عاشوراء: موسم العطاء والمعرفة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2019-09-02 07:43
بقلوب عامرة بالشغف المغموس بالحزن، يترقّب المسلمون سنوياً، ذكرى عاشوراء كنبع للإيمان والتقوى، وتتوجّه أبصار وبصائر المسلمين في العالم أجمع نحو كربلاء العطاء والحرية، فهذان المعْلَمان -عاشوراء وكربلاء- صنوان متشابهان، كما أنّهما لا يفترقان، ومع تجدد عاشوراء وانطلاق صرخة الحق الحسينية التي زلزلت الأرض تحت أقدام الطواغيت المنحرفين، يتجدد على مدى الأزمان إشعاع النهضة الحسينية ليشمل بأمواجه الضوئية المتدفقة، الجموع الغفيرة للمؤمنين القادمين إلى أرض كربلاء من أصقاع العالم.
ولو تساءلنا، ما الذي يدفع بإنسان لقطع آلاف الكيلومترات مستخدماً مختلَف وسائط النقل، لكي يصل إلى كربلاء، حيث مرقد الثائر الأعظم الإمام الحسين بن علي عليهما السلام؟
أليس هنالك هدف كبير يبرر هذا المسعى الكبير، إنها كربلاء وعاشوراء، حيث تتجدد الذكرى لصرخة الإصلاح الأعظم في التاريخ، ومنها يستمد المسلمون أواصر التقوى، ومكارم الأخلاق، وينهلون من منابع الفضيلة، كي تملأ نفوسهم وقلوبهم، وهم يعيشون المدّ الأقوى والأخطر للسيول المادية التي تسعى كي تجرف الإنسانية أجمعها وتجعلها أسيرة الجشع المادي، وتسلب من الناس فطرتهم الرحيمة، وتملأ قلوبهم بوباء الأنانية، فمَن لهذه الجميع سوى كربلاء وعاشوراء، ومَنْ لهم سوى نور الحسين ومنهجه الإصلاحي القائم على المعرفة والإقناع؟؟
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكّد في كتابه القيم الموسوم بـ (الاستفادة من عاشوراء) على أنَّ:
(عاشوراء هو موسمُ العطاء الرباني، وهو موسم الفضيلة والتقوى والأخلاق، كما أنه موسم العلم والمعرفة، ورمز لانتصار مبادئ الحق على جيوش الضلال).
كيف لا يقطع المسلمون المسافات الطويلة، وكيف لا يتحملون وعثاء الطريق ومخاطره التي وصلت حد القتل العمد بواسطة الأعمال الإرهابية المبيّتة، كما فعل الانتحاريون وأحزمتهم الناسفة، والسيارات والدرّاجات المفخخة وغيرها، هذا الإصرار على إحياء مراسيم عاشوراء، رغم كل ما يعيق ذلك، ما الذي يقف6 وراءهُ من دوافع؟ إنه البحث عن الامتلاء الروحي، والتشبّث بالتقوى، والتسلّح بكل مقومات الإيمان لمواجهة عصر منحرف، يسعى فيه المادّيون لتدمير القيم العظيمة والعودة بالإنسانية إلى العصور الهمجية الغريزية المدمِّرة.
النهضة الحسينية كمنهج تطبيقي
هكذا هي كربلاء، وعاشوراء، إنهما عطاء متدفق يشمل الجميع في أيام كهذه، كي يغترفوا من مبادئ الثائر الأعظم الذي شغل الثوّار عبر الأزمنة والدهور، ومنهم (غاندي) الذي وجدَ في النهضة الحسينية الإصلاحية منهجا ومعيناً له كي يرتقي بأمته الهندية.
يقول الإمام الشيرازي: (إذا كان عطاء عاشوراء قد بلَغَ –غاندي- محرِّر الهند الذي تعلمَ من الحسين (عليه السلام) كيف يكون مظلوماً لينتصر، فإنّ المسلمين عامة وشيعة الإمام (عليه السلام) خاصةً أولى بهذا العطاء).
من هنا انطلقت الهجمات التدميرية ضد عاشوراء، وحاول الطغاة على مر التاريخ تدمير كربلاء الحسين، وعمدوا إلى استخدام أقوى الأسلحة وأشد أساليب التدمير والمكر، كي يغيّبوا الآثار البليغة التي حفرت معالمها النهضة الحسينية ورسّختها في العقول المتبصرة المتطلعة إلى التقوى والأمن والهداية والسلام، ولكن ما الذي حصده الطغاة من حروبهم المستمرة على كربلاء وعاشوراء، وماذا جنوا من أفعالهم المنكرة التي استماتت كي تمحو أثر الحسين عليه السلام، وتغيّب كلّ ما يمت بصلة لأفكاره ونهضته الإصلاحية الباقية ما بقيت الحياة؟
الإمام الشيرازي يجيب عن ذلك بقوله:
(دأب كل جبار متكبّر لمحاربة كربلاء ومقدساتها وشعائرها وبشتّى الوسائل والطرق لأنها تكشف زيفهم وانحرافهم ودجلهم (يُريدون أنْ يطفئوا نورَ الله بِأفْواهِهِمْ ويأبَى اللهُ إلاّ أنْ يُتِمَّ نُورَه ولو كره الكافرون) (سورة التوبة).
وطالما عرف المؤمنون هذا المسعى التخريبي الطغاة وأذنابهم، فما هي المسؤوليات المترتبة عليهم، هل يقف أحباب الحسين وثوار النهضة الإصلاحية الحسينية مكتوفي الأيدي، ومشلولي العقول والأفكار، ويتركوا المنحرفون يعيثون فسادا في الأرض؟، بالطبع كلا، لن يسمح المؤمنون للطغاة وأعوانهم بمواصلة مشاريعهم التخريبية الخبيثة، وسوف يتصدى جميع المؤمنين الحسينيين لكل من يسعى أو يعلن مجرد الإعلان عن نيّته بالتعتيم على مبادئ عاشوراء، أو الإساءة للمدن والمراقد المقدسة، كونها تبقى مصدر إشعاع مضاد للنزعة المادية التي سعت وتسعى لإلهاء الناس بقشورها وأهدافها التي تفتقد للجوهر الإنساني وتهدف لنسف القيم الأخلاقية العظيمة.
مسؤوليتنا تجاه قيم عاشوراء
مطلوب من أحباب الحسين عليه السلام وأتباعه، أن يكرّسوا جهودهم في هذه الأيام المباركة التي ستمرّ سريعاً، لتكريس جهودهم وتكثيفها من أجل إحياء مراسيم عاشوراء، بما يضمن نشر الهداية وتحصيل السعادة، فهذه الأيام العاشورائية أنسب الأوقات وأكثرها تحفيزا للمسلمين كي يسعوا إلى التقوى، ويضاعفوا العطاء، وينشروا ثقافة التكافل، فموسم عاشوراء فرصتنا لتحقيق هذه النواقص الهائلة التي تعصف بحياتنا كمسلمين.
يقول الإمام الشيرازي: (إن الواجب علينا إن أردنا الله واليومَ الآخر أن نصبّ اهتمامنا لإحياء كربلاء وبقية العتبات المقدسة مادياً ومعنوياً، وأن نكثر الاستفادة من هذا السراج الوهاج، الذي ينير الدربَ لكل من يطلب السعادة في الدنيا، والفوز بالجنّة في الآخرة فـ (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) وعاشوراء أهم موسم لتحقيق كل ذلك).
لهذا لا يمكن لأحد مهما بلغ من القوة والحقد والضغينة أن يطفئ سراج عاشوراء ولا المكانة الإيمانية الخالدة لكربلاء المقدسة، مثلما لا يمكن لأحد سواءً كان قائدا طاغية أو غيره، أن يتنكّر للدوحة النبوية الطاهرة وأفضالها، متمثلة بأئمة أهل البيت عليهم السلام، كونهم الامتداد الشريف لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، لهذا ستبقى كربلاء الحسين مدينة العلم والفداء، ومدينة النهضة والإصلاح، مدينة الهداية والنور الرباني الذي لا يزول ولا يخفت.
لا غرو في ذلك، فهذه المدينة المعطاء، كانت ولا تزال وستبقى حيّة بحاضرها المتوهج وماضيها التليد ومستقبلها الأغر، وسوف يبقى النقاء ميزة لا تفارقها أبد الدهر، كما أنها تواصل مكانتها العلمية لتبقى مركزا مشعّا بمختلف العلوم، وحاضنة علمية حوزوية تخرّج العلماء والفقهاء والثائرين الذين يواصلون السير على هدى الخط الحسيني، في مقارعة الطغيان، ومناصرة الحق، ومحاصرة الفساد والفاسدين، مسترشدين في ذلك بإمامهم الثائر الأعظم ونهضته التي يتصاعد إشعاعها عاماً بعد عام، ويسمو وهجها ليراه الجميع، قريباً كان أم بعيدا، مؤيّدا كان أم مخالفا.
يقول الإمام الشيرازي: (بقيت كربلاء الحيّة النقية، مصدراً للإشعاع الديني والفكري، ومنبعاً للأخلاق والفضيلة ومنبعا للإيمان والتقوى ومصدرا لسعادة المؤمنين).
وما على المسؤولين سوى أن يتعظوا من زلاتهم وأخطائهم الكبيرة، فمن لا يسترشد بمنهج الحسين عليه السلام، ومن لا يكترث بمبادئ عاشوراء التي تنادي بالحق والحرية والعدالة والإنصاف وكل القيم النبيلة، عليه أن ينتظر سيول الثوار الحسينيين الذين سيقتلعونه من الجذور ولاتَ ساعة مندم، فما دامت الفرصة متاحة للتصحيح والتوبة، على جميع الفاسدين أن يكفوا عن فسادهم، ويعدّلوا مساراتهم، فالسيل العاشورائي الجارف قادم إليهم ولا ريب في ذلك، لأن كربلاء الحسين عليه السلام لا يليق بها غير الأخيار وغير العلماء الأفاضل العاملين على نشر الفضيلة والعدل والإنصاف.
يقول الإمام الشيرازي: (كما وبقيت كربلاء نبراساً للمجاهدين والأحرار، وسراجاً للأمم والشعوب، ومدرسة لتربية العلماء والمبلّغين وحملة الأقلام، منذ استشهاد الإمام (عليه السلام) وإلى يومنا هذا وإلى يوم ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
يتضحُ لمن يرغب بالاستيضاح، إن كربلاء الحسين ستبقى فنارا لا ينطفئ ولا يخبو نوره على مدى الأزمان، وعاشوراء باقية متجددة بقيمها التي وضعها الإمام الحسين عليه السلام، وجعلها منهجا تطبيقياً لجميع الأحرار في رحاب الأرض، وستبقى منبع العطاء وقبلة الثوار أينما كانوا.