المجدد الشيرازي الكبير

دلال العكيلي

2016-06-08 12:26

هو السيد أبو محمد معز الدين الميرزا محمد حسن بن ميرزا محمود بن محمد إسماعيل بن فتح الله بن عابد بن لطف الله بن محمد مؤمن الحسيني، المنتهي نسبه إلى الإمام الحسين-عليه السلام- وقد وصفته بعض المصادر بـالشيرازي المولد، الغروي المنشأ، العسكري المهاجر، ألنجفي المدفن، وقد اشتهر بالميرزا الشيرازي، كما عرف بالمجدد الشيرازي.

ولد –قدس سره- في شيراز سنة 1230 ه، وتولى تربيته خاله المرحوم السيد ميرزا حسين الموسوي، لأنه فقد والده المرحوم السيد محمود وهو طفل صغير، وكان بيته معروفاً بشيراز، وله في ديوان دولة شيراز شأن، ولكن خاله أراد أن ينشئه خطيباً، فوجهه إلى ذلك منذ نعومة أظفاره، كما وجهه لتعلم القراءة والكتابة وحفظ النصوص، وكان سريع التعلم إذ تشير المصادر بأنه قطع شوطاً مميزاً في هذا المضمار وهو لم يكمل السابعة من عمره، ولقد شرع بدراسة العلوم العربية ومن بعدها في علمي الفقه والأصول وهو في السادسة من عمره.

والمجدد الشيرازي الكبير -قدس سره- كان يتمتع بقابلية جيدة من الذكاء والفطنة، مما ساعده على تقبل هذه العلوم وتلقيها بصورة أهلته لدراسة كتاب شرح (اللمعة الدمشقية) وهو في الخامسة عشرة من عمره، حتى إذا أكمل دراسة الكتب الأولية المقررة للدراسة الحوزوية وهي ما تسمى ب‍ (السطوح) انتقل إلى أصفهان سنة 1248ه‍، لأنها كانت مركزاً مشهوراً لدراسة علوم الشريعة -حينذاك- لما تضم من أعلام الفقه ومدرسي الأصول، وقد وصفتها المصادر –في ذلك الوقت- بأنها (دار العلم) وكان عمر الشيرازي لم يصل الثامنة عشرة بعد.

فقرأ –هناك- على الشيخ محمد تقي الأصفهاني، مؤلف كتاب حاشية (المعالم) ثم حضر على مير السيد حسن البيد آبادي الشهير بالمدرس، حتى حصلت له الإجازة منه قبل بلوغه العشرين من العمر، كما حضر درس الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي فترة من الزمن.

بعد أن أكمل المجدد الشيرازي الكبير الدراسات الأولية للعلوم الإسلامية، خاصةً المتعلقة بالفقه والأصول، أصبح مؤهلاً لتحصيل الدراسات العليا، والتي تعتمد التلقي المباشر من الأستاذ دون واسطة كتاب، وهي ما تسمى في عرف الحوزويين بـ (بحث الخارج) قرر الانتقال إلى حوزة النجف الاشرف، والتي كانت تزخر بأعلام الفقه والأصول -حينذاك- وفي مقدمتهم: المرحوم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، مؤلف الموسوعة الفقهية الامامية (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) والمحقق المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري الذي يعتبر رائد المدرسة الأصولية الحديثة.

وفي سنة 1259ه‍، حقق المجدد الشيرازي أمله العلمي، حيث انتقل من أصفهان إلى النجف الاشرف متبركاً بزيارة مرقد الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- ثم التحق بدرس المرحوم الشيخ صاحب الجواهر، فقيه الطائفة، وشيخ حوزة النجف العلمية، كما استفاد من غيره في بداية

وصوله إلى النجف، كالمرحوم الشيخ مشكور الحولاوي، والشيخ حسن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء مؤلف كتاب (أنوار الفقاهة) كما تتلمذ لفترة قصيرة على السيد إبراهيم بن محمد القزويني الحائري المتوفى سنة 1263ه المقيم في كربلاء، صاحب كتاب (ضوابط الأصول) غير أنه استقر على ملازمة درس شيخ الطائفة مرتضى الأنصاري، وكانت عمدة استفادته منه، فقد لازم أبحاثه فقهاً وأصولاً حتى وفاة الشيخ في عام 1281ه‍.

وخلال ملازمة المجدد الشيرازي لدرس الشيخ الأنصاري، توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه إلى درجة أن أخذ الشيخ يعظمه بمحضر طلابه، وينوه بفضله، ويعلي سمو مرتبته في العلم، كما أشار إلى اجتهاده أكثر من مرة، في حين لم يشر إلى اجتهاد أحد من قبل.

ولعل أهم إشارة في هذا الصدد من الشيخ الأنصاري ما ذكر أنه قال مراراً: بأني أباحث لثلاثة أشخاص: الميرزا حسن الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي، والآغا حسن الطهراني، كما أن الشيخ الأنصاري كان إذا ناقشه الميرزا الشيرازي أثناء الدرس يصغي إلى كلامه، ويأمر الحاضرين بالسكوت، قائلاً إن جناب الشيرازي يتكلم، وكان يحاول أن يعيد نقاشه أو إشكاله على عامة الطلاب، نظراً لأهميتها، وتعميم الفائدة منها، ثم كان يرد عليها أو يناقشها بأصالة وعمق. ومن هذه المفردات التي تبدو صغيرة، لكنها في واقعها كبيرة، كانت تؤشر إلى شهادة ضمنية من الشيخ الأنصاري إلى المكانة العلمية التي وصل إليها السيد الشيرازي.

