لماذا نعجز عن الاستفادة من تجاربنا؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2019-06-03 04:07
في رحلته الحياتية اليومية المتداخلة والمعقدة أحيانا، يمر الإنسان في سلسلة من التجارب الشخصية أو الذاتية، تتراكم مع مرور الزمن، منهم من لا يترك هذه التجارب تمر فوق رؤوسهم كالسحاب، ومنهم من لا يعبأ بها، ولا يتنبّه لها، ولا يرى فيها خزيناً تجريبياً يعينه على مواصلة الرحلة بنجاح، فهناك من البشر من يعتبَر ويحتمي بتجاربه، وهناك من لا يعنيه هذا الأمر من قريب أو بعيد!.
لماذا يمكن الإفادة من تجاربنا، وكيف؟، الأفكار الذاتية المصنوعة في عقل الإنسان، لا تختلف عن الأفعال التي يقوم بها، إلا من حيث المعنى والمتجسّد في الواقع، لكنها معا تصنع شخصية الإنسان، وتبلور فكرهُ وسلوكه، وهذه التجارب الفكرية والعملية للإنسان، إذا قرّر استثمارها، فإنها ستكون منهلهُ لتطوير ذاته فكريا وعمليا، لسبب واضح جدا، فمن يوظف تجاربه في حياته، لن يكرر الخطأ الذي وقع فيه بالأمس، بل يمكنه تجنّب أخطاء أكبر وأكثر تعقيدا مما سبق.
هذا التوظيف الجيد للتجارب الذاتية، يجيده الأذكياء المبدعون المؤمنون بأنفسهم وقدراتهم، أولئك الذين لا تتكرر أخطاءَهم مطلقا، وهم في ذلك ينطبق عليهم قول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله: (لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين).
فمن لا ينسى تجاربه التي مرَّ بها، على أية شاكلة كانت، ومن يجعل منها ذخيرة دائمة للتصحيح، ومن يرى فيها مرآة تعرض له زلّاته وعثراته، فإنه بذلك يمتلك أدوات التصحيح الفعالة لأفكاره وسلوكياته، مما يشكل له منطلقا متجددا للنجاح الذي يسعى إليه الجميع، ولكن في مستويات ودرجات مختلفة من الاستعداد، فهناك من يرغب بالنجاح دون تهيئة ما يلزم لذلك، وهذا أشبه بمن يتشبث بالأماني الفارغة، لكن في المقابل هناك نوع آخر من المستثمرين الناجحين لتجاربهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العبرة سبيل النجاة):
(للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان).
المتعارف عليه، أن الكائن البشري يتميز عن سواه من المخلوقات، بميزة العقل والتذكّر، فربما يكون صاحب ذاكرة ألمعية متوقدة، تختزن كل ما يمر به من تجارب في حياته منذ اللحظات الأولى للوعي صعودا إلى المراحل العمرية اللاحقة، ومما هو مؤكّد أن كل إنسان سوف يمر بتجارب مختلفة في رحلته الحياتية، بعضها عادي بسيط، وبعضها عميق مختلف أو معقد وفيه خطورة أو استثنائية، وتبقى المفاضلة بين الناس قائمة على أساس من يحفظ تجاربه ويستثمرها لصالحه، ومن يتركها في قعر النسيان كأنها لم تمر به يوما.
كيف تتجنب أخطاءَك بنجاح؟
النوع الأخير من البشر لن يتقدم خطوة واحدة في حياته، لأنه عاجز عن استثمار تجاربه، أو غير راغب في ذلك نتيجة لخلل في تربيته وبيئته وما شبَّ عليه في طفولته وشبابه، يقابله الشخص النقيض وهو متوقد الذهن ألمعيّ الذاكرة فيكون مستثمرا ماهرا لتجاربه، جاعلا منها أداة خلاقة تدفع به في طريق التقدم والصعود إلى القمة، لذلك نجد الإنسان الناجح في المجتمع، هو ذلك الذي يقلل أخطاءه إلى أقصى درجة ممكنة، ويعمل بجدية كبيرة على عدم تكرار ما يقع فيه من أخطاء فكرية أو سلوكية عملية.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر السابق:
(يمر الإنسان في حياته العملية بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: من حفظ التجارب أصابت أفعاله).
من تجارب الإنسان وأكثرها تكرارا في حياته، علاقاته الاجتماعية، كونه يعيش في مجتمع متعدد الأمزجة والخيارات والاتجاهات، فإن كان ذا قدرة على الاعتبار والاستفادة من التجارب السابقة، فإنه سيكون متميزا وذا شخصية مقرَّبة ومقبولة من الجميع إلا ما ندر.
هذا النوع من الأشخاص الناجحين في علاقاتهم الاجتماعية، يجعل من احترامه للآخرين معبَرا إلى قلوبهم، فيكسب ودّهم، وهذا النوع من الأشخاص غالبا ما يكون ذا قدرة على الانفتاح المستقبلي، ومعرفة بما سيحدث، وقراءة مقاربة لما سيحدث في المستقبل، مع قدرة على التنبؤ والاستنتاج، وهكذا سيكون محميا من الزلل، لأنه هضم النتائج مسبقا من تجاربه التي مرّ بها وحفظها جيدا، وقرر أن لا يقع بها مرة أخرى.
الإمام الشيرازي يقول في ذلك:
(الشخص الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائج مرضية من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل، وهذه حالة بسيطة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المطبات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً).
هل نحتاج إلى مَنْ يذكّرنا بعيوبنا؟
بماذا يمكن أن نصف الإنسان الذي يكرِّر أخطاءهُ نفسها؟، وهل يوجد هكذا أشخاص بالفعل في حياتنا ومجتمعاتنا؟، بالطبع تفرز لنا البيئة الاجتماعية مثل هذه النماذج البلهاء، فهؤلاء قد لا يمتلكون ذاكرة تحفظ لهم ما حدث قبل ساعة أو يوم، وإذا حفظت ذلك، فإن حامل هذه الذاكرة لا تعنيه الأحداث التي مرت به، وهذا غباء ما بعده غباء، معناه أن هذا الإنسان لا تعنيه تجاربه، ولا تجارب الآخرين، وإنه مخلوق للأكل والشرب واللهو والنوم، أما المستقبل والتميّز والتطور، فهذه مسميات ومعانٍ لا تعنيه ولا يعرفها أصلا!.
هذا النوع من الناس قيمته صفر على الشمال، لا دور له حتى في حياته أو أسرته، فكيف إذا تعلّق الأمر بدوره تجاه الآخرين أو المجتمع، إنه لا يساهم في بناء المجتمع، بل عاجز عن بناء نفسه، لأنه من النوع الذي يهدر تجاربه ولا ينظر إليها على أنها المنبع المحفّز على التقدم والإنجاز، ولا يعنيه السقوط في أخطاء متكررة، هذا النوع يمثل عبئا على المجتمع وعالة على أهله، إنه الإنسان الفائض عن الوجود بحق، لأنه لا يريد بل لا يرغب بالتعلّم من أخطائه السابقة!.
لذلك يقول الإمام الشيرازي:
(الإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها ثانية ولا يصاب بمثلها في المستقبل).
أحسن الناس هو الذي يعي أخطاءه ويتجنب الوقوع فيها مجددا، والأفضل منه هو من ينبّه الآخرين على أخطائهم بصفاء نيّة، وليس بهدف الاستصغار أو الانتقاص أو التجريح، وهذا النوع ينطبق عليه قول الإمام الصادق عليه السلام:
(أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي).
في مجتمعنا الإسلامي نحن في حاجة كبيرة وماسّة لهذا النوع من الأشخاص، ونقصد به ذلك الذي يعي تجاربه ويحفظها، ويحرص على عدم تكرارا، ولا يكتفي عند هذا الحد، بل يذهب أكثر إلى تنبيه الآخرين على عيوبهم بأسلوب متمدن متحضّر خال من الاستعلاء أو الأهداف المبيّتة، الهدف هو العلو بشأن الإنسان والمجتمع، لأن من يُظهر لك عيوبك بدقة سوف يساعدك على معرفة الأسباب الخفيّة (النفسية وغيرها) التي تتسبب في الوقوع بأخطاء متكررة.
يقول الإمام الشيرازي:
(في هذا الحديث يبيّن الإمام عليه السلام قانوناً كليّاً للتطور، فإن من يبين للإنسان عيوبه يشخص له الأسباب الخفية والدواعي الباطنية التي كانت تسبب له التأخر والاضطراب في الحركة، ليصحح الإنسان حركته في حياته اليومية ذات المَساس بالمجتمع والدين).
بالنتيجة نحن جميعا نقع ضمن دائرة تحاشي الوقوع في الخطأ المتكرر، لأننا ملزمون ببناء أنفسنا وذوينا ومجتمعنا، هذا يدعونا بجدية إلى حفظ تجاربنا بأنواعها المختلفة، ومن ثم جعلها بوصلة تصحح مساراتنا نحو الأهداف الصحيحة، نحن مجتمع يحتاج إلى أناس لا ينسون تجاربهم، حتى لا يكررون أخطاءَهم لأننا نعيش في سباق عالمي لتقليص الأخطاء الفردية والمجتمعية إلى أدنى حد ممكن.