الحوزات العلمية والترشيد السياسي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-07-09 07:27
يقتنص الانتهازيون غفلة الغافلين، ويسعون نحو مآربهم بقوة، وحين تصحو الناس من غفلتها أحيانا، تتساءَل كيف وصل هؤلاء الطغاة، الفاسدون، الانتهازيون، إلى السلطة وراحوا يتحكمون بنا كما يشاؤون بما لا يرضي الله ولا الضمائر؟، بالطبع يحدث هذا عندما يغيب (الفهم السياسي) عن الناس ومنهم رجال الدين، فيسهل وصول غير المؤهلين إلى المراكز الحساسة في الدولة، فيتحكمون بمصائر الجميع وهم ليسوا أهلا لذلك.
هل الحصول على (الفهم السياسي) هو الحل، بالطبع سوف يساعد النخب الدينية وعامة الناس على معرفة واجباتهم، والخطوات التي ينبغي أن يقدموا عليها، وهذا يعني أن رجل الدين سوف يفهم دوره (السياسي) بالضبط، ولن يزج نفسه في السلطة ومسالكها المغرية، بل سوف يكتفي بالتوجيه والمراقبة الحاسمة، وسوف يكون مرآة الناس كي يروا أخطاء الحكومات، وسوف يلقون الضوء الساطع على بؤر الفساد الحكومي، فيقفوا بذلك مع الأمة ضد الحكام المارقين.
لذلك من الأولويات المهمة لرجال الحوزات العلمية الأجلاء، ورجال الدين الأفاضل، أن يتحلوا بالفهم السياسي حفاظا على الأمة مما يضمر لها أعداؤها من خطط خبيثة تهدف إلى عرقلة تقدمها وتطورها فضلا عن محو هويتها وخصوصيتها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يؤكد على هذا الموضوع، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفهم السياسي) حيث يقول:
(يلزم على جميع المسلمين وخاصة الحوزات العلمية والعلماء التحلي بالفهم السياسي وذلك للحفاظ على الأمة من الضياع ومن مخططات الأعداء).
وثمة معادلة ينبغي التنبّه لها، تخص بطرفها الأول التوجّه العلماني حيال السلطة، أما طرفها الثاني فيتعلق بدور رجال الدين وتعاملهم مع السلطة، فالعلمانية المتزمتة والاستبداد الديني وجهان لعملة واحدة، لهذا لا يصح أن يتخلى رجل الدين عن دوره في التوعية السياسية، ولا يصح أيضا أن يزج نفسه في مغريات السلطة، ولكن يحتاج أن يتقن الفهم السياسي حتى يكون دوره التوجيهي للناس مؤثرا وفاعلا، وقادرا على إفهام عامة الناس بطبيعة المخططات التي يخطط لها أعداء المسلمين ومواجهتها بعقل واعٍ وأساليب مواجهة واثقة.
لهذا يرى الإمام الشيرازي:
أنّ (معظم ما يجري في بلادنا سببهُ مخططات الأعداء، وكل ذلك يعود إلى عدم الوعي والفهم السياسي في أوساط الأمة).
تحييد اللّبس الفكري المنحرف
وربما يتساءل البعض من أين نكتسب الخبرة الكافية لكي نفهم طبيعة الدور المنوط بنا؟، وهو سؤال مهم حقا ولابد من الإجابة عنه بصورة دقيقة، لا شك أن رجال الحوزات العلمية قد هضموا بشكل كبيرة سيرة أئمتنا الأطهار عليهم السلام، وهم قد عاصروا الحكام الأمويين والعباسيين أيضا، وتعاطوا مع سياستهم الرعناء، وفتحوا للناس نوافذ الأمل بحياة تتدفق بأعمال الخير والثبات ومواجهة الشر، ولم يستأثر أئمة أهل البيت بالسلطة ولا يمكن أن تسحبهم مغرياتها ومزاياها الكبيرة والكثيرة إلى حبائلها، فقد أوفوا بالعهد وتصدوا لطغيان بني أمية والعباسيين بالقوة نفسها.
ولم تكن السلطة هدفهم، لكن حقوق الناس خط أحمر بالنسبة لهم، فهم لم تغرهم السلطة، لكنهم تسلحوا بالفهم السياسي وقدموا لعامة الناس دروسا مهمة بهذا الفهم ودوره في مقارعة السلطان الجائر، فلم تسحبهم السلطة إلى الكراسي والمناصب والمغريات وفي نفس الوقت قاموا بدورهم في مواجهة الحكام الظالمين.
وقد أكد الإمام الشيرازي دور الأئمة عليهم السلام في مقارعة السلطة الفاسدة حين قال:
(لقد بينت حياة الأئمة الأطهار - عليهم السلام- ومعاصرتهم للظالمين من حكام بني أمية والعباسيين، واتخاذهم المواقف الصحيحة، دروساً لنا في غاية الأهمية، وخاصة في حق الشخص الذي يتمتع بسلطة دينية أو دنيوية).
ولعلنا لا نغالي ولا نستعرض ما هو خافٍ عن التاريخ والعقول، حينما نقول أن الأئمة المعصومين، قاموا بواجبهم على أفضل وجه في مجال الفهم السياسي، عندما جعلوا من أصحابهم على وعي تام بالسياسة، ولذلك كان دور الإنسان المؤمن كافيا لكي يزرع الرعب في قلب الحاكم الجائر، ويجعله في حالة خوف دائم من الجمهور، ويحسب ألف حساب قبل أأن يفكر بالتجاوز على حقوقهم.
وهذا هو دور رجال الدين اليوم، فالمهمة التي يتصدون لها هي تسليح عقول عامة الناس بفهم ما يدور حولهم في إدارة شؤون البلاد، وتنبيههم على ما يجري من حالات فساد وتلاعب بحاضر ومستقبل المسلمين في العراق وفي غيره من البلاد الإسلامية، نعم دور رجال الدين ليس الغوص في حبائل السلطة وما تقدمه من إغراءات دنيوية هائلة لكنها زائلة، وإنما دورهم تنوير الناس، ومواجهة الحكام الفاسدين ممن له ارتباطات خارجية، فالمخططات المعادية غالبا ما يخطط الأعداء بمعاونة أذنابهم، لذلك من أهم الأدوار هي توعية عامة الناس وتنبيههم على طبيعة الأفكار الهدّامة وتداخلها مع بعض في محاولات خلط الأوراق كي تبقى الأمور السياسية غامضة عليهم، فالمطلوب أن يكون الجميع في حالة وعي تام لمواجهة الأفكار والمآرب الخطيرة.
يقول الإمام الشيرازي:
لقد (غرسَ أئمتنا المعصومين – عليهم السلام- المعرفة والوعي والفهم السياسي في نفوس أصحابهم، لكي لا تهجم عليهم الالتباسات والأفكار المنحرفة من قبل الحكام آنذاك ولا يضلونهم، فكانوا واعين لها تمام الوعي).
السياسة ليست اختصاص الطغاة
إن الخطأ الكبير الذي وقع فيه رجل الدين حينما ظنّ بأنه غير معني بالسياسة بشكل تام، وأنها من اختصاص العاملين في السياسة من خارج المؤسسة الدينية، وهو تصوّر غير صحيح، لأنه أدى برجال الدين إلى الابتعاد عن السياسية، وهذا من أهم الأسباب التي غيّبت الوعي السياسي لديهم، وأدى أيضا إلى قلة الفهم السياسي عند عامة الناس، فصار الحكام الجائرون يتحكمون بمصائر الأمة كما يحلو لهم، في ظل غياب الفهم السياسي الجمعي.
وقد أصبح ضمور الوعي السياسي لدى المسلمين ظاهرة عامة، لذلك تنمّر الحكام الطغاة على الأمة، وانتهكوا حقوقها، وتراجع دور رجال الدين إلى الوراء، فانحسر عملهم على طقوس التعبّد وتعليم الفرائض وما شابه، في حين أن الفهم السياسي من لبّ واجبات رجال الدين، وتقديم الوعي وغرس الفهم السياسي عند الأغلبية الساحقة من الناس يعد من أهم واجبات الحوزات العلمية، كي تضاعف من ترشيد وتوجيه وإفهام الجميع بواجباتهم في مواجهة الحاكم وحكومته المستبدة، علما أن الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهود كبيرة كي يحصل عليه رجال الدين وعامة الناس.
كما يؤكد الإمام الشيرازي في قوله:
(إن الحصول على الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهد كثير، ولكن المسلمين ـ على الأخص رجال الدين ـ تركوا العمل بها واعتبروا السياسة من شؤون الدولة المتسلطة وليست من شؤون الدين، وهذا من أهم أسباب عدم وجود الفهم السياسي بالمقدار الكافي في أوساط المسلمين).
وحين ابتعد رجال الدين عن السياسة، بسبب اعتقادهم بأنها من اختصاص الطغاة فقط، زاد جهل الناس حيال الأمور السياسية، وهبط لديهم مستوى الفهم السياسي، لكن الناس تنظر إلى رجال الدين على أنهم أسوة وقدوة لهم، لذلك هم مسؤولون عن الناس أمام الله، وليس صحيحا التخلي عن دورهم في تنوير الجميع سياسيا، خصوصا إذا كانت الحكومات لا تحكم بما يرضي الله والضمير والأخلاق، لذلك ليس صحيحا أن ينسحب رجال الدين عن دورهم الترشيدي هذا.
يقول الإمام الشيرازي:
لقد (تصوَّر البعض – من رجال الدين والعلماء- أن السياسة هي شأن الطغاة حفاظاً على الحياة الدنيا، متناسين أنهم مسؤولون في الآخرة عن الناس الذين يعتبرونهم أسوة وقدوة لهم).