زمام المرجعية العليا

«ولم أبالغ لو قلت: إنه لم يأت لحد التاريخ في رجالات الشيعة الإمامية من رجال الدين، والذين تصدوا لهذا المنصب الخطر الخطير، مع تلك الظروف الحرجة التي عاش فيها السيد المجدد الشيرازي من يضاهي هذا الزعيم المحنك الخبير البصير» السيد محمد كلانتر تحقيق كتاب المكاسب ج1 ص140.

إثر وفاة الشيخ الأعظم وزعت المرجعية في الطائفة الإمامية بين المجدد الشيرازي والسيد الكوه كمري التبريزي، ونال السيد الشيرازي منها النصيب الأوفر، بعد ذلك توفى السيد الكوه كمري عام 1299هـ فتفرد المجدد الشيرازي قدس سره بالمرجعية وانقادت له الطائفة الإمامية في مختلف أصقاع البلاد الشيعية.

عام 1288هـ تشرف بزيارة البيت الحرام لأداء فريضة الحج في أحسن حال فنوى ان يقيم في المدينة المنورة مجاور قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فلم يتم له ذلك، ثم حاول أن يجاور قبر الإمام الرضا عليه السلام في مشهد المقدسة فلم تتيسر له الأمور.

نشاطات المجدد

1 - عمران سامراء

بعد إقامة الميرزا في سامراء نعمت بالأمن والهدوء وقد أشار إلى ذلك كل من المرحوم الجزائري في الأنوار النعمانية والمحدث الميرزا محمد حسين النوري في كشف الأستار من خلال ما حكوه و بيّنوه، وقد استرجعت سامراء مكانتها بعد هجرة الميرزا إليها وصارت مركزا مهما لطلب العلم حيث تجمّع كبار العلماء فيها وأخذ هذا الأمر يتسع يوما بعد يوم حتى وفاة الميرزا.

ومن إنجازات الميرزا في سامراء: بناء أكبر مدرسة للشيعة في العراق و بناء جسر على شط سامراء و بناء الحمّامات وتعمير و تزيين حرم الإمامين العسكريين عليهما السلام ووضع ساعة فوق باب القبلة وبناء سوق كبير و بناء حسينية بناء بيوت لفقراء سامراء والمناطق المجاورة.

2 - إطفاء نار الفتنة في سامراء

قام الميرزا الشيرازي - بتدبيره وسعيه- بإخماد الفتنة التي كانت قائمة بين أهالي سامراء و المناطق المجاورة لها والحاصلة بتحريك عدد ممن كان الحكم بأيديهم وعملائهم الذين سعوا في الإيقاع بين المسلمين وإثارة الفتن والتفرقة بين الشيعة والسنة وقد أثنى الجميع على الميرزا.

3 - تحريم التبغ مما أدى لقيام ثورة التنباك الشهيرة وذلك بسبب هذه الفتوى الشهيرة

أساتذته

1 - الميرزا إبراهيم الخطيب في شيراز

2 - الشيخ محمد تقي الأصفهاني

3 - مير سيد حسن البيدآبادي المعروف بالمدرس

4 - العلاّمة الحاج محمد إبراهيم الكلباسي

5 - الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر

6 - الشيخ حسن آل كاشف الغطاء

7 - السيد إبراهيم صاحب الضوابط

8 - الشيخ الأنصاري

تلامذته

يذكر المرحوم آغابزرگ الطهراني 372 اسما من طلاب الميرزا الشيرازي اللذين صار بعضهم من كبار العلماء والفقهاء و المؤلفين ومن هؤلاء:

1 - الحاج الشيخ ميرزا حبيب الله الرشتي الطهراني

2 - الحاج الميرزا حسين النوري

3 - الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي

4 - الميرزا محمد تقي الشيرازي (الميرزا الثاني)

5 - آية الله العلامة الحاج الميرزا محمد حسين النائيني

6 - الحاج الشيخ فضل الله النوري

7 - الآخوند الملا محمد كاظم الخراساني

8 - آية الله السيد كاظم الطباطبائي اليزدي

أهم مؤلفاته

1 - كتاب في الطهارة

2 - رسالة في الرضاع

3 - كتاب في الفقه من بداية المكاسب حتى آخر المعاملات

4 - رسالة في اجتماع الأمر والنهي

5 - رسالة في دمشق

6 - خلاصة في إفادات أستاذه الشيخ مرتضى الأنصاري يحوي جميع أبواب الأصول

الفتوى التي حافظت على وحدة المسلمين

من المعروف ان مدينة سامراء تسكنُها أكثرية مُسلمة سنّية وفي هذه المدينة يُوجد مرقدُ الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام وموقع غيبة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن هذه الناحية تُعتبر سامراء مدينة مقدسة جداً بالنسبة للشيعة الذين يسافرون اليها جماعات وفرادى لزيارة العتبات المقدسة فيها، ولهذا فهي مُلتقى السنة والشيعة كليهما، وفي الماضي حينما كانت الانتماءات المذهبية والطائفية على أشدّها إلى حدّ انها كانت تتخذ طابع التحدّي كان يحصل بعض المناوشات والنزاعات بين الفريقين.

وعندما نقل السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي حوزة درسه وسدة رئاسته الدينية إلى مدينة سامراء حاول بكل جهد الوقوف ضدَّ أي عمل أو قول قد يُثير حفيظةَ السُنّة على الشيعة أو بالعكس بل سعى إلى أن تسود روح السلم والوئام والتعايش الودّي بين الفريقين، أما اذا ما وقع شيءً ينبأ عن تصادم فانه كان يبادر على الفور إلى تطويقه وحلّه بالحسنى، لانه كان يعلم جيداً ان القوى الأجنبية الطامعة تتربص وتتحين الفرص لاستغلال أي نزاع أو تصارع بين الطوائف الاسلامية في تحقيق غاياتها الاستعمارية وفرض هيمنتها على المسلمين جميعاٍ، ومن هنا كان يحرص على وحدة الكلمة الإسلامية.

وفي هذا الصدد نقل حفيدهُ العلامة المحقق المفضال السيد رضي الشيرازي (نزيل طهران) حكايات تُنبيء عن حكمته وتبصّره وحرصه على صون روح الوئام بين المسلمين.

قال: عندما شرع السيد الميرزا الشيرازي ببناء مدرسته الدينية العلمية الكبرى في مدينة سامراء وهي من جملة المنشآت التي اقامها في هذه المدينة خلال سنوات اقامته فيها، تشجّع المسلمون السُنّة بدورهم لبناء مدرسة دينية لعلمائهم، ولكنهم لم يتمكنوا من إتمام بناءها نظراً لانهم كانوا يفتقدون المال اللازم لها ولم يكن أمامهم من حيلة سوى الرجوع إلى السيد الشيرازي لطلب مساعدة مالية منه، وعندما التمسوا منه مثل هذه المساعدة قام على الفور بتلبية طلبهم وزوّدُهم بمنحةٍ مالية سخيّة، وكانت هذه أللفتة الكريمة منه عاملاً من عوامل الانسجام والوئام بين سكان المدينة.

وحصل أن تشاجر رجل مسلم سنّي مع رجل دين شيعي في سامراء واشتدّ النزاع بينهما فتدخل آخرون في الصراع ممّا أدى إلى تفاقم الموقف ووصل الأمر إلى أن بعض الجُهّال قاموا برشق بيت السيد الشيرازي بالحجارة والإساءة اليه فشاع الخبر في أنحاء البلاد وكاد أن يتطور الموقف إلى نزاع مسلح وفتنة طائفية عويصة لولا حكمة وتبصّر السيد الشيرازي وقيامه بتطويق الازمة وتهدئة الحالة بنفسية الزعيم المسالم والمصالح الرءوف الذي يضعُ مصلحة الامة والدين فوق كل اعتبار، وأرادت جهاتٌ اجنبية طامعة أن تستغل الموقف لصالحها.

ومن هنا قام القنصلان البريطاني والروسي في بغداد بالسفر إلى سامراء لاعلان تأييد حكومتيهما للسيد الشيرازي لكسب ودّه ولتحقيق غاياتهما في النكاية بالحكومة العثمانية، وعندما وصل القنصلان إلى سامراء رفض الشيرازي استقبالهما والاجتماع بهما وأبلغهما بالواسطة أن ليس هناك ما يدعو للقلق لقد حصل شيء ما بين ابنائنا ونحن قادرون على تجاوزه بالحسنى ولسنا بحاجة لمساعدة أحد.

ومن جانب آخر أعلن رؤساء العشائر العربية القاطنة في منطقة الفرات الاوسط وهي تدين بالمذهب الشيعي تأييدهم للسيد الشيرازي وأبلغوه أن ثمانين ألف رجل مسلم بالسيوف المشهرة مُستعدون لخوض المعركة إلى جانبه وأنهم رهن إشارته فردّ عليهم السيد بالقول ليست هناك حاجة لذلك فنحن كفيلون بحلّ ما وقع بين أبناءنا وتجاوزه بالسلم والمصالحة، وبهذه الصورة استطاع السيد الشيرازي أن يُهدّأ الموقف ويحولَ دون تأزمّه وأن يسدَّ الطريقَ على المُتربصين الدوائر ضدّ المسلمين ومصالحهم العليا.

وعندما علم والي بغداد العثماني بهذا الموقف النبيل للسيد الشيرازي سافر إلى سامراء ومعه كتاب شكر من السلطان العثماني، وحالما وصل إلى سامراء استقبله السيد الشيرازي بوصفه فرداً مسلماً حيث أعرب له الوالي عن آيات شكر حكومته وعن تقديره له على مساعيه الحميدة في تجنب البلاد الاسلامية من الوقوع في فتنة طائفية لا تحمد عقباها وكادت أن تكون كارثة على الحكومة العثمانية، خاصة وانها كانت في صراع خفي ومعلن مع الحكومة البريطانية آنذاك، وكانت الحكومتان تستغلاّن المواقف والأحداث والوقائع في دول الشرق الأوسط ضدّ بعضهما بعضا.

بيدَ انَّ الوالي العثماني حسن باشا كان هو في الأصل منشأ النزاعات والمشاجرات بين السنة والشيعة في سامراء لحقدٍ دفين في نفسه على الميرزا الشيرازي، إذ أنه كان قد زار الميرزا فلم يعتن به، جرياً على عادة السيد في عدم الاهتمام بالمسؤولين الحكوميين فحقد الوالي عليه واوغر بالشيعة بعض المتعصبين من الأهالي في سامراء ممّن ثقل عليهم توطّن الميرزا الشيرازي في بلدهم.

رسالته أنقذت حياة الملايين الشيعة وأوقفت إبادتهم

في عام 1880 للميلاد بعد أن وجدت بريطانيا نفسها مجبرة على الانسحاب من أفغانستان عمدت إلى تنصيب عميل لها على البلاد، يكون مطيعاً لها ومنفّذاً لأوامرها ورغباتها وأهدافها، وكان الخيار البريطاني المناسب هو (عبد الرحمن خان) الذي كان معروفاً بقسوة القلب وعديم العاطفة والرحمة، كما كان أنانياً ومستبداً وعنيداً وحقوداً، وكان يحتقر شعبه ويشعر بعقدة الحقارة والضعف والدونية أمام الانجليز، كما كان معروفاً بحقده وكراهيته وعدائه لجميع القوميات الافغانية والقبائل البشتونية عدا قبيلته، وكان حقده وعداءه للمسلمين الشيعة والهزارة أشد وأكثر.

وكان (عبد الرحمن) شديد العداء والكراهية للعلماء، لأن حظّه من العلم كان قليلاً جداً، وكان يشعر بعقدة الحقارة أمام العلماء والمثقفين ولذا كان يحط من مكانة العلماء والمثقفين، ويكيل عليهم السباب والشتائم والإهانات.

وكان أول عمل يقوم به بعد الاستيلاء على منطقة ما، هو تخريب المدارس والمساجد والمراكز العلمية والثقافية وزج العلماء والمثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب المهارات والمهن في السجون.

وعندما استولى (عبد الرحمن) على مدينة هراة دمّر أكثر من خمسين مدرسة ومسجداً وحسينية. كما هدم (مصلّى هراة) الذي كان يعتبر نموذجاً رائعاً وفريداً من نوعه في الفن المعماري في آسيا الوسطى، وتراثاً إسلامياً وحضارياً متميزاً في أفغانستان.

ورغم الإرهاب الذي كان يمارسه (عبد الرحمن) وسياسة البطش والاستبداد والقتل الذي اعتمده لارساء قواعد نظامه الجائر، لم يستسلم الشعب الأفغاني، وبدأت أصوات المعارضة ترتفع من هنا وهناك، وانطلقت ثورات شعبية عديدة ضد عبد الرحمن، وكان الثائرون من السنّة والشيعة والبشتون والأزبك والهزارة والطاجيك لديهم هدف واحد، هو القضاء على نظام (عبد الرحمن) الجائر، وكانت أهم تلك الثورات: ثورة القبائل البشتوتية، ثورة التركستانيين وثورة المسلمين الشيعة الهزارة.

فتوى التكفير: مبرر لقتل الشيعة

وقد سعى (عبد الرحمن) للحصول على مبرر ديني وشرعي للقضاء نهائياً على المسلمين الشيعة في هزارستان، لأنه كان يدرك بأن التوسل إلى الأساليب الدينية والمبررات الشرعية هو السبيل الوحيد لإثارة جميع القبائل الأفغانية (السنية) ضد المسلمين الشيعة. فاستغل جهل الناس وتخلّفهم الكبير واعتقادهم الراسخ بالعلماء ورجال الدين، في سبيل تحقيق أهدافه المشؤومة.

وبالفعل فقد طلب (عبد الرحمن) من علماء البلاط إصدار فتوى تكفير المسلمين الشيعة، باعتبارهم متمردين وخارجين على السلطان العادل! ومع الأسف فان عدداً من علماء السوء ووعاظ السلاطين استجابوا لطلب (عبد الرحمن) وأصدروا فتوى تكفير المسلمين الشيعة!! ويقال بأن عبد الرحمن كان قد حصل على فتوى تكفير المسلمين من علماء نجد والحجاز وإن (علماء) الأفغان استندوا على ذلك وفيما يلي الترجمة العربية لنص الفتوى:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى على المسلمين واتباع المذهب الحنفي الحنيف، ان الأمير عبد الرحمن خان حفظه الله المنان، من شرور البدعة والطغيان، قام بتأديب الهزارة البغاة الأشرار، وبعد أن ظفر على بعضهم، حصل جنود الأمير المنصور على ورقتين من كتاب يسمى (تحفة المواج) في إحدى المناطق التابعة للهزارة الأشرار، وتتضمن الورقتين أبيات كلها سب وشتم وإهانات صارخة للخلفاء الراشدين الثلاثة، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق، وسيدنا عثمان ذي النورين (رضي الله عنهم جميعاً)، الذين هم أئمة وقدوة المسلمين. وقد قام ظل الله في الأرض الأمير عبد الرحمن خان، بارسال الورقتين إلى محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل للتحقيق والبت في الأمر، وإبداء رأيها وحكمها الشرعي في المسألة.

وبعد أن اطلعت المحكمة على أبيات الكفر والضلال، ومن أجل أن تقطع الطريق على الروافض، وتسلب منهم فرصة الإنكار والتقية والبراءة من مضمون أبيات الرفض، حصلت المحكمة على كتاب (حياة القلوب) تأليف (محمد باقر المجلسي) ووجدنا نص مضامين تلك الأبيات في ذلك الكتاب المعتبر لدى الروافض.

وبعد التحقيق والتحري ثبت لدى محكمة الشريعة النبوية العليا وبدون أدنى شك رفض وكفر وارتداد الهزارة، وبناءً على هذا نحكم نحن في محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل بكفر وارتداد الهزارة ووجوب قتلهم قبل التوبة وبعدها.

إننا واعتباراً من اليوم نعتبر الهزارة مرتدين وبغاة، ومفسدين في الأرض، وإن قتلهم، وتمزيق صفوفهم، وهدم بيوتهم، وسبي نسائهم، هو عين الجهاد، وقوام للدين، ونصرة للإسلام والمسلمين، إن أمر الأمير العادل عبد الرحمن خان بوجوب محاربة الهزارة البغاة فرض واجب على كل من يمكنه القيام بذلك، وان من قتل أحداً من الهزارة أو قتل دون ذلك يعتبر شهيداً ومجاهداً وغازياً وناصراً للدين الحنيف ورسول الإسلام كما ان قتلى الهزارة مخلدون في النار والجحيم.

إننا نقدم هذا الحكم الشرعي إلى الأمير العادل عبد الرحمن خان ونرجو من جلالته ومقامه الكريم، ابلاغ هذا الحكم إلى كافة المسلمين في أفغانستان، ليعلم جميع المسلمين الأفغان بكفر وارتداد الهزارة، ووجوب القضاء عليهم في كل مكان.

