كيف يحقق الدين سعادة الانسان؟
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة المرجع الديني الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2019-01-19 05:00
مقدمة:
بعد أن نقتطف بعض ما تسالم عليه العلماء والحكماء حول مفهوم السعادة، وأنها تتجسد في حُسن الحال، والاستقرار النفسي، والوئام الاجتماعي، نأتي على تحديد الوسيلة الى هذه الغاية العظمى، كما فعل، ويفعل الكثير من الباحثين حول هذ الموضوع الذين ما زالوا يعانون من حدّة التعارض في الوسائل المتاحة، ومن تكون الأفضل والأقرب الى الواقع العملي في حياة الانسان؟ هل هي المال؟ أم الصحة البدنية والصحة النفسية؟ أم الايمان بالقيم الدينية والاخلاقية؟ أم بالمفاهيم الانسانية مثل؛ الحرية والعدالة والمساواة؟
سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي، في هذا المقطع الصوتي يؤكد مرة أخرى على أن الدين هو الوحيد القادر على تحقيق السعادة للانسان في حياته، بحيث تجعله "انساناً مثالياً" يتوفر على الفضائل والمكارم والصفات الاخلاقية كافة، لذا فان الانسان المتديّن في نظر الامام الشيرازي هو الوحيد القادر على أن يعيش الحياة السعيدة، بل بامكانه نشر هذه السعادة على محيطه الاجتماعي ايضاً، وهذه مسألة غاية في الاهمية، طالما بحث فيها الفلاسفة طيلة قرون من الزمن ولم يتمكنوا من رسم خارطة طريق صحيحة ونهائية للانسان لتحقيق هذه الغاية العظمى في الحياة، فوعدوه بأن يكون سعيداً وعالماً ومفكراً، ولكان لوحده!
و بعد ان يبين سماحته –طاب ثراه- علّة تأثير الدين والايمان على سعادة الانسان، الفرد والمجتمع من الناحية النفسية، سنبين ايضاً المباني العلمية لهذا التأثير وكيف يكون؟
الإيمان أروع هدية لمن تُحب
اذا تمسك الانسان بالدين، سيكون انساناً مثالياً يعيش سعيداً، ويسعد الآخرين.
إن الفرائض الدينية مثل؛ الصلاة، والصوم، والحج، وايضاً العقائد، والوعد الإلهي بوراثة الارض لعباد الله الصالحين، كلها تمثل ملامح للالتزام الديني.
فما فائدة الدين؟
للدين فائدتين:
الاولى: في الآخرة، وهي معروفة، ولا نريد الخوض فيه الآن.
والثانية: الفائدة في الحياة الدنيا التي نعيشها، وفي هذه الحياة للدين فوائد، نذكر منها ثلاث باختصار:
الفائدة الاولى: الاطمئنان النفسي
وهو ما يبينه القرآن الكريم: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، فالانسان الذي لا ايمان له، لا اطئمنان نفسي له، وإن كان يحكم أكبر دولة في العالم، بسبب وجود الفراغ الروحي لديه. أما الاموال والامتيازات والمنصب فلا تملأ الفراغ الروحي للانسان.
لذا نجد أن الذين يُجردون من مناصبهم، او يخسرون أموالهم وامتيازاتهم، يشعرون بالضياع والوحشة في اوساط المجتمع، اذ لا يجدون من يسندهم، بينما المؤمنون يشعرون بالاطئمنان الكامل من هذه الناحية طيلة حياتهم، ولذا نجدهم في استقرار نفسي كامل عندما يقعون في أي مشكلة اجتماعية او اقتصادية مهما كانت، ومهما كان افتقارهم للقوى المادية، من مال وسلطة وغيرها لإيمانهم العميق بان الحل الحقيقي لجميع المشاكل يكمن بيد القوة الكبرى وهي؛ الله –تعالى-.
لذا اذا اردت ان تخدم أي شخص خدمة حقيقية، أرشده الى التديّن والايمان بالله –تعالى-، لانك بهذه الهدية تجعله جبلاً شامخاً امام عواصف المشاكل والازمات.
الفائدة الثانية: التموج الاصلاحي
مثالٌ على ذلك؛ قد يكون ثمة شخصٌ يرشد الناس ويفديهم بعلمه وثقافته، بيد أن شخصاً آخر لا يبذل هذا الجهد، انما مجرد وجوده بين الناس يشعّ خيراً وعطاءً، كما هوالمصباح. هكذا الانسان المتديّن؛ قلبه الطيّب و روحه الشفافة تجعله يشع خيراً بشكل تلقائي بين الناس، وهذا بفضل الايمان المزروع في قلبه ، وهي أعظم وأحسن هدية يمكن ان تقدمها لمن تحب.
الفائدة الثالثة: انتشار الثقة بين افراد المجتمع والامة
فهل يمكن ان يثق الواحد منّا بشخص غير مؤمن؟
ان الانسان المؤمن هو الذي لا يقتل ولا يسرق ولا يتجاوز على حقوق الآخرين. يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: "الايمان قيد الفتك".
لذا عندما يتحدث معنا شخصٌ لابد ان نتحقق من ايمانه أولاً حتى نطمئن الى صدقه، والثقة تنسحب الى مسائل وجوانب عديدة في الحياة، مثل المال او العرض وغيره كثير. فالانسان المؤمن هو الذي يتصف بمخافة الله –تعالى- ويكون مورد ثقة الناس في أموالهم وأهلهم وكل شيء.
وعندما نوصي الشباب بالإيمان فالسبب في ذلك أنه رأس كل الفضائل، من حسن السيرة والسلوك وبر الوالدين والوفاء وصلة الرحم وغيرها. وكلما كان الايمان أعمق كان الانسان افضل حالاً في الحياة الدنيا. وعلينا جميعاً ان نهدي الايمان الى جميع الاصدقاء وافراد الأسرة. ونسكبه في قلوبهم، واذا استقر الايمان في قلب الانسان يعمل عمل القنبلة الهيدروجينية"!
أريد ان أكون سعيداً لوحدي!
يتصور البعض أن بامكانه العيش سعيداً لوحده، فهو يمتلك المال ويعيش مع زوجته وأولاده، او بين والديه، في مستويات مقبولة او حتى عالية من الرفاهية، او ربما يمتلك درجة يُحسد عليها من الذكاء العلمي، فهو المتوفق على أقرانه في الجامعة، ويرنو باطمئنان الى المراتب العلمية العليا، او الذكاء الاجتماعي الموصل الى الوجاهة او المناصب الرسمية في الدولة، فما الذي يرجوه بعد ذلك؟! وما شأنه بجاره او اقربائه او زملائه والمحيطين به؟!
وما يدعو اليه سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، يمثل أمل معظم –إن لم نقل الجميع- افراد المجتمع، فالمثالية التي يفهمها الناس على أنها مرادفة للنموذجية والرمزية في الشخصية الانسانية، بحيث لا يُعاب في عمل، ولا تفكير، ويكون مثالاً يحتذى به، بيد أن المشكلة تبدأ عندما يرتفع هذا النموذج المفترض عن محيطه الاجتماعي، ويكون أشبه بالنبتة المزروعة في ربوة عالية بعيداً عن عناصر النمو والحياة؛ من ماء وأملاح وسماد، ولذا نجد الامام الشيرازي يحكم الربط بين السعادة الحقيقية وبين الايمان، وان ما كل ما يحصل عليه الانسان فانه قابل للزوال في أي لحظة، من مال ومنصب وبنين وصحة وأمان، كونه عاجز عن خلق هذه الامكانات والقدرات، كما يعجز قطعاً عن إعادتها بعد فقدانها، وهو القانون الإلهي الذي تم تبيينه للبشر من قبل الانبياء والمرسلين على مر العصور.
ولذا يعطي الامام الشيرازي الايمان بالله، بعداً اجتماعياً، بل وحضارياً، عندما يربط بين الايمان وبين الاخلاق الاجتماعية والانسجام والتعايش، وايضاً بينها وبين تحقيق والأمن والسلام للشعوب والأمم، والوقاية من الحروب والديكتاتوريات والابادة الجماعية، ومن التخلف والحرمان، بما يعني أن كل المتسببين بالأزمات والمشاكل، انطلاقاً من محيط الأسرة والمنطقة السكنية، ثم محيط العمل والدارسة، والى مؤسسات الدولة والسوق، انما حملوا معهم فيروس السعادة بطابع الأنا، وليس بدوافع المصلحة العامة، حتى وإن اصبطغوا بلون الدين والمفاهيم الاخلاقية والانسانية، فهي تبقى شعارات لحفظ الظاهر وكسب الشرعية والمقبولية الاجتماعية، وتبقى الممارسة العملية تكشف باستمرار حجم التناقض مع الادعاءات.
الإيمان منجزٌ علمي
صحيح أن الإيمان بالله –تعالى- وبما جاء من عنده، من أحكام وسنن وقوانين أبلغها الانبياء والمرسلون، لها طابع معنوي وغيبي، وأن الايمان بالغيب طريق الايمان بالله، بيد أن الصحيح ايضاً تمكين الانسان إلهياً من الوصول الى الحقائق والحكمة من الخلق ومن الحياة بطريقة ذاتية مستعيناً بعقله الذي وصف في النصوص الدينية بانه "الرسول الباطن" الى جانب الرسول الظاهر، وهم الانبياء والمرسلين، ولطالما جاء الحثّ والتحفيز في القرآن الكريم لسلوك هذا الدرب.
وقد بين العلماء الحد الفاصل والنهائي بين قدرتين تتنازعان إرادة الانسان في هذا الطريق الطويل؛ قوة الهوى والرغبات النفسية، وقوة العقل والعلم، فالاولى تدعوه الى سطحية التفكير ومحدودية الفائدة، مهما عمل وسعى، بينما القدرة الثانية فتدعوه الى المُثل العليا وآفاق النجاح والتفكير الواسع والعميق في مختلف شؤون الحياة.
وهنا تحديداً ينشأ الايمان وينمو في نفس الانسان عندما يغلب العقل الهوى، والعلم الجهل، وهي حقيقة يكشفها لنا الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، لأول مرة في العالم بقوله: "العقل والشهوة ضدّان، ومؤيد العقل العلم، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينمها فأيهما قهر كانت في جانبه".
ان الايمان بالله –تعالى- يعالج سوء الخلق بمنظومة أخلاقية رائعة تجعل الانسان يغير من نظرته المادية الى الحياة وينظر الى الآخر نظرة انسانية حانية، ويكون قول الامام علي، عليه السلام، الشهير، نصب عينيه: "الناس إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
كما يعالج الايمان الظلم بالعدل والمساواة وإزالة كل اشكال التمييز عن بني البشر، وقد قدم الاسلام منظومة تشريعية كاملة تضمن للناس حقوقهم العادلة، في الوقت نفسه، يدعو الاسلام الى العفو والتسامح عن الظلم في سبيل تحقيق الوئام الاجتماعي.
وفيما يتعلق بالكوارث الطبيعية، فان الايمان يكشف لنا تدبير الغيب ويدعونا الى "النظر الرشيد في الكون وان هناك نظاماً دقيقاً ومرناً في الكون، واننا نزعم أن لانظام ولا تدبير في بعض حوادث الكون مثل؛ الزلازل والفياضانات، مع ذلك فهي خاضعة لنظم دقيقة تعود الى إرادة ربانية"، وفي نفس الوقت يكشف لنا الايمان بشكل مذهل خلفيات طائفة من هذه الكوارث، وابرزها الأوبئة الفتاكة وظاهرة الموت غير الطبيعي، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: "اذا ظهر الزنا من بعدي كثُر موت الفجأة".
أما قضايا المرض والصحة فان الاسلام الذي حثّ على طلب العلم، قدم للبشرية حزمة كبيرة من الوصايا والاحكام المؤدية الى توفير اكبر قدر من الصحة والسلامة للانسان من خلال الابتعاد عن النجاسات وتحريم الخمر والزنا واللواط والعادة السرية، وتحريم لحم الميتة وبعض الحيوانات، وحتى طريقة شرب الماء والنوم وغيرها كثير من الاجراءات الوقائية التي يتحدث عنها علماء الغرب يومياً ويعدونها من اكتشافاتهم ومنجزاتهم في مجال الصحة البدنية.
وليس هذا فقط ما يتحدث عنه علماء الغرب، بل والعلماء في جميع انحاء العالم، انما يتوصل البعض الى حقيقة أن الايمان هو المفتاح الحقيقي لسعادة الانسان وهي القادرة وحدها، على مواجهة هذه المحن والمشاكل وحلّها نهائياً.