الإمام الكاظم محراب العلم والأخلاق
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2019-04-01 06:49
نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، حيث تتقاطر الناس من كل حدب وصوب على مدينة الكاظمة المقدسة، حيث يتبرّك الملايين من المسلمين بزيارة ضريح الإمام الكاظم عليه السلام، وحريّ بنا كمسلمين أن نستفيد في هذه الذكرى من شخصية الإمام وسيرته في العلم والهداية والتسامح وكظم الغيظ تجاه كل أعدائه رغم معرفته المسبقة بهم وبنواياهم تجاه شخصه الكريم.
إنه الإمام موسى ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر، ابن علي زين العابدين، ابن الحسين الشهيد، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو سابع الأئمة المعصومين الاثني عشر، الذين نص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله خلفاء من بعده.
ويكنّى أبو الحسن الأول، وأبو الحسن الماضي، وأبو إبراهيم، وأبو إسماعيل، وأبو علي، ولا يخفى أن (أبا الحسن) المطلق في الروايات يقصد به الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، كما أن (أبا الحسن) في التاريخ وما أشبه يقصد به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ومن ألقابه عليه السلام: الكاظم، والصابر، والصالح، والأمين، والعليم، والحليم، والعبد الصالح، والوفي، والنفس الزكية، وزين المجتهدين، والزاهر.
إن العلم لصيق بالإمام الكاظم عليه السلام منذ نعومة أظفاره، وهذا المخزون العلمي الذي ورثه عن أئمة الدوحة النبوية وحصده في حياته من مزارع الحقول العلمية، جعله فنارا مضيئا للمؤمنين يتوجهون إليه من أقاصي الدنيا مسلمون وغيرهم، للاستنارة والاسترشاد والمعرفة، إقبالا على الهداية، فارتبط علم الإمام عليه السلام برابط اهتداء الناس وهم يبحثون عن المرفأ الآمن الذي يلقون فيه رحالهم في بحثهم عن العلم والهداية.
ومما اشتهر به الإمام الكاظم عليه السلام، كظمه لغيظه عمّن يؤذيه طعنا في الخفاء، أو وجها لوجه، فكان بمثابة الإمام الكبير بقلبه وعقله وعلمه وأخلاقه المستمدة من الدوحة المحمدية التي وسعت كل الناس على اختلاف مشاربهم ونفوسهم وقلوبهم ونواياهم، فكان عليه السلام لا يعبأ بمن يعتدي عليه، والأكثر من ذلك ردّ الإساءة بالإحسان على من يؤذيه.
إنها مدرسة أخلاقية، ومخزون علمي لا ينضب، ومصدر مشعّ ومضيء لهداية القلوب والعقول والنفوس الضالة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (من حياة الإمام الكاظم عليه السلام):
(الإمام موسى الكاظم عليه السلام، هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى الله).
عالِم في مختلف فنون العلم
في زمانه عليه السلام كما في كل زمان، كان كثير من العلماء يجوبون دروب العلم، باحثين عن الجديد والمفيد الذي يجعلهم متميزين ومتربعين على رأس قائمة العلماء، إلا أن الإمام الكاظم عليه السلام، وباعتراف الجميع، حتى ممن كان ينافسه ويتبارى معه في حقول العلم، هو صاحب القدح المعلّى في منزلته العلمية ومكانته التي لا يستطيع أن يبزّها أحد، فهو بحسب مجايليه أعلمهم وأكثر في سعة الإطلاع والعلوم الدينية والمعرفة، وزادهم في صفة غض الطرف عمّن يسيء لشخصه الكريم أو مكانته النبوية المشرفة.
فكان العالِم المتبحّر والعارف في فنون العلم، ليس وفق الإدّعاء الذاتي، بل نعرف ذلك من خلال المؤلّفات والكتب والأسانيد التي وردتنا في سجل التاريخ، فقد كتب عنه علماء وباحثون ومفكرون وكتاب، وقالوا في صفاته العلمية ومخزونه العلمي ما لا يُقال في غيره ممن عاصروه، وكثرت الروايات في علمه وشخصه وخصاله وأخلاقه التي تقوم على قاعدة لا تزال البشرية كله تسعى كي تضعها الركيزة الأولى والأهم في منظومة العلاقات الإنسانية المتبادَلة، ألا وهي ركيزة التسامح، لذلك كان الجميع يسمّي الإمام بـ كاظم الغيظ، و العالِم.
الإمام الشيرازي يقول في كتابه المذكور:
(كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أعلم أهل زمانه، فلم يصل إلى مرتبة علمه أحد. وقد روى عنه العلماء في مختلف فنون العلم ما لا يمكن حصره، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يعرف بين الرواة بالعالم).
ومما عُرف عن الإمام عليه السلام، أنه كان يستمر العلوم والمعرفة التي يغوص في أعماقها، لغرض مهم يحتاجه الإنسان لنفسه ولأجياله القادمة، إنه شرط الأخلاق والهداية التي لا يستقيم من دونها العلم، فكان عليه السلام يوظّف علميته لهداية الإنسان ووضعه على السكة الصحيحة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(كان الإمام الكاظم كآبائه وأجداده الطاهرين سبباً لهداية الناس إلى الإسلام، ومذهب أهل البيت عليهم السلام، فكم من كافر أسلم على يديه، وكم من مخالف استبصر ببركته. وكان الإمام عليه السلام يستفيد من كل فرصة للهداية، وتبليغ معالم الدين، وقد اهتدى على يديه الكثيرون).
منجم العقائد الصحيحة
ومما اشتهر به الإمام الكاظم عليه السلام، جعل العلوم طريقا سالكا ومضمونا نحو العقائد الصحيحة التي تُستمد وترتكز على العقائد النبوية ومصدرها النبي صلى الله عليه وآله، وأخذها عنه أبناؤه من الأئمة المعصومين الطاهرين، لذلك كان كاظم الغيظ عليه السلام، معلّما فصيحاً للعقائد، وواضعا نفسه في محل المجيب عن كل الأسئلة التي تُثار عن العقائد، فكان مصباح الإضاءة المنير والدالّ للسائلين عمّا يستعصي عليهم فهمه أو الإحاطة به، فيكون الإمام معلّمهم والعقل الذي يهديهم إلى صواب الطريق العقائدي السليم.
وكان الهدف من إحاطة الإمام بالعلم، وتبحّره في مضامينه هدف في غاية الأهمية، ونعني بذلك إيصال الناس إلى منبع الهداية، كي تستقر نفوسهم وتطمئن قلوبهم، وتُضاء لهم المسالك وتُفتَح لهم الطرق المخبوءة في دهاليز الظلام والتيْه.
يقول الإمام الشيرازي في ذلك:
إن (العقائد الحقة الصحيحة هي عند رسول الله صلى الله عليه وآله والعترة النبوية الطاهرة، دون سائر المدارس والمذاهب، وكان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مبيناً لها، ومجيباً لمن يسأل عنها).
ومن هذه الحصيلة المتميزة في العلوم وفنونه المختلفة، وضع الإمام الكاظم عليه السلام هذا المخزون الهائل لتحقيق هدفين مترابطين جعلهما الإمام غاية الغايات وهدف الأهداف، وهما العلم والهداية وربطهما معاً، فلا فائدة من علم بلا هداية ولا فائدة من هداية يجهلها صاحبها ولا يعرف أصولها، لذلك ركّز الإمام الكاظم في سيرتيْه، العلمية النظرية، والعملية السلوكية، على هداية الناس، مع إضاءة عقولهم بالعلوم التي تساعدهم وتقرّبهم من فهم العقائد الصحيحة والإيمان بها وجعلها الحصانة التي تحميهم من الزلل في حياتهم المتخمة بتضارب المصالح.
لذلك كان الإمام الكاظم امتدادا لأجداده الطاهرين في المسيرة العلمية الدينية وفي منح الناس مصابيح التنوير والهداية، وكان عليه السلام يركز تركيزا عاليا على نشر العلوم الدينية واستبطان خفايا النصوص والمضامين القرآنية، كي تكون في متناول جميع العقول على الرغم من تباين مستوياتها.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام الكاظم عليه السلام كأجداده الطاهرين يحث على نشر العلوم الدينية، والمعارف القرآنية، وما ورد عن رسول الله والعترة النبوية (صلوات الله عليهم أجمعين)، ويبين فضل ذلك وثوابه الجزيل).