التوقيع:

المولوي مير فضل الله- مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي مير محمد- مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي مير نظام الدين- مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي عبد الملك - مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي عمر عمران- مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي مير سيد ظاهر- مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي عبد الحميد - مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل

المولوي محمد اسلام- مستشار محكمة الشريعة النبوية في باميان

حرب الإبادة والمقاومة المستميتة

بعد حصول (عبد الرحمن) على فتاوى تكفير المسلمين الشيعة، وجد الظروف مناسبة أكثر من أي وقت آخر للانتقام من المسلمين الشيعة. فبادر إلى إرسال عدد من وعاظ السلاطين إلى أقاليم ومدن البلاد، لابلاغ الناس فتوى التكفير، وحث الناس على التطوع والمشاركة في قتال الهزارة.

وقد طبعت عشرات الآلاف النسخ من الفتاوى لتوزيعها في مختلف المدن والقرى والأرياف، واستدعى (عبد الرحمن) زعماء قبائل البشتون ولاسيما الحدودية ودعاهم إلى ارسال مقاتليهم للمشاركة في الحرب ووعدهم بتوزيع أراضي وأموال وممتلكات الهزارة عليهم ويكون لهم ما غنموه من الأموال وما أسروه من النساء والغلمان.

وبهذه الأساليب الخبيثة تمكن (عبد الرحمن) أن يجنّد عشرات الآلاف من أبناء القبائل البشتونية. لاسيما القبائل البدوية لمحاربة الهزارة، كما أرسل (125) ألفاً من قواته النظامية إلى هزارستان. وبدأت الحرب غير المتكافئة بين المسلمين الشيعة الذين كانوا يدافعون عن مقدساتهم ووجودهم وبين جيش مدمج بأحداث انواع الأسلحة.

وأمر عبد الرحمن بأسر المئات من أبناء الهزارة الذين كانوا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، واستخدامهم كدروع بشرية في القتال وبدأت المعارك بعد هجوم واسع شنته القوات الحكومية من جميع المحاور على مواقع المسلمين الشيعة الذين لم يكن أمامهم خيار سوى المقاومة المستميتة والتصدي بقوة للحملات الوحشية.

ومع ان المسلمين الشيعة كانوا يعرفون عدم جدوى المقاومة وان المهاجمين لن يتركوهم وشأنهم حتى اذا انهزموا لمرات عديدة لكنهم فضلوا المقاومة حتى الموت في ساحة القتال دفاعاً عن العقيدة والايمان والكرامة على الاستسلام، كما انهم كانوا على يقين بأنهم سيقتلون سواءً قاوموا او استسلموا. وفي ربيع عام (1892م) بدأ الهجوم الواسع لقوات عبد الرحمن من خمسة محاور هي: كابل وغزنة وقندهار وهرات ومزار شريف.

وكان (السردار عبد القدوس خان) المعروف بقساوة قلبه وعدائه الشديد للمسلمين الشيعة يقود العمليات وقد اصدر هذا المجرم وبناءً على تعليمات عبد الرحمن امراً بقتل جميع الرجال الهزارة دون تمييز بين مسلح وغير مسلح، وحرق المزارع واتلاف المواد الغذائية، كما أمر بفرض حصار اقتصادي محكم على هزارستان.

وبالرغم من اتساع دائرة العمليات العسكرية والتفوق العددي والتكنولوجي لقوات (عبد الرحمن) الا انها لم تتمكن من التقدم في المناطق الشيعية وكانت تواجه مقاومة عنيفة في جميع المحاور واستمرت هذه المقاومة المستميتة اكثر من سنة كاملة.

وفي صيف عام (1893م) شددت قوات عبد الرحمن من هجماتها واستخدمت المدافع الميدانية المتطورة لضرب مواقع المدافعين، كما ان الحصار الاقتصادي وانتشار المجاعة وأنواع الأمراض المعدية بين سكان المنطقة، أثّر في معنويات المدافعين، وتمكنت قوات (عبد الرحمن) من اختراق بعض المواقع وإيجاد ثغرات في تحصنات الهزارة واستولى على المناطق الشيعية بالتدريج واضطر المدافعون إلى الانسحاب إلى منطقة (اورزكان) القلعة الطبيعية الحصينة للمسلمين الشيعة.

وقد ارتكبت قوات (عبد الرحمن) مجازر واسعة في المناطق الشيعية وحولتها إلى مسالخ حقيقية وقتلت عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والاطفال والشيوخ وحفرت مقابر جماعية دفن الناس فيها وهم أحياء بعد انسحاب المقاتلين الشيعة إلى (اورزكان) فرضت القوات الحكومية طوقاً محكماً على المنطقة وجرت اشد المعارك وأشرسها في تلك المنطقة واستمرت عدة أشهر ولكن أخيراً سقط ذلك الحصن المنيع بعد استشهاد المدافعين والمقاومين.

واستولى عبد الرحمن على جميع مناطق هزارستان بعد قتال دام اكثر من عام ونصف. وقام (عبد الرحمن) بارتكاب جرائم ومجازر واسعة، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل قام بمصادرة أفضل الأراضي الزراعية وتوزيعها على القبائل البدوية الحدودية التي كانت تحت حماية الانجليز والمناطق المغتصبة هي (اجرستان، جورة، اورزكان خاص، كيزاب، تيري، دهراود، داي چوپلن) وهذه المناطق تعتبر من افضل مناطق افغانستان من الناحية الزراعية حيث خصوبة الأرض ووفرة المياه فضلاً عن الموقع الاستراتيجي.

وبعد سيطرة (عبد الرحمن) على المناطق الشيعية (هزارستان) بادرت مرتزقته الأشرار إلى ارتكاب مجازر واسعة وجرائم فظيعة في مختلف المناطق، ولم يتركوا جريمة الا وارتكبوها. لقد كانت التعليمات المعطاة للجنود واضحة وهي القضاء الكامل على الهزارة.

وقد استخدمت مرتزقة عبد الرحمن ابشع الأساليب في القتل والتعذيب والتنكيل، وكانت تقوم بحرق القرى وهدم المساجد وحرق المزارع والأشجار وإبادة المواشي، كما أنها كانت تمنع الناس من دفن الموتى والقتلى حتى إن أغلب الجثث كانت تتفسخ وسط البيوت.

وقد انتشرت نتيجة ذلك مختلف الأوبئة والأمراض حتى ان بعض الجنود اصيبوا بأمراض خطيرة انتشرت في المنطقة، ومن أساليبهم الوحشية، قطع أطراف المعتقل، وتركه ينزف حتى الموت، ومنها تسليط الكلاب المتوحشة على المعتقل وهو مقيد وتنهش الكلاب من لحمه حتى يموت ولعل من ابشع جرائمهم وأفظعها ذبح الاطفال والرضع أمام عيون أمهاتهم واغتصاب الفتيات المسلمات والاعتداء على النساء بحضور أقاربهن.

ومنها تجريد الطاعنين في السن من النساء والرجال من ثيابهم وشدّ وثاقهم وتركهم في العراء دون طعام وشراب حتى الموت وكان جنود (عبد الرحمن) يتلذذون من قتل الأطفال وكانوا يعتبرونه لعبة مسلية ومثيرة حيث كانوا يرمون الاطفال إلى الأعلى ثم يتلقونهم بسيوفهم ورماحهم ويقطعونهم إرباً إرب.

أما عن معاملتهم مع أسرى الحرب، فحدث ولا حرج، حيث كانوا يقطعون انف الاسير وأذنيه، ويدخلون سيخاً حديدياً ساخناً في عينيه، بعد ذلك كانوا يقطعون يديه ورجليه ويستمرون في طعنه وضربه بالسيوف والخناجر حتى الموت.

وكان لدى كل واحد من الضباط عدد من الكلاب المدربة على أكل لحوم البشر والفتك بالإنسان خلال لحظات وكان يقدم إلى الكلاب في كلّ وجبة أسير شيعي مقيد وكانت الكلاب تفتك به وتأكل من لحمه.

وكان في أغلب الأحيان يعلّقون الأسير في غصن شجرة ويبقرون بطنه ويخرجون أحشاءه، ثم يتركون الكلاب المتوحشة لتأكل من أحشائه ولحمه بعد عام كامل من القتل الوحشي والتصفية الجسدية اصدر (عبد الرحمن) أمراً بوقف قتل الهزارة، وأجاز بيع وشراء أسرى الهزارة، بشرط أن يدفع كل من يبتاع شيعياً (10%) أي عُشر ثمنه للدولة.

ويقال بأن مرتزقة (عبد الرحمن) اعتقلت (400) امرأة شيعية في منطقة (داية) بولاية غزنة وكان من المقرر نقلهن إلى العاصمة لعرضهن في أسواق النخاسة، وعندما وصلن فوق جسر على نهر (جاغوري) رمين بأنفسهن في النهر وغرقن في أمواجه.

ويقال بأن (40) فتاة من منطقة (اورزكان) هربن إلى الجبال من مرتزقة (عبد الرحمن) وعندما شعرن بأنهن أمام طريق مسدود صعدن إلى قمة صخرة عالية رمين بأنفسهن في وادي سحيق، دفعة واحدة فتقطعت أوصالهن والتحقن بالرفيق الأعلى وكانت كبيرة الفتيات تسمى (شيرين) وقد صار اسمها رمزاً ونشيداً في هزارستان وبعد ان اصدر (عبد الرحمن) مرسوماً بجواز بيع وشراء المسلمين الشيعة، خفت المجازر الوحشية. ونشطت اسواق النخاسة في كابول وقندهار وغزنة وهرات والمدن الأخرى.

وكان الأسرى من النساء والرجال والأطفال يؤخذون إلى كابل والمدن ليباعوا في محلات خاصة.

وقد ورد في المستندات الحكومية (بأن القاضي (ملا خواجه محمد) قاضي المحكمة الشرعية في (ارزكان) بعث إلى الامير عبد الرحمن خان مبلغ 1940 روبية من الضرائب المأخوذة عن بيع (1293) امرأة وطفل شيعي في ارزكان) وفي مدينة قندهار تم بيع (666، 46) بين امرأة وفتاة وشاب وطفل.

رسالة الإمام الشيرازي توقف إبادة الشيعة

وكان مسلسل ابادة المسلمين الشيعة مستمراً بكل وحشية وقساوة وبربرية إلى أن اخبر الشيخ الآخوند ملا كاظم الهروي صاحب كتاب (كفاية الأصول) المجدد ميرزا حسن الشيرازي عن الأوضاع المأساوية للشيعة في افغانستان فبعث رسالة شديدة اللهجة إلى (ناصر الدين شاه) ملك ايران، وأمره أن يطلب من بريطانيا الايعاز إلى عبد الرحمن بوقف مجازر المسلمين الشيعة، وهدد سماحته في حال استمرار المجازر فانه سيتخذ قرارات حاسمة.

وابلغ (ناصر الدين شاه) رسالة الإمام الشيرازي إلى الانجليز الذين طلبوا من عميلهم عبد الرحمن وقف المجازر فورا. وبناء على أوامر الانجليز أوقف (عبد الرحمن) مسلسل ابادة المسلمين الشيعة وأمر بانسحاب قوات الجيش من هزارستان.

لقد كانت رسالة الإمام الشيرازي سبباً في وقف ابادة المسلمين الشيعة، ومن الغريب ان وسائل الاعلام والصحف الاسلامية التي تكتب عن حياة الإمام الشيرازي، لم تتطرق حتى الآن إلى هذه الرسالة التاريخية الهامة التي انقذت حياة عدة ملايين من المسلمين الشيعة، ولا شك في أنها أهم بكثير من فتوى (التنباك).

مع ان اعمال القتل ومسلسل ابادة المسلمين الشيعة خف إلى حد كبير الا ان عملية التجويع والقهر والاذلال استمرت وقد حرم المسلمين الشيعة من جميع حقوقهم الاجتماعية والانسانية وأصبحت مناطقهم محرومة من كل الخدمات وحتى الآن تعتبر المناطق الشيعية من اكثر المناطق حرماناً في أفغانستان.

ثورة التنباك:

هذا الحدث السياسي من أهم القضايا الساخنة التي تعرضت لها مرجعية الإمام الشيرازي الكبير، وكان موقفه الجريء يمثل انتفاضة عارمة ضد السلطة حينذاك، وأكدت أن (سلطان الدين أقوى من كل سلطان).

وبدأت فصول القضية، حين قام ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1306هـ، بعقد اتفاقية مع شركة إنكليزية باحتكار (التبغ الإيراني) وبموجب هذا العقد فإنه يحق للإنكليز التصرف بالتبغ (التتن) في داخل إيران وخارجها، وعلى أثر هذا الامتياز، وصل إلى إيران أكثر من مئتي ألف أجنبي، قاموا باستغلال المواطنين واستضعافهم، وإشاعة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية، وقد أرسل المجدد الشيرازي برقية من سامراء المقدسة إلى الشاه القاجاري حول هذا الموضوع، جاء في بعض فقراتها: (إن تدخل الأجانب في الأمور الداخلية للبلاد، واختلاطهم بالمسلمين، وإشاعة الفساد تحت ستار امتياز التنباكو، يُعتبر منافياً لصريح القرآن الكريم، والقوانين الإلهية، وبالتالي يؤدي إلى ضعف الدولة وعدم تمكنها من المحافظة على سيادتها واستقلالها، وهذا مما يزيد قلق المواطنين وقلقنا على مستقبل المسلمين).

كما أثر هذا الامتياز للشركة الأجنبية على الحركة التجارية الداخلية والسوق المحلية، وكلما حاول الأهالي ثني الشاه عن عقد هذه الاتفاقية لم يجدِ نفعاً، وأصر على إبرامها وتنفيذها، والتي من نصوصها: أن تتولى الشركة زراعة التبغ وبيعه وتصديره لمدة خمسين عاماً بدءً من سنة 1890م، كما حدث في الهند.

وعلى أثر ذلك اندلعت انتفاضة شعبية عام 1890م بقيادة العلماء في إيران، وكان من أبرز المجتهدين في طهران الذين قادوا الانتفاضة آية الله الميرزا محمد حسن الآشتياني -قدس سره- وأدرك علماء إيران أن توفير فرصة أكبر لنجاح الانتفاضة الشعبية من أجل إلغاء الاتفاقية يتطلب دعم وتأييد المرجع الأعلى للشيعة السيد الشيرازي، فأرسل عدد منهم برقيات إليه طالبين منه دعمهم، فرد عليهم طالباً منهم توضيحاً أكثر لمطالبهم، كما أرسل المجدد الشيرازي رسائل عديدة إلى الشاه يطالبه فيها بـ‍الاستجابة للرعية في إلغاء الاتفاقية، غير أن الشيرازي عندما يئس من إقناعه بإلغائها، أصدر فتواه الشهيرة، والتي كان نصها:

(بسم الله الرحمن الرحيم، استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه. محمد حسن الحسيني الشيرازي) وهذه الفتوى كانت بمثابة (القنبلة) من حيث تأثيرها على المجتمع الإيراني فقد تم استنساخها بمئة ألف نسخة، وزعت في مختلف أنحاء إيران وتليت من على المنابر في المساجد والحسينيات.

ثم أعقبها المجدد بالفتوى الأخرى: (إذا لم يُلغ امتياز التنباكو بشكل كامل، سأعلن الجهاد العام خلال ثمان وأربعين ساعة) وعلى أثر ذلك حدثت أضطرابات وتظاهرات في أماكن متعددة تطالب بالغاء الامتياز بصورة كاملة، وأخيراً أضطر الشاه القاجاري تحت ضغط الجماهير بقيادة العلماء إلى الإعلان عن إلغاء الامتياز كاملاً.

وفي الحقيقة كانت قضية التنباكو، نهضة إسلامية ضد الأهداف الاستعمارية، قادها علماء الدين الأفاضل بقيادة المجدد الشيرازي الكبير، لنيل الحرية والاستقلال، والحفاظ على الهوية الإسلامية للشعب الإيراني المسلم.

زيارة مندوب الشاه إلى المجدد الشيرازي:

عندما أصدر المجدد الكبير فتواه، بعث الحاكم ناصر الدين شاه القاجاري، مندوباً إلى الإمام الشيرازي ليشرح له فوائد المعاهدة مع البريطانيين، لعله يقنع السيد في سحب فتواه، فدخل المندوب على السيد الشيرازي، وأخذ يتكلم بكلام مسهب حتى انتهى بعد إطناب وتملق، فكان جواب الشيرازي الكبير، هذه الكلمة الشريفة فقط: (لا اله إلا الله) ثم أمر المجدد بإحضار القهوة، إشارة إلى ختام الجلسة، وعندها خرج المندوب الإيراني، وعاد مرة أخرى في اليوم الثاني، وهو يعيد كلامه الأول بأسلوب آخر.

ولما انتهى من كلامه، أعاد السيد الشيرازي، كلمته بإضافة (ثم) فقال: (ثم لا اله إلا الله) وهكذا أمر بإحضار القهوة إشارة إلى انتهاء اللقاء ولما رجع المندوب، سأله الشاه: ماذا كانت نتيجة اللقاء بالإمام الشيرازي؟ فقال المندوب: (لا شيء، فقد قال السيد: لا اله إلا الله).

أثار الفتوى:

إن جميع أهالي إيران تركوا التدخين، وكسروا (النارجيلات) وكل آلة تستعمل للتدخين في بلاد إيران، حتى أن نساء قصر الشاه كسرن آلات التدخين في القصر، وعرف الشاه هذه الحقيقة التي لم يتصورها لحظة ما، بأن قوة المرجع الديني أقوى من سلطته.

إن ملايين من المتعاطين للتنباك –حينذاك- في إيران تركوا التدخين امتثالاً لأوامر الإمام الشيرازي، وكانت النتيجة المباشرة للفتوى والانتفاضة إرغام حكومة الشاه على إلغاء الاتفاقية، فإن نتائجها الفكرية والسياسية في إيران والعراق كانت بعيدة الأثر، واضطر الشاه إلى فسخ الاتفاقية، ودفع خسارة الشركة.

وحُكي أن بعض الفسقة كانوا جالسين في إحدى المقاهي، فعندما سمعوا إن الميرزا الشيرازي قد حرم التدخين، قاموا على التو بكسر وتحطيم نارجيلاتهم، فقال لهم بعض الجالسين في المقهى: انتم ترتكبون كل منكر ولاتتورعون عن فعل المُحرّم وكيف والحالة هذه تمتثلون لفتوى الشيرازي وتمتنعون عن التدخين وتكسرون آلته، إن هذا الأمر مستغرب منكم، فقالوا: إننا نفعل المعاصي ولنا أمل بالرسول وآله بيته أن يشفعوا لنا إلى الله سبحانه وتعإلى ويطلبوا لنا غفران ذنوبنا، والميرزا الشيرازي اليوم هو نائبهم وحامي شرعهم ومُؤديه إلى الناس، فنحن نأمل أن يشفع لنا عندهم، فإذا أغضبناه فمن الذي يشفع لنا ويسأل من الله غفران ذنوبنا؟ إن هذا الكلام البسيط يبرهن لنا كيف أن فتاوى الميرزا الشيرازي كانت تترك تأثيراً عميقاً وعلى أوسع نطاق، سواء في الوسط الشعبي أو في الأوساط السياسية الحاكمة.

وبالرغم من أن قضية (التنباك) قد حصلت في إيران، وأن ما أسفر عنها من تفاعلات ونتائج أثرت بشكل أساسي في المجتمع الإيراني، فقد كان لها صدى قوي في العراق، ولا سيما في المناطق والمدن الشيعية، الذي كانت من بين أسبابه تشابك العلاقات بين هذه المناطق والمدن وإيران، وانعكاس الأحداث عليها، وكذلك بسبب التدخل للمرجع الأعلى -الذي مقره في العراق- في القضية، وتزعمه للانتفاضة.

وقد تابع العراقيون، وخاصة في المناطق الشيعية تلك الأحداث باهتمام كبير وأما داخل الحوزات والحلقات والمدارس العلمية فإنها أثارت جدلاً فكرياً وسياسياً عاماً، وهكذا مثلت الفتوى التي أصدرها الإمام الشيرازي، وتدخله المباشر في قضية التنباك، والانتفاضة المتولدة عنها، إحدى أهم المواقف والنشاطات الفكرية والسياسية للعلماء المسلمين الشيعة في العراق في أواخر القرن التاسع عشر، وشكلت مظهراً رئيساً من مظاهر الاتجاه الثقافي الفكري السياسي الإسلامي الذي مهد لقيام الحركة الإسلامية في العراق أوائل القرن العشرين.

إلى مثواه الأخير

أصيب المرجع الديني المجدد بداء السل، وكان شائعاً في تلك الأيام دون ان يكون له علاج شاف، وبعد فترة من المعاناة والصراع مع هذا المرض الوبيل، فارق الحياة وفاضت روحه الطاهرة مساء يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من شعبان المعظم سنة 1312 في مدينة سامراء التي أحبها وأحب أهلها وأحبوه، فكان خبر وفاته بمنزلة الزلزال في النفوس في كل أرجاء العالم الإسلامي، فحمل جثمانه الطاهر على الأعناق والأكتاف إلى النجف الاشرف، وكان أهل المدن يظهرون بالغ الجزع والحزن وهم يشاهدون النعش يمر عبر مناطقهم إلى المثوى الأخير، وذكر احد تلامذته وهو السيد حسن الصدر في كتابه (التكملة) ان مجالس العزاء على المرجع المجدد الشيرازي دامت عاماً كاملاً في عموم البلاد الإسلامية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- مؤسسة الأنوار
2- الشيرازي نت
3- موسوعة أنصار الحسين
4- شبكة النبأ المعلوماتية
5- وكالة انبأ براثا
6- صحيفة الهدى, محمد علي جواد تقي

- مركز النبأ الوثائقي يقدم الخدمات الوثائقية والمعلوماتية
للاشتراك والاتصال www.annabaa.org
arch_docu@yahoo.com

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا