القوانين الثابتة ودورها في النجاح والتقدم

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-

محمد علي جواد تقي

2019-07-13 04:50

مقدمة:

ما يزال الانسان المناضل في الحياة في حيرة من أمر المتغيرات والثوابت، وفي أيهما تكمن قدراته في أن يترك بصماته عليها ليحقق ما يريد؟ والسؤال الآخر المرادف؛ أية متغيرات؟ وأية ثوابت عليه الايمان بها؟ الامر غير محسوم لدى العلماء والمفكرين منذ أمد بعيد، وحتى من قدم للبشرية اطروحات بشأن "التحمية التاريخية"، او الجبر التاريخي، وقبلها "الكينونة والصيرورة"، فان تقادم الزمن، ونضوج الفكر الانساني بمستويات عالية، وضع هذه الاطاريح وغيرها على طاولة النقاش والتشريح ثم النقد، إذ توصل علماء آخرون الى أن ثمة ثوابت وقوانين ثابتة تحكم الكون والحياة والانسان.

في هذا المقطع الصوتي، يشير سماحة الامام الشيرازي الى حقيقة وجدانية وعقلية يكشفها القرآن الكريم لأول مرة للبشرية، بأن {لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.

لنستمع الى المقطع الصوتي، و نرى الابعاد الانسانية والحضارية لهذه الحقيقة الناصعة:

الانحراف عن السنن الإلهية يعني السقوط

"ماذا تعني الآية القرآنية الكريمة: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)؟

النار تصبح باردة، أي انها تبدلت في مكانها، وفي مقام التحويل؛ تنتقل حرارة الماء الى الثلج، أي تنتقل من مكان الى آخر. طبعاً؛ هذا بعيداً عن عامل المعجزة؟

ينسحب هذا النفي القاطع والمؤبد "لن" على التكوين وعلى التشريع معاً، ففي التشريع هنالك أحكام ثابتة وواضحة، مثالها الفرائض الدينية؛ كالصلاة والصوم، فعلينا أن نأتي بها كما جاء في الحكم الشرعي، دون أي تبديل، كأن يرغب البعض بأن يصلي الصبح اربع ركعات، او أن يصوم الى الى ما بعد أذان المغرب، فهذا غير جائز، وما يصنعه باطل، وهكذا الحال في الحج وسائر الفرائض والاحكام الشرعية.

نفس القاعدة والقانون ينطبق على الكون، فلا تغيير في مسارات الكون وقوانينها ولو بمقدار شعرة واحدة. ومنها المعادلات الرياضية، فلا يمكن ان يأتي يوم يكون ناتج 2+2=5 مطلقاً.

فالنخلة لا تعطي سوى التمر، والدجاج لا يلد بل يبيض، وهكذا؛ سائر القوانين والمسلّمات في الطبيعة والكون، ولا يحصل ما يناقض هذه القوانين ابداً.

أما من يريد السير عكس هذه القوانين والانحراف عنها فهو يحكم على نفسه بالسقوط".

لماذا يحتاج البعض الى تغيير قوانين الحياة؟

عندما يتعذر تغيير القوانين المتعلقة بالكون والطبيعة، تجري المحاولات البشرية لتغيير بعض القوانين المتعلقة بحياة الانسان وبفكره وسلوكه، بينما حكم العقل يؤكد أن البشر لم يكونوا في الوجود لولا وجود هذه القوانين والانظمة تحكمهم وتنظم حياتهم وفق معادلات ثابتة لا تتغير، وأول من كشف عن هذه الحقيقة؛ القرآن الكريم، عندما حدثنا بـ "السنّة"، و"السنن الإلهية" وهو القانون المصاحب لوجود الانسان على الارض، مثل؛ عاقبة الظلم، أو نتيجة التفرّق وانفراط عقد الجماعة، او العمل وثماره، مع كل ذلك؛ تجري المحاولات بعكس الاتجاه الفطري بدوافع نفسية خاصة تتضمنها الآية القرآنية التي أشار اليها سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي القصير، لذا كان لزاماً علينا مراجعة الآية كاملة، بل وإلقاء نظرة تدبرية ايضاً على الآية السابقة لها ذات الصلة، لنعرف منشأ هذه الدوافع، ونصل الى جواب السؤال الآنف الذكر.

