لماذا لا يقلدنا الآخرون؟!

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-

محمد علي جواد تقي

2018-12-29 07:46

مقدمة:

"التقليد"، لغة واصطلاحاً، له معانٍ ايجابية، فأصل الكلمة "قَلْدٌ"، وجاء في لسان العرب: "كلُّ قُوَّةٍ انْطَوَتْ من الحبْلِ على قوّة، فهو قَلْدٌ، والجمع أَقْلادٌ وقُلُودٌ، وحَبْلٌ مَقْلُودٌ وقَلِيدٌ، والقَلِيدُ والإِقْلِيدُ: شَرِيطٌ يُشَدُّ به رأْس الجُلَّة (وعاء من الخوص يكون على فوق الناقة)"، وجاء في لسان العرب ايضاً: "...والقِلادَة: ما جُعِل في العُنُق يكون للإِنسان والفرسِ والكلبِ والبَدَنَةِ التي تُهْدَى ونحوِها؛ وقَلَّدْتُ المرأَةَ فَتَقَلَّدَتْ هي"، بمعنى ان التقليد عملية التزام ارادية من الانسان بأمر ما، ليس بالضرورة ان يكون مادياً، كما هو المفهوم عند العرب في سالف الزمان، انما تكون دائماً في الوقت الحاضر، متجسدة بأفكار وأحكام وعادات، من الدين او المجتمع، لذا يمكن ان يكون مفيداً وضرورياً مثل التقليد في فروع الدين لمعرفة تفاصيل الاحكام الشرعية، بيد انه مرفوضاً في أصول الدين – كما يجمع عليه علماء الدين- وايضاً في طريقته المظللة وغير المدروسة عندما يتعلق الامر بتجارب الآخرين؛ من شعوب وأمم أخرى، بما يطلق عليه بـ "التقليد الأعمى"، لاسيما اذا كان المقلّد صاحب تاريخ وحضارة، كما هو حال المسلمين، وهو ما يحذر منه سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، حيث يقرن هذا التقليد بالجمود والتأخر عن قافلة الحضارة والتطور، وما ينطوي عليه من نتائج كارثية كالتي تشهده بلادنا في الوقت الحاضر.

تركوا تاريخهم وهرولوا خلف الآخرين

"إن التقليد في أمور الحياة لايجوز عقلاً، لان الامة المقلِدة، والتي لا إبداع فيها، هي أمة جامدة ومحكوم عليها بالفشل والتأخر.

ان المسلمين إنما تخلفوا عن ركب الحضارة عندما بدأوا يقلدون كل ما يفعله الآخرون، في صناعتهم، وزراعتهم، وما يأكلونه، وما يلبسونه، وفي طريقة حياتهم، بينما كان المسلمون يوماً ما أسياد العالم لما قدموا من ابداعات وابتكارات.

للاجابة عن سؤال حول السبب وراء الواقع المتردي الذي يعيشه المسلمون اليوم، بحاجة الى بحوث مستفيضة ومعمقة للكشف عن عوامل تأخر الامة الاسلامية؟ ولماذا صعد غيرها وارتقوا منازل التطور والرقي"؟

ماذا خسرنا بتقليد الأمم الاخرى؟

ليس هو من قبيل التمنّى في الهواء الطلق، ولا العبور فوق أكوام من الهزائم والاسقاطات طوال قرون من الزمن، إنما هو استعبار من تجارب ماضينا المجيد، كما نفعل مع تجارب الأمم والشعوب المتقدمة اليوم عندما نحتفي بها، ونعمل المستحيل للحصول عليها، ثم تربية ابنائنا وبناتنا على اكتسابها.

يكفي أن نجلس ونعد ما توصل اليه علماء الغرب والشرق من جذور اسلامية في مكتشفات عديدة في مجال الطب والصحة البدنية وهندسة البناء والكيمياء والفلك وعلوم أخرى، يومياً تظهر – ولو على شكل همسات- فضل الاسلام على البشرية، ليس فقط في المجال العلمي، وانما في التربية والاقتصاد والقانون ايضاً.

