الإمام الشيرازي التنوع الإنساني المبدع

مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

2018-06-18 06:51

إن تاريخ العظماء حافل ومليء بالعطاء الهائل والنوعي، وأن حياتهم تبقى جوانب منها مضيئة أكثر من غيرها، هذا إذا كانوا عظماء عاديين، أما إذا كانوا عظماء روحانيين بمعنى ارفع واسمى من المادة والشهرة والدنيا، فإن حياتهم تكون أنصع باعتبارها متصلة بالسماء، وكل ما اتصل بالسماء يسمو بطبيعته، وهكذا كان الإمام الفقيد السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، رجلاً كله للسماء، ولرب السماء وخالق السماء، ذا أفق حضاري واسع أتاح له التعاطي مع الحياة بمنظار ديني أصيل، لقد كان (رحمه الله) مثالاً حياً للخلق الفاضل والسيرة المحمودة بين الناس، فقد جسد خلق العالم الحق الذي لا ينتظر من الناس أن يأتوه، بل هو من يبادر ليعيش الناس فيشعرهم أنه جزء منهم فيعيشوه في أخلاقه وعلمه وعبادته.

لذلك يجب أن نجعله حاضراً أمام أعيننا في هذا الوقت مجسداً للدور الحقيقي للعالِم وما يجب أن يكون عليه، ليؤكد أن العالِم يجب أن يعيش الإسلام المنفتح على الناس جميعاً، وأن الدين هو دين الله، والخلق كلهم عيال الله، لذا وجب الانفتاح عليهم دون استثناء ولأن (العلم هو رأس الخير) كما قال الرسول الكريم(ص)، فلابد لهذا الخير أن ينتشر عبر حامليه إلى العالم كله، فجسد رحمه الله ذلك الدور، بيقين.

عرف عنه بسعة افقه، وغزارة علمه وعمقه في الإبداع الفقهي، فقد ترك ثروة فقهية ضخمة تحتويها موسوعته الفقهية الكبرى الواقعة في أكثر من 150 مجلّداً، كانت له فيها شخصية متميزة ذات تأثير كبير في الفكر الشيعي، جمعاً وتعليلاً وتخريجاً وترجيحاً واجتهاداً وتنمية. وقد لخص علماء زمانه صفاته بما يأتي (إتصف الإمام الفقيد بصفات جعلته في الذروة بين رجال العلم والفقه عبر التاريخ الإسلامي الحاضر وأُولى هذه الصفات، ذاكرة واعية وبديهة حاضرة وعقل مستقيم، واتزان في القول والعمل بالإضافة إلى الحلم وضبط النفس والاستمرارية والمواصلة والمثابرة في العمل رغم الظروف التي دائماً ما كانت تعاكسه. كذلك كان صادقاً مع نفسه ولم يخضع للضغوط التي حاولت أن تثنيه عن تطبيق الأفكار والرؤى التي قرر مع نفسه تكريسها في الأمة).

وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام لابد من إثارتها. هي أن للسيد الإمام الشيرازي (رحمه الله) ما يزيد عن الألف ومائتي كتاب تتداخل موضوعاتها بين الفقه والسياسة والاجتماع والعلوم والاقتصاد والقانون والبيئة وغير ذلك. ولم نكن نريد الآن إعادة ما ذكر سماحته في كتبه، ولا إلى عرض تلك النظريات والمفاهيم، فذلك ما لا يمكن تحقيقه لا من قبل باحث واحد ولا عشرات الباحثين، لذا كان همنا الأساسي في المرحلة الراهنة متجسداً في الكشف عن منهجية سماحته، وجوهر أفكاره، وإعادة تمثيل رؤاه بأسلوب أكاديمي بحثي عصري يستجلي أهداف فكر سماحته (قدس سره) عسى أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه الإستخلاصات الدقيقة، ومعرفة مدى التطور الذي أدخله في طروحاته، لأن نظريات الإمام الفقيد ومفاهيمه تهدف إلى تغيير الواقع في العالم الإسلامي، بل في العالم كله نحو الأفضل والأجود لأنها حصيلة الفهم الواعي للإسلام بمصادر تشريعه الأربعة (القرآن الكريم، السنة النبوية، الإجماع، العقل) وتاريخه الحافل وتراثه العظيم، إضافة إلى الفهم الواعي والرشيد للعصر الحديث والتغييرات الكبيرة الحاصلة فيه.

وبذلك فتح الإمام (قدس سره) أبواب المستقبل أمام الفرد المسلم ليمتع بثمار عمله وبالتالي يقودنا لنفهم أن النهضة الإسلامية بمرتكزاتها ووسائلها وأهدافها تؤدي إلى مزيد الكشف عن مكامن إبداع الفرد المسلم فيها. ومنزلته في تطوير نفسه وأهله وجميع أبناء مجتمعه.

هناك حقيقة علمية مهمة لابد من تشخيصها الآن وهي أن الإمام قدم فكراً علمياً نيراً تأثر به بعض علماء الغرب، وبنوا نظرياتهم على افتراضاته واستنتاجاته مع تدعيمها برؤيتهم المادية، فظهرت كأنها نقيض لذلك، وتبرز قوة المتناقضات بين النظريات الغربية وفكر السيد الشيرازي في أحيان عديدة في اختلاف التوجهات والأهداف والأساليب بين النمطين من التفكير والأداء، والذي يعتبره الإسلام واجباً لا تراجع عنه لأنّ هدف الإسلام سعادة المجتمع في الدنيا والفوز في الآخرة.

لقد عودنا الإمام الشيرازي ـ تغمده الله برحمته ورضوانه ـ في كتبه أن يتناول أعقد وأخطر المسائل بأبسط العبارات، وهي في مجموعها تثير دهشة الباحث بسعة علم الإمام ودقة وصفه. فنحن تارة أمام عالم فقيه ذي ثقافة متشعبة بيَّن دقة نظرياته وأهميتها، وتارة أمام اقتصادي عظيم مُنظِّر لنظريات علم الاقتصاد، وتارة أمام سياسي محنك تعددت طروحاته وأفكاره وتنبؤاته السياسية وتارة أمام عالم للاجتماع ومفسّرٍ وأديبٍ ذي أسلوب متميز وافتنان عجيب وابتكار غريب في تدوين وتأليف هذه العلوم، ويشهد له السبق في المعرفة بالعلوم الإسلامية.

وإذا انتقلنا من الجانب العلمي النظري إلى الجانب الروحي رأينا فيه ذلك العالم الفقيه والوجه الملائكي والإمام القدوة لكل عالم وتقي. كنت إذا نظرت إليه وجدت نور سيدنا محمد (ص) يسطع على وجنتيه وعلمت أنه من سلالة النبيين والصديقين. هكذا كان الإمام محمد الحسيني الشيرازي ـ رحمه الله برحمته الواسعة ـ عالماً بكل شيء ومجتهداً وموسوعيأ في كل العلوم فهو (قدس سره) لسان ولغة، استقى من منهله العذب كل متعطش للمعرفة، يأخذ عنه.. ويعترف بعلمه وفضله وزهده فكيف لا.. وهو إمام الزاهدين وقدوة المتقين وهداية المتعظين.

لقد كانت حياة الإمام الشيرازي الراحل جذوة متوقدة من النشاط والحركة والإبداع ممتزجة بالإرادة الصامدة والهمة العالية مما خلق من شخصيته بعداً متجدداً وسيالاً من الإنتاج الفكري والعلمي المتنوع، امتاز ببعده عن حاضر الأمة الجامد وقربه إلى مستقبل مستنير يهدف إلى بناء الأزمنة القادمة بقوة النهوض. إن الإمام الراحل أصبح تاريخاً مميزاً كتبه بنفسه، ذلك أنه (قدس سره) صنع مشروعاً إنسانيا شاملاً تتكامل فيه كل العناصر اللازمة لخلق حقبة زمنية مختلفة ومنتزعة من التاريخ الروتيني العادي. فشمولية مشروعه ذاتياً واجتماعياً وسياسياً وحضارياً هي التي توجب علينا كحملة أقلام أن نصفه بصانع التاريخ. لذلك فإننا عندما نقرأ التاريخ الإنساني ونستلهم منه العبر فإننا نقرأ في فترات زمنية معينة كان فيها لأفراد وأمم أداؤهم الإنساني الواضح والمؤثر.

لقد شكل الإمام الشيرازي (رحمه الله) نموذجاً فريداً في عصره والعصور التي سبقته، فقد طرح في مشروعه الشامل أفكاراً تكاد تكون إبداعية في لغة طرحها، وانسجامها بين الدين والعصر، فشكلت فكرة الحرية هاجساً ذاتياً متحركاً في مشروعه فكريا وأخلاقياً وشخصيا. إذ كان يعتبر أن معركته الأساسية هي الحرب المستمرة ضد الاستبداد والاستعمار، وأن الحرية هي المبدأ الأول الذي يجب أن ينطلق منه المشروع التغييري والإصلاحي للأمة، فكان جهاده مستمراً ضد الطغاة في كل البقاع التي حلّ فيها من أجل توعية الأمة بهذه الحقيقة التي يتوقف عليها مصيرها، لقد كانت الحرية متشربة في ذاته وقلبه وفكره حتى أصبح ذلك المتحرر الذي يرفض بشكل مطلق أن تفرض عليه القيود والأغلال. فلم يرضخ لأهواء المساومة التي كانت تعرض عليه إغراءً أو تهديداً، بل تمرد على الطغاة ورفض منطق الاستغلال والاستعباد وإن كبلوا حركته وجسده لكنه بذكائه ونضجه وعقليته المعرفية الواسعة كان يتخلص من هذه القيود ويفتح لنفسه آفاقاً جديدة ينشر منها مشروعه الحضاري. فقد كان (قدس سره) أقوى من العبودية والاستبداد لأن الأحرار هم السادة والحكام على قلوب الناس بعبوديتهم المطلقة لله سبحانه وتعالى.

ويمكن أن نقول عن حركة الإمام الشيرازي أنها مشروع حضاري شامل لأنه كان مشروعاً ناضجاً قام على الفهم الصحيح والوعي السليم والحركة العقلانية، والأهم من ذلك هو تجسّد المشروع الحضاري بشكل عملي على أرض الواقع، وهذا الأمر هو الذي منح حركته الصدقية والواقعية في مبادئها وأهدافها. إذ نرى الإمام الشيرازي الراحل كان يمثل تجسيداً عملياً وواقعياً لأهم المبادئ التي رفع رايتها بشكل متواصل وهو مبدأ اللاعنف والسلم.

فقد كان يرى أن مشكلاتنا لا تحل ومبادئنا لا تطبق إن لم نسلك طريق اللاعنف ونقضي على العنف في أجسادنا وأفكارنا وقلوبنا، فاللاعنف عنده هو طريق العقل وسلوك الأنبياء ولغة المنطق وحوار العقلاء، وهو الأسلوب الذي يقضي على البغضاء والعصبية والانتقام والثأر والجريمة، إذ مع اللاعنف يربح الجميع وتتحقق الغايات والمصالح. لقد تجسد فيه اللاعنف بشكل عميق حتى كانت مدرسته الشخصية المتمثلة بسلوكه الأخلاقي الذاتي أكثر بروزاً من أفكاره التي انتشرت في كتبه ومحاضراته، إذ كان يصفح عمن أساء إليه قبل أن يكمل كلامه، وكان القلب الواسع الذي يتحمل الإساءات ويغض الطرف عنها، والصدر الواسع الذي يتقبل المعارضة ويستقبل النقد، وقد كان قلبه مفتوحاً للجميع دون استثناء ودون تمييز بين عدو أو محايد أو صديق أو شيعي أو سني أو مسلم أو مسيحي، فكان بيته مفتوحاً لكل من كان يريد أن يلتقيه في أي وقت شاء وهذه حقيقة يقرها الجميع.. هذا التسامح الكبير طالما تحول إلى موقف حازم وصمود ذاتي عندما يظلم الطغاة الناس، فقد كان يتحمل ويصبر على الظلم الذي يلحق به ولكنه كان يتخذ موقفاً قوياً (دون قوة عنفية) ضد الظالمين ويدافع عن المظلومين وخصوصاً عندما يكون الظلم تحت عباءة الدين والسلطة، وقد دفع الثمن كبيراً بتضحيات من أجل اتخاذ الموقف الشرعي السليم في أوقات الشدة والمحنة والفتنة.

عندما وضع الإمام الشيرازي أفكاره خصوصا المميزة منها مثل نظرية الشورى والتعددية وشورى الفقهاء والاخوة والامة الواحدة نجده يتفاعل معها بوجوده وذاته محاولاً استنطاق جوارحه وعمقه الإنساني من اجل ترجمة هذه المبادئ إلى مشروع حقيقي يأخذ حيزه التكويني على ارض الواقع، فنرى مثلا أن أسس نظريته الخاصة باللاعنف إنما تنطلق من مكنونات ذاتية يحملها بين ثنايا تكوينه النفسي والشخصي. لقد كان عالماً موسوعياً أنتج العديد من الأفكار وأبدعها في الكتب والمؤلفات، وعادة يعرف في علم نفس الشخصية وعلم نفس الإبداع والتفوق العقلي، هذا النمط بالشخصية الخلاقة »الإبداعية« Creative Personality كما أطلق عليها الدكتور علي كمال في كتابه »النفس« حيث يقول: من المواضيع التي طالما أغرت الباحثين بالتأمل في أمرها هو موضوع العبقرية، وقد كان من شأن الاهتمام بهذا الموضوع ولادة حيثية جديدة من أنماط الشخصية، اصطلح عليها بالشخصية المبدعة أو الخلاقة.

لقي موضوع الإبداع وشخصية صاحبه والعوامل المقررة والدافعة له، اهتمام علماء النفس في السنوات الأخيرة، وقد أجريت الأبحاث على مجموعة من المبدعين في مجالات مختلفة، ويمكن القول بشكل عام بأن معظم المبدعين في المجالات المختلفة هم من الأسوياء في حياتهم النفسية وسلوكهم الاجتماعي، وللعمل الإبداعي في مثل هؤلاء أن يتأثر في موضوعه وفي طريقة إنتاجه وفي زمن خلقه.

إن البحث عن شخصية محددة ومتميزة بالإبداع، قد أدى إلى إظهار بعض الدلالات على توفر بعض السمات التي يتصف بها المبدعون أكثر من غيرهم من الناس، كما أنها أفادت بوجود بعض المؤشرات، ومن أهم المؤشرات هي توفر مظاهر المقدرة على التخيل والذكاء وحب الاستطلاع والميل إلى الابتكار.

فالعبقرية هي نتيجة التفاعل بين الحسية المفرطة والمقدرة الفكرية، وينظر إلى الحسية هنا بشكل واسع المدار لتشمل الحياة العاطفية للفرد، وروح التسامح، والقدرة العالية في معرفة أحاسيس الآخرين ومشاعرهم، وقابليته بالأحاسيس المختلفة بشكل مرهف ومقدرته على تحليلها، ويفترض ذلك أيضاً توفر الحساسية وتوفر الحافز للقيام بها.

أما المقدرة الفكرية فهي عامل هام في عملية الخلق لما توفره للفرد من مقدرة على ممارسة الخيال والتحليل والربط وإيجاد العلاقات والحلول، وبهذا تكون المقدرة العقلية مصدر إغناء للقابلية الحسية.

بهذا فإن الإمام الشيرازي توفرت لديه المقدرة الحسية والمقدرة العقلية وتهيأت لديه العملية الإبداعية مع الحس العالي نحو المسالمة واللاعنف وتطبيق مبادئها على ذاته أولاً، وبالتالي استطاع أن يستنبط أسس ما اعتقد به كسلوك نابع من ذاته الداخلية.

وها نحن مقبلون على دراسة حياة الإمام الفقيد السيد الشيرازي الحافلة بالتنوع الفكري المبدع، والوقوف على جوانب علومه وثقافته المتشعبة، ولو بإيجاز، وباسلوب حضاري فريد بغية التعرف والاستنارة بالجوانب غير المعروفة من ثقافة الإمام وعلومه النيرة، لنثير شوق الباحث إلى مزيد من البحث والدراسة والتنقيب اغترافاً من منهل هذا البحر الزاخر. وإننا على ثقة ويقين بأن روح الإمام الفقيد الطاهرة ستسر بهذه البادرة الطيبة إذ فيها إحياء الجانب الروحي من التراث الإسلامي وتجديدا لذكر أهل البيت النبوي وعزاؤنا في كل الأحوال هو قول الرسول (ص): (العلماء باقون ما بقي الدهر)، وقول أمير المؤمنين علي (ع) : (العالم حي ولو كان ميتا).

* مقدمة كتاب: (الإمام الشيرازي التنوع الإنساني المبدع) من إصدارات مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018 Ⓒ
http://shrsc.com

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد