الماديّة والشغَف بلغة العنف

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2019-08-26 07:26

الصراع الحاد بين المادي والروحاني ليس وليد اللحظة، ولا هو وليد العصر الراهن، لكنّه بات اليوم أكثر شراسة ووضوح من أي عصر مضى، من هنا تكرَّس البحث عن السلام العالمي، وأدرك الجميع حاجة البشرية إلى السلام، من خلال تهدئة الصراع بين القطبين أعلاه، لاسيما أن الحضارة التي تدّعي قيادة العالم اليوم، تميل إلى كفة المادية على حساب القطب الآخر الروحاني، وفي هذا الانحياز تكمن الكثير من المخاطر التي تحيق بعالم اليوم.

فما هي المادية؟

المادية هي نوع من الفلسفة الأحادية تتبنى الرأي الذي ينص على أن المادة هي المكون الأساسي للطبيعة، وأن كل الأشياء، بما فيها الجوانب العقلانية كالوعي، هي نتاج لتفاعلات مادية.

تعتبر الفلسفة المثالية كلا من العقل والوعي حقائق من الدرجة الأولى، ولهما تخضع المادة التي تعتبر بدورها حقيقة من الدرجة الثانية. لكن العكس هو الصحيح في الفلسفة المادية. فهنا، يعتبر العقل والوعي منتج ثانوي أو ظاهرة مصاحبة للعمليات المادية (الكيمياء الحيوية للدماغ والجهاز العصبي على سبيل المثال) التي من دونها لن يتواجد أي منهما. إذ وفقا لهذه الفلسفة، الماديات هي من تخلق وتحدد الوعي، والعكس ليس صحيحا. وتربط المادية علاقة قرابة مع الفيزيائية، وهي الرأي القائل بأن كل ما هو موجود هو في النهاية فيزيائي.

الروحانية المعاصرة تتمركز حول "القيم والمعاني العميقة التي يعيش بموجبها الأشخاص"، وتتقبل فكرة وجود واقع غير محدود أو غير مادي مزعوم، وتتصور طريقاً باطنياً يمكّن المرء من اكتشاف جوهر ذاته.

الحضارة المعاصرة ذات طابع مادي يسعى لإلغاء الروحاني أو تهميشه، وعلى هذا الأساس تقوم كثير من المدارس والنظريات كالعلمانية والليبرالية وسواهما، هذا الصراع يؤدي بالنتيجة إلى قلقلة أمنية تنشر في عموم العالم، ما يجعل من المعمورة كلها مكان غير آمن ويعاني من شحة الاستقرار المطلوب للتطور البشري المتصاعد، أوجب هذا الواقع الدولي بحثا عن السلام عبر مؤتمرات وتفاهمات وأنشطة دبلوماسية مختلفة، فما يفتقد له الإنسان سيظل يبحث عنه بألف طريقة وأسلوب، وهو في عصرنا اليوم يفتقد للسلام والاستقرار.

لا عاقبة أسلم من عواقب السلم

قادة العالم اليوم، الساسة ومؤيدوهم من المفكرين والإعلاميين وغيرهم، هل سيحثون عن السلام حقا، في ظل احتدام الصراع بين المادة وهيمنتها على الكلّ من جهة، وبين الروحانية التي تحاول أن تخفف من غلواء الماديين واستئثارهم بمقدرات البشرية جمعاء؟

قال أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام: (لا عاقبة أسلم من عواقب السلم) غرر الحكم ودرر الكلم.

كما أكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم (فقه السلم والسلام) على: (إن الإنسان إذا فقد شيئاً طلبه حثيثاً لكي يحصل عليه).

لماذا التباين بين قطبي المادية والروحانية؟، وهل هو موجود فعليا في واقعنا العالمي، وما أسباب ذلك، ثم ما هي نتائج هذا الصراع؟

يقول الإمام الشيرازي: (لتأكيد التباين والاختلاف بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان، وبين تهذيب الشريعة الإسلامية لـه نقول: إن تهذيب الإنسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمَّق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين).

هذا يعني أن الحضارة المادية لا يعنيها التكوين الأخلاقي للإنسان، وهذا أحد أكبر الأسباب التي تقف وراء الأزمات الأخلاقية والسلوكية التي يعاني منها عالم اليوم، فالإنسان لا تضبطه قيم، ولا يشذب أهدافه ونشاطه رابط قيمي أو ديني أو أخلاقي، ما فسح المجال للصراع واسعا بين الجميع، والهدف هو المادة وتكديسها، مع إهمال منقطع النظير للقيم التي ينتجها وينميها الجانب الروحي ليخفف من جشع الإنسان وطمعه ولهاثه نحو المال والاستحواذ عليه بأية طريقة كانت!.