رغم مرور نحو مائتي عام على نشوء الدولة الاسلامية، بقي المجتمع نظيفاً من ظاهرة الفقر والسرقة، اذ لم يجد أحدٌ حاجة الى ذلك، لذا احتار الفقهاء والعلماء في مجلس المعتصم العباسي كيف يفسرون النصّ القرآني حول قطع يد السارق؟ فكانت الاجابة الصائبة والدقيقة، وفي ضوء القرآن الكريم نفسه، بأن تقطع الأصابع فقط، بدليل الآية الكريمة: {إنما المساجد لله}، بمعنى الإبقاء على كف اليد لأداء الصلاة.

عندما نعرف شمولية وتكاملية القوانين الاسلامية وأصالة الأحكام والتشريعات في التكوين الانساني، ندرك حجم الفاصلة بين واقعنا اليوم وبين واقع المسلمين في العصور الذهبية، فقد كانوا يفخرون بما لديهم من نظام متكامل للحياة أمام سائر الشعوب والأمم في العالم، وهو الامر الذي جعل (الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) وعن قناعة وإيمان تامّين.

ولمجرد ارتخاء بسيط في الإمساك بحيل تلك القوانين والأنظمة والاحكام، بدأ التدهور يتسلل الى حياة الامة في المجالات كافة، فعندما يقول القرآن الكريم: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، ماذا يجب أن نفهم من ذلك غير اجتماع الامة وتلاحمها حول مبدأ واحد وعقيدة واحدة متصلة بالله –تعالى- وليس بمصدر آخر، بيد أن المشكلة ليست في فهم هذه الآية، وطريقة قراءة القرآن الكريم –القراءة التدبرية وليست التلاوة- وإنما في هجران القرآن اساساً، والاعتماد على مصادر اخرى غريبة على الامة بظن البعض أنها الأصلح، او ربما الأسهل لصياغة الفكر واستنتاج الاحكام ذات العلاقة بحياة الناس.

نشوء المشكلة يعود الى أول كتاب اغريقي او هندي او فارسي دخل المكتبة الاسلامية وتمت ترجمته واعتماده من قبل العلماء في العهد العباسي، وكانت الريادة في هذا المشوار للمأمون الذي يعد أول من شجع على الترجمة بدعوى الاستفادة من علوم ومعارف الأمم الاخرى، حتى بلغنا مؤخراً أن ما تم تصديره من المعارف الاغريقية واليونانية ثم المسيحية ثبت فشله هناك، وتم تعليبه وتصديره الينا بهدف الايقاع بنا والتسبب في الارباك الفكري والعقدي الذي ما نزال نعاني منه، وعلى فرض الصواب، فانها تصلح لهم، وليس بالضرورة ان تصلح لان تكون منهجاً ونظاماً لحياتنا كونها لن تتطابق بالمرة مع قيم ومفاهيم الاسلام المرتبطة بالسماء.

إن هجران القرآن الكريم، وايضاً سنة النبي الأكرم وسيرة المعصومين، عليهم السلام، هو الذي أدى بنا الى تبني التقليد المقيت في جزئيات الحياة التي يشير اليها سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، حتى بات من المضحك القول بامكانية ان نكون نموذجاً صالحاً للعالم، او قدوة للبشرية في التماسك الاجتماعي او النجاح الاقتصادي او التنمية والادارة وغيرها، ولا أدل على ما نقول من ظاهرة استنساخ الحفلات البهيجة بمناسبات خاصة ببعض الشعوب في العالم، مثل الاحتفال برأس السنة الميلادية في المجتمعات المسيحية، او مهرجان الالوان الذي يقيمه الهنود، او عيد الحب، وما أمثال ذلك، بقطع النظر عن ايجابية او سلبية تلك الاحتفالات، وما اذا كان مصدرها وثني او حتى غير انساني وغير مفيد للانسان.

الهزيمة النفسية، الحاجز الكبير

عندما يتحدث سماحة الامام الشيرازي بغير قليل من الأسى والأسف عن مآل الأمة حالياً وتأخرها بسبب تقليدها الاعمى، ليس للتحصيل الحاصل، بقدر ما هي دعوة واضحة من سماحته –طاب ثراه- للبحث عن الاسباب والعوامل والتي قال انها بحاجة الى بحوث و دراسات معمّقة لمعالجة ما يمكن معالجته، وعدم الخوض بعيداً في حديث المؤامرات الخارجية ومثالب الحكام، فالاسباب الذاتية والداخلية في الامة – من جملة اسباب اخرى- لها مدخلية مباشرة في خلق الواقع المتردي الذي نعيشه، مما يستدعي دراسة الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية، علاوة على الظروف السياسية ذات التأثير الكبير في توجيه افكار الناس وصياغة ثقافتهم وطريقة حياتهم.

لقد بحث مفكرون كثُر في البلاد العربية والاسلامية اسباب التقهقر في الامة في المجالات كافة، ولو أنهم استغرقوا في دراساتهم وبحوثهم الجانب السياسي بدافع من المؤثرات الاجنبية في عهد الاستعمار في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، و وضعهوا ايديهم على ثغرات عدّة أدت الى نجاح الاستعمار في استعباد العباد والاستحواذ على البلاد، وعزوها الى اسباب نفسية بحتة، كأن يكون الانسان المسلم في تلك الحقبة من الزمن، ابتكار القيم والمفاهيم من مخيلته وتصوراته ليعتمد عليها في مواجهة المستعمر والغزو الثقافي بشكل عام!

نعم؛ كتبوا في أن الشعوب الاسلامية "لديها القابلية على الاستعمار"، كما لو انها مثل الخشبة القابلة للاشتعال! ولكن؛ علينا أن نسأل عن السبب الذي أدى بهذه الشعوب لأن تكون كذلك، فهم ليسوا خشباً بالقطع، بقدر ما هم من نسل الآباء المؤسسين للعلوم والمعارف والاخلاق والآداب الرفيعة، فالعجز ليس أن يكونوا أئمة ومفكرين وفلاسفة، وانما في تحركهم البسيط نحو المصدر الحقيقي لتلك العلوم والمعارف والآداب، وهم ليسوا سوى أهل البيت، عليهم السلام، ومن ينطق القرآن الكريم بين أيديهم، وتتجسّد الحضارة الاسلامية في سيرتهم.

وحسناً وصف هذه المشكلة، أحد العلماء بأن أهل البيت، عليهم السلام، مثلهم مثل الشمس، تشرق كل يوم، ويعمّ نورها المفيد والدافئ كل مكان، بيد أنها لا تدخل الزوايا المظلمة والغرف المغلقة، مما يتوجب على الانسان العاقل والباحث عن مصلحته وصحته البدنية، أن يتحرك ويخرج ليتعرض لأشعة الشمس، وهو ما ينصح به جميع الاطباء، لاسيما لمن يشكون نقصاً في فيتامين "دي" أو آلاماً في العظام.

إن الانفصام عن الجذور والأصول هو الذي تسبب في اصابة الامة بفيروس الانهزامية واحتقار الذات والشعور بالضعة أمام الأمم الاخرى، فاذا وجد الماء العذب هل يعقل لانسان سويٍ ان يغترف من الماء الآسن ويشربه؟! بل العكس، سيكون فخوراً بماضيه، مهما كان بعيداً، بل وكانت القيم والاحكام صعبة التطبيق في الوقت الحاضر، لان المهم؛ السعي والطموح والتحدي لتحقيق ما يمكن تحقيقه.

ذات صلة

مستقبل عضوية فلسطين في الأمم المتحدة وآثارهاالتعليم العالي: المشهد المحذوفضرورة الشراكة العراقية التركيةالخواطر النفسانية والوساوس الشيطانيةالسياسية الامريكية في المنطقة فقاعة ضارة