الآية القرآنية من سورة فاطر، وهي من السور المكيّة، تحدثنا عن احدى المشاكل النفسية لدى كفار قريش –تحديداً- ممن بلغتهم الرسالة السماوية والتبشير بالدين الاسلامي والرسول الخاتم، فقد ادعوا بلسانهم انهم سيكونوا على استعداد للاستجابة للرسالة السماوية اذا ما جاءتهم؛ (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً)، ويوضح المفسرون "إحدى الأمم" بانهم اصحاب الكتاب الذين كانوا يتحدثون في كتبهم عن قرب ظهور النبي الجديد، فكانوا يسعون لمنافستهم في الامر، ولكن؛ هذا الادعاء والقسم الغليظ بالله –تعالى- لم يكن ليشفع في تصديق ادعاءهم، والسبب تبينه الآية التالية التي نحن بصددها؛ (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً).

صيغة المبالغة في التعبير القرآني على ناقضي اليمين تبين عمق المشكلة النفسية لدى منكري الحقائق والسنن الإلهية الثابتة في الحياة، فهذا "الاستكبار" او نزعة التعالي والتطاول لدى شريحة من المجتمع المكّي آنذاك، جعلتهم يغفلون عن حقيقة أن هذا "المكر" او اللعبة التي يلعبونها ستعود بالضرر عليهم انفسهم، وليس على غيرهم، وفي تفسيره "تقريب القرآن الى الاذهان"، يبين سماحة الامام الشيرازي سبب استخدام لفظ "مَكَر السيّئ" واضافة المكر الى السيئ، "لان من المكر ما هو حسن اذا كان لصد عدو الدين، كما جاء في قوله –تعالى-: (مَكْرَ اللَّهِ)، ولكنهم غفلوا عن انه (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)".

وثمة التفاتة غاية في الاهمية لتحليل المشكلة النفسية لدى المشركين والمُنكرين، يبينها لنا سماحته في تفسيره بشكل رائع ودقيق عندما يسلط الضوء على لفظة {ينظرون} في صيغة التساؤل، فقد جرت العادة على أن يعمّ العذاب الاقوام المكذبة بالرسالات الإلهية، بيد أن هذه المرة يختلف الامر، حيث جاء "المكر" من فئة معينة، لذا "فهل ينتظر هؤلاء عقاب الله؟ وإلا فلماذا لا يؤمنون، بعد أن رأوا الحق ظاهراً، فان كانوا ينتظرون ذلك {فلن تجد لسنّة الله تبديلا}، فلا تبديل ولا تحويل في سنّة الله في هذا المجال، كأن يكون بدلاً من جزاء المكذّب المرض، يكون جزاءه الصحّة، او في مجال التحويل؛ بأن يكون بدل مرض المكذبين في الدنيا، يتحول الى الآخرة، او ان يتحول المرض من المكذبين الى المؤمنين، وإنما جيء بـ "ينظرون" بدلا من "ينتظرون" لانه المنتظر لشيء ينتظره، ينظر ليرى، هل صار أم لا، وهذا لا يكون إلا قرب وقت الشيء الذي ينتظره، فكأنه قرب العذاب اليهم فهم ينظرون ليروه، بخلاف "ينتظرن" فانه يلائم الامر البعيد المرتقب".

هذا النمط من التفكير نجده اليوم كثيراً في زماننا الحاضر، لاسيما ميادين السياسة والاقتصاد، ممن يجدون ان بيدهم الحل والعقد، وانهم يتحكمون بلقمة الناس ومصائرهم، فاذا ما أخطأوا في سياساتهم وبرامجهم، بامكانهم –حسب تصورهم- التنصّل من النتائج، وليدفع الآخرون الثمن، بحجة أن الناس هم ايضاً كانوا من المستفيدين، كما هو الحال بالنسبة لعملية إزالة ديكتاتورية صدام في العراق، وخلق واقع جديد للشعب العراقي فيه يعمل ويكسب ويتطور، بيد أن {مَكْرَ السَيّئ}، لا يحيق إلا بأهله، والبلاغة القرآنية الرائعة تؤكد أن الفساد والخيانة والكذب وغيرها من مظاهر السوء، صحيح أن لها انعكاسات على الواقع الاجتماعي، بيد أنها بالدرجة الاولى "تُحيق"، أي تحيط بصاحبها من كل جانب، وليس فقط تَلحَق به، أو تصيبه في جانب من شخصيته، فيكون لعنة الاجيال، ومثل السوء لمن يأتون من بعده الى يوم القيامة.

كيف يسقط الماكرون؟

كما في الجانب السياسي، فان الجانب الفكري له مساحة واسعة لمن يتمرّد على السنن والقوانين الثابتة، رغم ان المتمردين من موقع التنظير وتغيير الواقع الفاسد، إنما طرحوا تحليلات وتصورات للتاريخ والاقتصاد والاجتماع لمعالجة إفرازات الثورة الصناعية علّها تكون وسيلة نجاة لضحايا الرأسمالية المتطورة، ولم تكن الافكار والنظريات مما يكن القول معها أنها "لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، ولا أدلّ على المحاججات العنيفة التي واجهتها، وحجم الثغرات التي تم اكتشافها.

على مرّ التاريخ كانت البشرية في سعي دائب لتحقيق غاياتها المادية والروحية معاً، بيد أن البعض اقترح بأن يترجل الانسان عن هذه المسيرة الحضارية ويترك الأمر لعامل آخر هو الذي يقرر مصيره مثل؛ حركة التاريخ وتطور المجتمعات دونما تفسير منطقي لها، كما ذهبت النظرية الماركسية في معالجتها لمشكلة الطبقية في اوربا، فما كان من ماركس الإلماني، إلا ان يصدّر نظريته الى روسيا القيصرية، أقصى شرق اوربا لتتمخض من هناك دولة ماركسية تحت اسم "الاتحاد السوفيتي" بضم خمسة عشر جمهورية بشكل قسري، وفي نهاية المطاف تتفكك هذه الدولة غير المتجانسة وتذهب كل جمهورية الى حال سبيلها! ولم يتذوق شعب الاتحاد السوفيتي طعم الشيوعية السعيدة التي وُعد بها المنظرون الأوائل، من بعد مرحلة الاشتراكية التي يفترض انها تنقضّ الى الرأسمالية، بيد أننا شهدنا أن الاخيرة هي التي توسعت ونمت في العالم، فيما الاشتراكية تراجعت في عقر دارها، وقد تورمت أقدام البشر هناك لطول ساعات الانتظار في طوابير الخبز، فهم لم يكونوا ينتظروا سوى الحصول على لقمة العيش ليس إلا، وما المثال الصيني ببعيد عنّا عندما هبّ شخص من وسط القيادة الماركسية، وهو رجل قصير القامة (دينغ شياو بنغ) ليأخذ بيد عشرات الملايين من ابناء شعبه عام 1978، الى الانفتاح على العالم، والانتاج ثم التملّك ليتغير وجه الصين بشكل مذهل، وذلك تحت شعار؛ "بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".

وبعد عقود من الزمن، وضياع فادح لامكانات وقدرات الشعوب، اتضح لكثير من الناس، ان المشكلة الاقتصادية للبشر لا تحل من خلال الصراع الطبقي، ولا بالجبر التاريخي، وإنما بالإرادة الانسانية التي تنطلق وتغير الواقع بنفسها من خلال وعي هذا الواقع ثم معالجته وتغييره.

ولو أن هذه المهمة ليست بالسهلة على جميع الناس، لذا فان "الشريحة الواعية هي القادرة على تبيان السنن الالهية والقوانين الثابتة في الحياة لمواجهة الاستغلال والاستعباد، فهي القادرة على ان تبصر السنن التي تسيّر حياة الانسان، ثم تحاول هداية الناس نحو الطرق المثلى". وهنا تحديداً "تفترق نظرة الاسلام الى التاريخ عن نظرة الفلسفات البشرية، فالاسلام أبرز دور الانسان الايجابي في تحرير نظرائه من الاستغلال، بينما الفلسفات الاخرى حاولت ربط حركات التحرير بآلية الحياة، مما أخفت دور الانسان كعنصر موجب (فاعل)، و أظهرت دوره كعنصر قابل (منفعل) فقط"، وعند هذه النقطة ايضاً نفهم جانباً من معنى "السقوط" الذي اشار اليه سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي جراء التمرّد على القوانين والسنن التي جاءت من السماء لتحقيق أقصى درجات السعادة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي