء والرسل من أجل هداية عباده من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، وإن الله تعالى في الآخرة سيحاسب عباده على أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يرى، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يرى.

وإن هداية الناس إلى الحق لا تقتصر على دعوتهم إلى عبادة الله وتوحيده، وإطاعة الرسول والأنبياء والأولياء وجعلهم أسوة حسنة، إنما دعوة الناس للحق والخير تستوجب الحد من مسببات الباطل والشر، وزيادة مسببات الحق والخير والإحسان، فالناس في العادة تتحكم فيهم عوامل كثيرة تؤثر على معتقداتهم وأفكارهم ورغباتهم وسلوكهم وعلاقاتهم.

وتٌعد الأعمال الخيرية -وهي الأعمال التي يقوم بها فرد أو مجموعة أفراد، سواء كان ذلك العمل بدنيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا أو ماديًا، بقصد التقرب إلى الله عز وجل، والحصول على الأجر والثواب من عنده تعالى- من أهم الأعمال التي يدعو إليها الإسلام ويوجبها على المسلم، لما فيها من عظيم الثواب من الله تعالى، والنفع والخير للمجتمع وأفراده، والمساهمة في استقرار المجتمع واستمراره، وحصول المحبة والمودة والوئام بين المسلمين، وتحقيق احتياجات أهل العوز والمحتاجين.

وكان العمل الخيري الذي أرسى قواعده الأنبياء والرسل والأولياء والصالحون أحد أهم وسائل نشر الدعوة الإسلامية، فكما إن المسلمين مطالبون بالعبادات مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من أوجه العبادات فإنهم أيضا مطالبون بالدعوة إلى الخير وعمل الخير. فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالدعوة إلى فعل الخيرات، حيث قال (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ومما يؤكد أهمية العمل الخيري ذلكم الربط العجيب بين فعل الصلاة وفعل الخير، حيث يقول الله تعالى موبخًا أهل النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) يعني: أضعنا حق الله بإضاعة الصلاة، وأضعنا حق المسكين بعدم إطعامه. فالإسلامُ لا يكتفي بالدعوة إلى إطعام المسكين؛ بل إنه يحض على إطعام المسكين، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

ولذلك كله؛ كان الإمام الشيرازي يرى أن المؤسسات الخيرية والإنسانية هو (أمر لابد منه في البلاد الإسلامية، فان المسلمين الأوائل كانوا هم أساس هذه المؤسسات والجمعيات الخيرية، وعلى المسلمين اليوم جميعاً الاهتمام به، وتأسيس كل هذه المؤسسات والجمعيات، واستعادتها في حياتهم، ليحلوا بها مشاكل المسلمين، ويقدموا لهم الخدمات الإنسانية اللائقة بهم).

ويعتقد الإمام الشيرازي أن العمل التطوعي في الإسلام ليس عملا إنسانيا تطوعيا، إن شاء الإنسان عمله، وإن شاء رفضه، لا، بل، هو واجب شرعي وأخلاقي في كثير من الحالات، وقد أشارت آية (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) إلى هذا المعنى الإلزامي في العمل التطوعي. وفي السنة النبوية، هناك المئات من الأحاديث الصحيحة والمتواترة التي تؤكد بما لا يدع الشك على العمل الخيري والتطوعي منها: (خير الناس أنفعهم للناس) والحديث يشير إلى نفع الناس أجمعين، وليس نفع المسلمين فقط. و(المال مال الله والناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) و(إن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم للخير وحبب الخير إليهم، أولئك الناجون من عذاب يوم القيامة) و(لأن تغدو مع أخيك فتقضي له حاجته خير من أن تصلي في مسجدي هذا مائة ركعة) و(مازال جبريل يوصني على الجار حتى ظننت انه سيورثه).

لذلك يرى الإمام الشيرازي أن الإسلام يقدس عمل الخير مهما كان صغيرا، ولو كان بمقدار ذرة، كما في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وبذلك لن يكون بمقدور أي أحد أن يقول مثلا أنا فقير لا يمكنني أن أقوم بفعل الخير، أو يظن بأن فعل الخير إنما يقتصر على الأغنياء وأصحاب الأموال الطائلة، كلا، إن فعل الخير يمكن أن يكون بتقديم رغيف خبز لمحتاج أو حتى مجرد تمرة أو أقل من ذلك. ومن لا يملك مالا بوسعه أن يقول كلمة يحض فيها الآخرين على العطاء كما بوسعه أن يقدم وقته وجهده ويساهم في العمل التطوعي الخيري.

يرى الإمام الراحل محمد الشيرازي أن هناك مجموعة من الأسس ينبغي أن نعتمدها لتأسيس الجمعيات الخيرية والإنسانية التي ترسخ قيم الإسلام ومبادئه لدى المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية منها:

1. لا يصلح المجتمع الإنساني والمجتمع الإسلامي على وجه التحديد دون وجود مؤسسات خيرية وإنسانية تتولى مهمة تحسين حياة الناس على المستوى الأخلاقي والتربوي والتعليمي والخدمي. لذا يرى الإمام الشيرازي أنه (لابد من جمعيات خيرية ومؤسسات إصلاحية، في كل ثغر ومكان، وفي كل مدينة وقرية، والتنسيق فيما بينهم، والعمل على هدف واحد، ووتيرة واحدة، حتى يستطيعوا من إنجاز بعض مهامهم الإنسانية العظيمة).

2. إن سيادة الإسلام تتطلب من المسلمين الواعين أن يكون لهم دور في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل قطاع من قطاعات التنمية البشرية، ولا يتحقق ذلك إلا عبر تأسيس منظمات إنسانية خيرية كثيرة، تهتم بالأهداف بعيدة الأمد ومتوسطة الأمد وقريبة الأمد، وفي كل الأمور صغيرها وكبيرها، دون أن تترك شيء يهم الإنسان ويحقق تكامله إلا ووجدت فيه. لذا يرى الإمام الشيرازي أنه (إذا أردنا عصرنة المسلمين، والوصول بهم إلى ركب الحضارة الآلية، بل جعلهم في مقدمة أمم العالم، حتى يسودوا ويمسكوا بزمام التقدم، لابد من الدخول في كل شأن من شؤون الحياة، وذلك عبر تأسيس منظمات تختص بأكبر الأهداف وانتهاءً إلى أصغرها).

3. الشروع في تأسيس الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية كلما وجدت فرصة لذلك (فليس على الإنسان المفكر أن ينتظر نضج المجتمع كله، حتى يشرع في تكوين المنظمات، بل عليه أن يشرع بهذا الهدف من إنسان واحد، ثم يلحقه بثانٍ وثالث، ليجعل منهم منظمة، مثال ذلك تأسيس منظمة لإعانة الفقراء ولا بأس أن تبتدئ بإنسان واحد ثم يلحق به ثان وثالث ليصبحوا منظمة لدعم الفقراء، وهكذا بالنسبة لتأسيس منظمات تهتم بتوفير الاحتياجات الأخرى)

4. أن يكون تأسيس الجمعيات الخيرية والإنسانية محكوم في إطار الحريات الشخصية، سواء في الانتماء أو في زوال العضوية، أو في إدارة الجمعية، ولا ينبغي تقيد حرية الأعضاء أو المستفيدين من الجمعية إلا بقدر تحقيق أهدافها وغاياتها، لأن العمل المنظم يتطلب تواجد وتوحيد جمع القوى والطاقات ولا يتحقق لك إلا من خلال الحريات الشخصية للأعضاء والمنتسبين لهذه الجمعيات.

5. اعتماد مبدأ الإدارة بالشورى في الجمعيات الخيرية: كثيرا ما يؤكد الإمام الراحل على مبدأ الإدارة في الشورى في كل شيء، لاسيما في إدارة الجمعيات الخيرية، حيث يرى أن (من الخطوات العملية التي تسرّع وتضاعف من تأسيس الجمعيات والمنظمات النشيطة، هو استخدام منهج الشورى في تنفيذ العمل، والحاجة إلى الحزم بعد الدراسة والتخطيط والاتفاق، وعدم التفريط برأي الأكثرية حول هذه الخطوة أو تلك في إطار استمرارية العمل، كذلك لابد من العمل بروح الفريق الواحد، وتهيئة الأجواء المناسبة للأداء الأفضل).

6. ويحث الإمام الشيرازي (رحمه الله) المسلمين على أهمية هذه المؤسسات ودورها في معاونة الناس على تحقيق السلوك القويم، سواء في الأعمال أو الأقوال، ولعل الأوضاع السيئة التي يعيشها المسلمون تدفع العلماء إلى إيجاد السبل القادرة على معالجة هذه الأوضاع أو غيرها، ومن بين المعالجات في هذا المجال وجوب أهمية المؤسسات الخيرية، إذ يقول الإمام الشيرازي إن (من المواضيع المهمة التي يجب على المسلمين الانتباه إليه، والاهتمام به: هو متابعة الوضع المأساوي للمسلمين في كل العالم، ودراسة مأساتهم المدمرة، والمطالبة بحقهم في كل المنظمات والمؤسسات الحقوقية، وإبلاغ مظلوميتهم إلى سمع الأحرار من الناس، وصوتهم إلى آذان كل من له وجدان وضمير. وهذا بحاجة إلى تأسيس منظمات ومؤسسات، وأحزاب وتجمعات حقوقية، وجمعيات خيرية نشطة، تعمل على نطاق واسع، وبشكل مكثّف، وبصورة متواصلة، وعلى كل الأصعدة، لتستطيع من إيصال مظلومية المسلمين في كل المجالات).

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا