الفردية المفرطة ونزعة انتهاك الحقوق
بمناسبة ذكرى رحيل الإمام الشيرازي
عبد الرزاق عبد الحسين
2017-07-02 06:37
من بين الظواهر التي وقفت كالسدّ المنيع أمام تقدم المجتمعات المسلمة، تلك النزعة المفرطة لفردية القادة وتمسكهم بالشهرة، ورغبتهم بالمديح، كأن الحياة بأركانها قائمة عليهم وحدهم، هذه العقدة التي لوّثت عقول السياسيين جعلتهم يبتعدون عن الزهد، ويجنحون الى المجد الكاذب، حتى لو كان الوصول الى هذا المجد ملايين الضحايا، عبر انتهاك حقوقهم، فالشيء المهم للقادة الفرديين ليس العدل ولا الزهد ولا بناء الدول، المهم بالنسبة لهم أن يمدحهم الآخرون حتى تُشفى قلوبهم وعقولهم من عقدة الأنا المريضة التي تتلبس أجسادهم.
ولو كان مدح الحكام لا يعود بالأذى على الأمة، لهانت الأمور، ولكانت نتائج المدح أقل ضررا، بيد أن الوقائع الحاصلة تقول دائما بأن تعظيم القائد الأناني يقوم على انتهاكه لحقوق الآخرين، وأن الوقود الذي يديم فرديته وهوسه بالمجد والمديح والشهرة، هو حقوق الناس التي يتم انتهاكها، فلا صعود للحاكم الفرد إلا على ركام حقوق الأمة، ولا يعني الحاكم المستبد سوى نفسه وتعظيمه بالكلام حتى لو كان مزيّفا كاذبا متملقا ومخادعا، فالمهم لديه أن يسمع من يمدحه، ويشبع رغبته في المديح ويملأ الفراغ المريض الذي ينتشر في كيانه.
الإمام الراحل محمد الشيرازي، له شرح مفصّل عن هوس القائد الأناني بالمديح والشهرة، فمن أقواله الدقيقة: (إن حب الشهرة وحب السمعة وحب أن يقال عن الإنسان الخير.. هذا النوع من الحب يستوجب غمط حق الآخرين/ المصدر كتاب السبيل الى إنهاض المسلمين للإمام الشيرازي).
ولوحظ أن القادة المستبدون يسعون الى خلط الأوراق، فيعلنون زهدهم الكاذب، ودأبهم كي ينالوا رضا الله، لكن الحقائق الساطعة تكشف إدّعاءاتهم وتفضحهم، ومع ذلك يواصلون أسلوب الضحك على الذقون وذر الرماد في العيون، ويتعاملون بسخرية واستهزاء بعقول الناس، وكأنهم يتعاملون مع جهلاء لا يفقهون من الأعمال والأفعال والأقوال شيئا.
ثمة اشتراطات للزهد، أولها وأهمها أن يطرد القائد نزعة الأنانية الفردية من ذاته، وعليه أن يقدم مصلحة الأمة على مصالحه الفردية والعائلة والحزبية، وأن يكون حاميا للحقوق مدافعا عنها بدلا من انتهاكها بشخصه أو معاونيه أو أجهزته الأمنية، فحقوق الناس هي المقياس الأعظم لإثبات زهد الحاكم وتقربه من الله، وإمكانية الجمع بين حب الله ومحبة الأمة، وليس على القائد أن ينتظر التمجيد، ولا الشهرة، ولا مديح الناس له، ولا يمكن للحاكم أن يكون عظيما، إذا كانت الشهرة هدفه مدعومة بالجاه والمال والقوة والتفرد.
إن حب المديح وتمجيد الذات لا يمكن أن يلتقي مع الحب الإلهي الخالص.
هذا ما يراه الإمام محمد الشيرازي حين يقول: (يجب على قادة المجتمع أن لا يفكروا في أن الناس سيمدحونهم، وأن الناس سيعظمونهم، وأن الناس سيبجلونهم ويسجلونهم في التاريخ في مصاف العظماء، أو ستنطق بأسمائهم الإذاعات والجرائد، أو سينوَّه باسمهم في الاحتفالات والمجالس وعلى المنابر، فإن حب ذلك وحب الله لا يجتمعان في قلب إنسان، وهما هدفان متعاكسان لا يمكن الوصول إليهما معاً، فبينهما بون شاسع).
في تاريخ القادة الفرديين نقرأ في الأغلب الأعمّ هوس غريب بحب النفس، ومدحها، لدرجة أن القادة من هذا الصنف يتقبلون الكذب عليهم والمبالغة في كيل الصفات العظيمة لشخوصهم، إنهم في حقيقة الأمر مرضى، يعانون من فقر الذات، فيسعون الى إغناء نفوسهم وشخوصهم بالتملق والتضخيم والمديح المجاني.
والحاكم من هذا النوع يقصي الحكماء والعلماء والعقلاء، ويقرب الانتهازيين، ويرفض أن يشاركه أحد في الرأي أو الخطوة أو القرار، حتى من أقرب الناس إليه، حتى لا يُقال أن أحدا غيره هو صاحب الرأي أو الفكرة أو القرار، وقد انتهت حياة معظم القادة المستبدين الى الهلاك وإلحاق الدمار بشعوبهم نتيجة لهذه الغلواء بحب النفس وتمجيد الذات، ولدينا هتلر مثالا قريبا في التاريخ المنظور.
إن الحاكم الأناني (لا يستشير الناس حتى يقال إن هذا الشيء رأيه وهذا العمل عمله، ولذا نرى الاستبداديين والديكتاتوريين والذين نزع الله الإيمان عن قلوبهم يريدون الأنانية، يريدون الفردية، يريدون أن يقال عنهم الخير بينما يقال عن غيرهم الشر أو السوء، وعلى الأقل أن لا يذكر سواهم، وهؤلاء كثيراً ما يتهمون زملاءهم حتى يسقطوهم عن أعين الناس/ المصدر السابق نفسه).
يتبع الفردية في الحكم وفي صناعة القرار شوائب كأنها لهيب النار التي لا تستثني أحدا من مساوئها، في واقع الدول الإسلامية حكام من هذا النوع المؤذي، جعلتهم الأنانية المفرطة في حالة تناقض مستدامة مع شعوبهم، وحين يعترض عليهم معارض يتم سحقه بلا رحمة، فالسلطة لها أساليبها لكن الغريب حقا أن القادة الأنانيون يقرؤون تجارب غيرهم، ويعرفون النهايات المأساوية للفرديين الأنانيين، ومع ذلك لا يتعظون، ويوغلون أكثر في الاستبداد والتجاوز على حقوق الناس وثرواتهم التي يفترض أن يتم توزيعها بعدالة على الأمة كما فعل الإمام على عليه السلام حين أفرغ بيت المال وقام بتوزيع الأموال بمساواة قلَّ شبيهها.
القادة الإسلاميون مطالبون اليوم باستعادة ذلك الإرث السياسي الفريد، فالزهد واحتقار السلطة والتعامل معها بما يرضي الله وينصف الناس هو الطريق الوحيد الذي ينقذ القادة من الهلاك القادم، لهذا ينبغي أن يتعظوا بالفعل ويكافحوا الفساد ويقللوا الفقر ويهتموا بالأيتام والأرامل، وينشروا العدل والمساواة ويقضوا على المحسوبية والمنسوبية ويتخلصوا تماما من الأسلوب الإداري البيروقراطي، فهذه السمات تشجع على انتهاك الحقوق وتعمي بصيرة الحاكم وأعوانه، وتنسيه صفة الزهد التي تغنيه عن السلطة وتنقذه من النزعة الفردية الفتاكة.