بناء الدولة ومبدأ التوازن بين الولاء والخبرة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2017-07-24 06:00
تنقل لنا صفحات التاريخ بأبعاده الزمنية المعروفة تفاصيل كثيرة عن الحركات والأحزاب الثورية، وما يرافق أنشطة تلك الحركات من أحداث وأسرار وقمع وتجاوزات عندما يتربع القائمون بها على عرش السلطة، فقد تحوّل بعض المناضلين والثوريين الى طغاة وقادة قمعيين ونسوا سنوات الكفاح وهم يتذوقون عسل السلطة وامتيازاتها، لذلك لم تفلح معظم الحركات السياسية المعارِضة التي وصلت الى السلطة في بناء دولة لأنها لم تستطع أن تدير شؤون الشعب ومؤسسات الدولة بصورة صحيحة ومتوازنة.
ولعل أكبر عيوب هذه الحركات التي قارعت الأنظمة الفردية تكمن في اعتمادها على مبدأ الولاء بغض النظر عن الخبرة والكفاءة التي يحملها الموالي للحركة أو الحزب أو السلطة، وهذا العيب أجهض الكثير من المشاريع النضالية، وساهم في تحويل الحركات الثورية الى أنظمة حكم فردية متعطشة للسلطة، بعضها مارس القمع وتعامل مع السلطة وامتيازاتها مثلما فعل السابقون من الحكام الفرديين، فأهملوا احتياجات الشعب، وقفزوا على العدالة الاجتماعية، واستأثروا بالمناصب الحساسة وسواها، فيما كانت البطالة والظلم من حصة النسبة الأكبر من الشعب.
وقد فات القائمون على هذه الحركات السياسية أن الولاء من دون خبرة لا يسهم في بناء الدولة، ولا يساعد في تأسيس وتطوير نظام سياسي ناجح يقود الدولة بصورة صحيحة وجيدة، لذلك كان حري بهم أن يعتمدوا على كفاءة وخبرة غير الموالين، لأن الخبرة هي الضمان الأقوى لبناء الدولة ومؤسساتها تقنيا وفنيا وإداريا.
وقد أكد ذلك الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم (اذا قام الإسلام في العراق) عندما قال: (إن الأعمال التقنية والفنية تحتاج إلى الأمانة والإتقان لذلك يلزم على الدولة الإسلامية الفتية الاهتمام بالخبراء في كل مؤسسات الدولة).
وطالب سماحة الإمام الشيرازي في كتابه المذكور أعلاه بنوع من التوازن بين (الخبرة والولاء) في تشكيل النظام السياسي من أجل ضمان نوع من الاستقرار والخبرة الإدارية لمؤسسات الدولة وتنظيم شؤون الشعب بما يضمن تحقيق أعلى نسبة من أهداف الحركة التي غالبا ما يتم التخطيط لها والإعلان عنها أبان معرضة النظام الدكتاتوري، لذا لا يصح ترك أحد الطرفين (الولاء أو الخبرة) ينفرد في إدارة مؤسسات الدولة:
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله: (من الممكن تدارك مشكلة (الأمانة والخبروية) بضم أحدهما إلى الآخر، وإن كان هذا في نفسه يمثل مشكلا، إلا أن إشكال انفراد أحدهما بإدارة الدفة أشكل وله عاقبة سيئة).
تعقيدات تفرّد الولاء الثوري
ومن الإشكالات التي تعاني منها الحركات الثورية، أنها بعد انتهاء صفحة الكفاح، وبعد أن تستقر في عرش السلطة، فإنها تنسى سنوات الكفاح الطويلة والشاقة، كما أنها تمحو من تأريخها تلك الوعود التي قطعتها على نفسها كي تبني النظام السياسي السليم ودولة المؤسسات المنضبة، فتتحول بين ليلة وضحاها من موقع النضال والمعارضة الى موقع الحاكم والسلطة ومنافعها، فيصبح سجل الكفاح في خبر كان، والسبب هو اعتماد الولاء بصورة أحادية في إدارة السلطة ومؤسسات الدولة ودوائرها.
فالمناصب الحساسة وسواها تعطى الى أشخاص لا يمتلكون الكفاءة ولا الخبرة، وإنما تُمنَح لهم المناصب المهمة على أساس الولاء للحركة القابضة على السلطة، وهكذا تكون الدولة برمتها إزاء معضلة وإشكال يتمثل بغياب الخبرة وانعدام الكفاءة مقابل شرط الولاء الذي يقوض عمل مؤسسات الدولة ويجهض أحلام الشعب وأهداف الحركة ووعودها عندما كانت في مركز المعارضة، وهكذا تصبح إدارة الدولة في قبضة أشخاص وعقول لا تحمل الكفاءة ولا الخبرة في إدارة شؤون الدولة، فتشكل إساءة بالغة للشعب والدولة وللتاريخ النضالي للحركة.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (أما ملاحظة الولاء الثوري في العاملين للدولة فقط فإنها تزيد الأمر تعقيدا وإعضالاً، إذ معنى ذلك أن تقع إدارة الدولة بيد غير الأخصائيين مما يتبعه أخطاء كثيرة وكبيرة).
ويصف سماحة الإمام الشيرازي الثوريين أو أصحاب الثورة بأنهم يمثلون أحد أجنحة الدولة فيما يمثل أصحاب (الخبرة والكفاءة) جناح الدولة الثاني، والطائر لا يمكنه الطيران بجناح واحد، فلا الثوريون قادرون على إدارة الدولة بصورة صحيحة لوحدهم، ولا الخبرة والكفاءة قادرة على ذلك لوحدها، فالحل المناسب هنا هو مزيج من الطرفين (الثوريين/ الخبراء)، وبالتعاون فيما بينهما ينبغي أن تُدار مؤسسات الدولة أو مقتضيات السلطة وتوابعها.
لذلك يرى الإمام الشيرازي:(بأن وجود الثوريين في الأجهزة الحكومية كي يحملوا لواء الثورة لابد أن يتوازن مع وجود الأخصائيين كي يتمكنوا من حفظ البلاد وتقدمها إلى الأمام، وكل طرف بدون الآخر يكون حال البلاد معه حال الطائر بجناح واحد).
الاستبداد يقوّض بناء الدولة
وقد يسأل بعضهم لماذا يفشل الثوريون (المعارضون عندما يصلون الى السلطة) في إدارة شؤون الدولة، والجواب يمكن أن يأتي على الشكل التالي، إن أصحاب الحركة الجدد عندما يتربعون على عرش السلطة يشعرون بأنهم في حاجة قصوى على حماية السلطة والنظام السياسي من المتربصين بهم، إذ لابد هناك من تضررت مصالحهم وخسروا مناصبهم وامتيازاتهم، وهذا الأمر يكون في الغالب سببا لتهديد السلطة الجديدة، لذلك نلاحظ لجوء رجال الحركة الى القمع ومطاردة المناهضين لهم، وهذا بالضبط هو أسلوب النظام الذي تم إسقاطه على أيدي رجال الحركة.
وهكذا تكون السلطة (الثورية) الجديدة محل رفض من الناس إذا دخلت في حالة صراع مع الشعب أو فئات ومكونات معينة منه، حيث يتم استهداف السلطة الجديدة ومحاربتها وقد يؤدي ذلك الى إسقاط السلطة الجديدة الوليدة، لهذا لابد أن يراعي أصحاب الحركة مصالح الناس، ويبتعدون عن أساليب القمع، ولا يرغمون الناس على قبولهم بالقوة أو الخداع، وإنما يكسبونهم عن
طريق حماية حقوقهم وضمان حرياتهم والتعامل معهم وفق مبدأ العدالة الاجتماعية وضمان الحقوق، وأن يتم ابتعاد رجال الحركة والسلطة الجديدة عن أسلوب القمع بصورة تامة.
ترد هذه الملاحظات المهمة والتوجيهات السديدة في تأكيد الإمام الشيرازي على: (إن الكثير من الثوريين يزيدون الأمر إعضالاً بالمصادرات والسجون والإعدامات والدعايات الفارغة لكي يثبتوا عروشهم ويرغموا الناس على تقبل أنهم الأفضل فيدخلون في مواجهة مع الناس مما يحرك الناس لإسقاطهم).
ولكن بعض القادة السياسيين عندما ينتقل من موقع المعارضة الى السلطة، ينسى حتى تأريخه المشرف في المعارضة، وينشغل بسحر السلطة وامتيازاتها، وقد يتحول بعضهم الى موقع الدكتاتور المستبد، الذي يسعى بكل ما يستطيع الى تركيز القدرة في قراره ووضع الصلاحيات تحت يده فيصبح مستبدا وينسى تاريخه كما ذكرنا، كما أنه ينسى شرطا آخر خطيرا، وهو عدم إمكانية بناء الدولة بأسلوب القمع والترهيب والتجاوز على الحريات والحقوق، فهذه الأساليب البائسة سوف تقود صاحب السلطة الى السقوط الحتمي كما سقط المستبدون السابقون، لذا ينبغي أن يتجنب الثوريون الاستبداد لأنه يتعارض مع جهود بناء الدولة.
نلاحظ هذا المعنى في قول الإمام الشيرازي: (لا يخفى أن بناء الدولة غير ممكن مع الاستبداد وتمركز القدرة لأن القدرة غير المراقبة التي تفسد وتفسد).