ومن الأسباب التي أفشت القيم المادية على سواها، تلك النزعة الآنية للربحية، على حساب النظرة البعيدة، والخوف من العقاب، وانتعاش الجشع بأبشع صوره ودرجاته، وما يزيد الطين بلّة، أن المعارف تنتعش في الإطار المادي، مما يدفع بالإنسان إلى استغلال هذه المعرفة بصورة خاطئة بل وخطيرة، فينتج عن ذلك عالم من القلق يجتاح كل شيء، ويجعل الخوف يسيطر على الإنسان، فيدفع به نحو الصراع على حساب الأمن بسبب سيطرة حيثيات الحضارة المادية.

الإمام الشيرازي يرى أنّ: (الإنسان في الحضارة المادية مختلف بسبب ازدياد معارفه وتعدّد أهدافه، فسيطر على الحياة وأفسدها بعد أن ازداد حرصه وتشعبت طموحاته، فيما الجانب الروحي في الإسلام يعمل من أجل التطور والاستقرار والازدهار والسلام والتقدم في مجالات الحياة كافة).

المادية تستدرج البشر نحو الهاوية

من النتائج الخطيرة لاستفحال المادية، ذلك النزوع غير المبرَّر نحو العنف، حتى بات عالمنا اليوم مهووسا بالتصادم ومنغمرا بلغة العنف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، لذا نجد دعاة السلام ولغة السلام قد حوصروا في زاوية ضيقة، وباتت أصواتهم أضعف مما كانت عليه في العصور الماضية، وهذا يتناقض مع المنطق الذي يقول، كلّما ازدادت معارف البشرية يجب أن تنحو لمذهب السلام، لكن ما يجري هو العكس تماما !.

الأصوات الرافضة للعنف جاءت كردّ فعل في مقابل الشغف الغريب للماديين بلغة العنف، والسعي لتحويلها إلى واقع يرزح تحته العالم كله، فحينما يرفض الإمام الشيرازي العنف والعدوان كأسلوب لحل المشاكل، إنما يستند في ذلك إلى فكرة الإسلام القائم على جانب السلام بقوله:

(إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء). ولنا أن نتصور دقة هذا الرأي وهذه الكلمات، فمن ينأى بنفسه عن العنف ويحتمي بسلامة الرأي والقول واعتدال الخطاب والتوجّه، لا يمكن أن يطوله شيء من شظايا الحروب المادية أو سواها.

هذه هي رؤية الإمام الشيرازي في نظريته عن اللاعنف، ودعوته للعالم وللحضور البشري بشقّيه المادي والروحاني، إلى الكف عن التصادم، والدخول في دروب التصالح والاحترام عبر الحوار، فهذا وحده هو الكفيل بتذليل أوار النيران الحارقة للتوجّه المادي الساعي لاستدراج العالم الى بوتقة الاحتقان والتوتر، لصنع بؤر حروب لا أول لها ولا آخر، حطبها الفقراء وحدهم، كما نلحظ هذا في خارطة العالم المنغمسة بالبؤس والتباين والطبقية المتزايدة.

ما الإجراء الصحيح إزاء ما يحدث من تفاقم مادي في عالم اليوم؟، الاعتدال هو الحل، وإشاعة ثقافة الحوار كبديل للأساليب العنيفة، هذا ما دعا له الإمام الشيرازي قبل عقود بعيدة في نظريته عن اللاعنف، وبالفعل تنبّه الناس جميعا، بالأخص من يتصدر القيادة في الدول الكبرى وغيرها من الدول الفاعلة، وأخذوا يقيمون المؤتمرات والندوات الخاصة بإيجاد حلول بديلة للتصادم، كذلك تم استخدام الوسائل الإعلامية المختلفة للحصول على ما افتقده الإنسان اليوم ونعني به السلام، يُضاف إلى ذلك، تسخير المؤسسات والمدارس لإظهار فوائد الاستقرار العالمي وامتصاص موجات الاحتقان.

يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب بالذات:

(في هذا العصر بالذات خصوصاً في النصف الأخير من هذا القرن، التفت الإنسان إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل الشاغل للناس في وسائلهم الإعلامية وغيرها، ومدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية).

بالنتيجة صار واضحا لقادة العالم، ساسة ومفكرين وفلاسفة، أن الإيغال بالمادية سوف يقرّب البشرية من نهايتها، وأن تعديل كفتيّ الميزان بين المادي والروحاني، أصبح مهمة بالغة التأثير على حاضر ومستقبل البشرية، لذا فليكفّ الماديون عن إصرارهم على تدمير العالم إ.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي