تاريخ الدول الشيعية وإشكالية الغياب الثقافي
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –قدس سره-
محمد علي جواد تقي
2017-03-25 06:40
"...كان الخطيب الشيخ عبد الزهراء الكعبي، يقوم بتجارب عملية من على المنبر ليثبت صدق كلامه حول قلة الوعي بالتراث والتاريخ، وأننا نعرف عن الأمويين اكثر مما نعرف عن الأئمة الطاهرين، عليهم السلام.
وفي مجلس حاشد بالحضور الشبابي وايضاً من الآباء، قال لهم متسائلاً:
الوليد ابن من؟ فأجاب الجميع.
يزيد ابن من؟ فأجابوا ايضاً.
معاوية ابن من؟ فأجابوا.
ثم سأل:
الامام الكاظم، ابن من؟ ساد الصمت، المجلس برمته. ثم سأل: الامام الرضا ابن من؟ فلم يجبه أحد من الحاضرين، وهكذا سائر الأئمة، ثم توجه الى الآباء بأن ابنائكم يعرفون عن الشخصيات الأموية المعادية لرسول الله، اكثر مما يعرفون عن أئمتهم المعصومين، وهم في مدينة كربلاء المقدسة.
ثم لنجري اختبار آخر، ليس مع افراد المجتمع العاديين، وإنما مع طلبة العلوم الدينية ممن يفترض ان يكونوا قادة، واطرح عليهم استبيان، عن عدد الدول الشيعية التي قامت في التاريخ؟
باعتقادي أن نسبة 99بالمئة من المشمولين بالاستبيان يجهلون بالاساس أن هنالك دولة شيعية قامت في العالم! ما عدى الدولة الصفوية المعروفة في التاريخ لدى الجميع".
ما أشبه اليوم بالبارحة
دائماً يُقال: "من لا تاريخ له لا مستقبل له". ومن سمات الأمم الحيّة والناهضة، احترامها لتاريخها وما يضم من معالم وتراث وتجارب تتخده رصيداً معرفياً ومنطلقاً لصناعة الوعي والثقافة، فهي ليس فقط تخصص ميزانية خاصة للحفاظ على التاريخ لاهداف سياحية، وإنما توليه اهتماماً علمياً خاصاً في المراكز الاكاديمية، فيكون محوراً لبحوث علمية وورش عمل تبدع طرق مذهلة لإعادة ترميم التماثيل والمقتنيات الاثرية القيّمة التي يطالها التخريب، وقد انعكس هذا على ثقافة الناس، فتراهم يحترمون المعالم الأثرية والتراث الأدبي والعلمي، فيما نلاحظ خيارات الطلبة في بلد مثل بريطانيا لدخول الجامعة، قسم التاريخ، اكثر مما يهتمون بالاقسام العلمية، مثل الطب والهندسة وغيرها، وربما يتركون مهنة الطب للاطباء العرب والمسلمين وهم كُثر في بريطانيا لمعالجة مرضاهم!
وفي هذا المقطع الصوتي القصير لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –قدس سره- يشير الى ثغرة خطيرة في الثقافة الاسلامية كانت في يومها، وتحديداً في مطلع السبعينات، وحينما كان الخطيب الحسيني البارع الشيخ عبد الزهراء الكعبي على قيد الحياة، تمثلت في جهل أبجديات الثقافة الاسلامية والشيعية على وجه التحديد، وهي أسماء الأئمة المعصومين، عليهم السلام، نكاية بالاهتمام الخاص بالمناهج المدرسية التي تعرّف الطالب بالتاريخ الأموي والعباسي وحتى تاريخ الفراعنة والحضارات البائدة، فيما تجاهلت – وماتزال- التاريخ السياسي للشيعة، أما اليوم فان التعرّف على الأئمة المعصومين، او أية معلومة تاريخية تخصّ الدول الشيعية في سالف الزمان، لا يحتاج سوى الى كبسة زر في الحاسبة لتنفجر سيول من المعلومات من مواقع الكترونية عديدة، ولكن!، هل تروي سيول المعلومات هذه، الظمأ المعرفي في الثقافة الشيعية؟
إن التطور الحاصل في أنماط التفكير ووسائل صناعة الوعي في ضوء سلسلة من التطورات السياسية والاجتماعية والتقدم العلمي، أوجد استحقاقاً جديداً إزاء التاريخ والتراث، ففي الوقت الحاضر بات من الامور الحياتية تفسير العديد من الظواهر التاريخية او المواقف او الوقائع فيما يتعلق بالمجتمع او الحكام أو الشريحة المثقفة – إن صحّ التعبير- مثل الادباء والعلماء والمؤرخين وغيرهم، وما هي حقيقة ولاءاتهم الفكرية والدينية، وما هي حقيقة العلاقة بين هذه الشرائح والمكونات، وكيف أثرت في مصير الامة والدول الاسلامية المتعاقبة، وغيرها كثير من الاسئلة التي نراها تثور بين فترة واخرى دون أجوبة شافية وقاطعة.
إن عدم وجود زوايا مظلمة في تاريخنا، دفعت بالكثير الى ما يشبه الانفصام عن تاريخه وماضيه، مهما يقرأ ويسمع من الانجازات العلمية الباهرة والانتصارات والفتوحات وغيرها من المكاسب الحضارية، وإن حصل الارتباط فيكون متطرفاً الى حدّ عبادة الآثار والمعالم التاريخية وعدّها رمزاً حضارياً يغذي الثقافة العامة، حتى وإن كانت قائمة على الطغيان والفساد والفشل الذريع الذي أدى بها الى الاندثار، كما هو الحال في سعي النظام البعثي لإحياء معالم الدولة العباسية ونسب الفضل لها في ازدهار الامة وتقدمها، مغ غضّ النظر عن الخروقات الفكرية والعقائدية بسبب الترجمة، وسياسة الاستئثار بالسلطة وبيت المال ثم الفساد الاخلاقي والصراع الدموي على السلطة ومن ثم التفكك والانهيار المدوي، وهذه ظاهرة نلاحظها في بلاد اسلامية اخرى ايضاً.
إن حاجة الانسان المسلم بشكل عام والشيعي بشكل خاص، الى الحقائق التاريخية، فيما يتعلق بالدول والحكومات الشيعية، ليس فقط عدد الخلفاء الفاطميين او من هو مؤسس الدولة الادريسية او حتى نسبه ومن أين جاء، او من هم سلاطين الدولة الصفوية والبويهية، وما هي انجازاتهم العلمية والعمرانية، وإن كان كل ذلك من واجبات المعرفة في هذا المجال، بيد أن المهم ايضاً معرفة عوامل ظهور هذه الدول و ايضاً اسباب زوالها، ثم النظام السياسي المتبع آنذاك والعلاقة بين الدولة والمجتمع، ودور هذه الدول في تنشيط الحركة العلمية وإحياء الحضارة الاسلامية، ثم علاقة هذه الدول بالدول الاسلامية الاخرى التي كانت سائدة آنذاك، على أن الدول الشيعية ظهرت في فترات تاريخية مختلفة؛ بين الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، وبلغت هذه الدول أوجها في زمن الدولة العباسية وعندما تعرضت قبضتها للتراخي الخطير على الأمصار والمناطق المتباعدة شرقاً وغرباً، بما يمكن القول معه أن وجود الدولة الفاطمية – مثلاً- في مصر، او الدولة الحمدانية في سوريا، كان يمثل الخلفية الاستراتيجية للدولة الاسلامية الكبرى وللأمة جمعاء في مقابل التهديدات القادمة من الشرق والغرب.
كل ذلك من شأنه ان ينعكس على الواقع الموجود فتكون تجارب تلك الدول قابلة للدارسة والبحث للوقوف على النقاط الايجابية وعوامل النهوض والانبعاث الجديد، بما يمكن الجيل الجديد من معالجة أزماته السياسية والاجتماعية الراهنة، بالنظر الى عوامل النشوء والسقوط، من تحالفات فاشلة او سياسات معينة او ثقافة غير سليمة وغير ذلك، وحتى طبيعة العلاقة بين المجتمع والحكم، والمواصفات المطلوبة لعلاقة نموذجية وبناءة بين الشعب والحاكم بما يضمن ديمومة الدولة الشيعية فترة أطول، والأهم من كل ذلك، الركائز الفكرية والعقائدية لنظام الحكم في تلك الدول، ودورها في نجاحها واستمرارها.
هل المناهج التعليمية كل شيء؟
بعض العلماء والخطباء يلقون اللوم دائماً على المناهج التعليمية في المدارس والجامعات بأنها وراء الجهل المطبق للأجيال الماضية وحتى الجيل الحاضر، بتاريخه وحضارته، بأن هذه المناهج تسلط الضوء على دول وتخفي دول أخرى، فهي – مثلاً- تتحدث عن الدولة الايوبية، ولا تتطرق الى الدولة الفاطمية، او تمجّد بالدولة العباسية ولا تتحدث عن الدولة الصفوية، وكذلك الحال؛ فيما يتعلق بسيرة الرسول الأكرم وأهل بيته، والفترات التاريخية التي عاصروها.
بيد أن هذا اللوم لن يكون مبرراً لبقاء أجيال من المجتمع الشيعي بعيداً عن تاريخه وتراثه، لوجود القصور الكبير في دراسة مادة التاريخ اساساً في مراكزنا العلمية والبحثية، مثل الحوزات العلمية والمؤسسات الثقافية، ولا اعتقد أن ثمة موانع محتملة تعيق حراك ثقافي وعلمي كهذا، لاسيما اذا عرفنا أن هذه الكيانات أقرب الى المجتمع الشيعي من المدرسة والجامعة التي تختلي بأبنائنا لفترة وجيزة، ثم تبقى ساعات طوال فارغة بين البيت والحديقة والمكتبة والاسواق وغيرها، مما يعطي الفرصة للمطالعة والبحث عن تاريخ الدول الشيعية وما جرى عليها.
لنأخذ –مثلاً- النهضة الحسينية، فان المنظومة الثقافية المتعلقة بها، تبلورت وانتشرت في المجتمعات الشيعية من خلال وسائل عدّة ابرزها؛ المنبر والمحاضرات والندوات والكتب الى جانب العامل التربوي داخل الأسرة، فبات الانسان الشيعي وهو شاب او رجل كبير او امرأة او حتى طفل صغير، ملمٌ الى حدّ كبير بتفاصيل هذه النهضة وخلفياتها والاسباب التي أدت تخاذل اهل الكوفة وعوامل التحول من معسكر الباطل الى الحق، فضلاً عن القيم والمبادئ المتدفقة دائماً من هذه النهضة للاجيال على مر التاريخ.
وإذن؛ معرفة التاريخ الشيعي ينبغي ان تكون ثقافة اجتماعية قبل ان تكون شعارات سياسية او بعض المعلومات في الكتب التي تتحول الى مادّة لجدل عقيم يخفي الجوانب المشرقة والحضارية فيها، ويبرز الجوانب السلبية، كما ينحو بعض دعاة الثقافة و"التنوير" الذين يطعنون بالدول الشيعية بذريعة إبعاد الامة عن الطائفية! في حين كانت المتبنيات الفكرية والعقائدية لتلك الدول تعكس جوانب من المدرسة الرسالية التي ارسى دعائمها الرسول الأكرم والأئمة من بعده، من الاهتمام بالجوانب الانسانية والتنموية والحضارية، ونبذ كل اشكال الانحراف والفساد وما يلحق الضرر بحاضر الانسان ومستقبله، ممن يعيشون في كنف هذه الدولة، سواءً كانوا من الشيعة او من المذاهب الاخرى، بل حتى من سائر الاديان السماوية.