باساي أول مملكة شيعية في إندونيسيا

محمد طاهر الصفار

2016-04-23 05:15

لم تؤثر حضارة الصين وعراقتها وازدهارها في أندونيسيا، رغم اختلاطها لقرون طويلة ـ كما أثّرت فيها الحضارة الإسلامية التي نقلها المهاجرون الشيعة إليها في القرن الأول الهجري، ورغم كل ما واجهته هذه البلاد من هجمات شرسة وغزوات وحشية من قبل الإحتلالين البرتغالي والهولندي اللذين ارتكبا أبشع المجازر في تلك البلاد، ومارسا عمليات إبادة بحق المسلمين عامة والشيعة بشكل خاص، إضافة إلى تنشيطهم البعثات التبشيرية التي كان هدفها محو الإسلام من أندونيسيا ومسخ العقيدة من نفوس الأندونيسيين، إلا أن الإسلام بقي متأصّلا في نفوس شعب أندونيسيا التي تعد الآن أكبر دولة إسلامية.

الإسلام السلمي

ومن أهم العوامل التي أدّت إلى تمسّك الشعب الأندونيسي بالإسلام، هو أن الإسلام دخل أرضهم بمساره الصحيح الذي دعى إليه الله (جل جلاله) مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله): (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، فقد كان الدعاة إليه هم أهله، ومن سلالة نبي الإسلام الذين عملوا بهذه الآية الكريمة.

تقول السيدة (سيدة كاشف) في بحث لها حول اعتناق الشعب الأندونيسي الإسلام: (وتأثر أولئك السكان بوضوح العقيدة الإسلامية وبساطتها بما فيها من المساواة بين المؤمنين كما تأثروا بتفوق المسلمين في المدينة وبإقبالهم على مؤاخاة أهل البلاد وببعدهم عن الغايات الإستعمارية فكان ذلك كله سبباً في انتشار العقيدة الإسلامية بينهم).

الدعاة العلويون

وتؤكد كل الروايات والوثائق أن أول من وصل إلى أندونيسيا من المسلمين، والذين انتشر على أيديهم الإسلام هناك هم العلويون الذين وصلوا إلى هذه البلاد هرباً من ظلم واضطهاد الأمويين وملاحقتهم لهم، فأقاموا لهم بيوتاً ومجاميع ودعوا الناس إلى الإسلام، يقول فن دن بيرخ: (إن تأثير العرب أشد من تأثير الهنادك، وهو تأثير يكاد يكون خيالياً، ولكنه واقع لأن أكثر العرب ذوي النفوذ الواسع هم من السادة الأشراف العلويين).

فقد كانت الدعوة إلى الإسلام تفعم القلوب وتملأ النفوس بنفحات الإيمان الصادقة والمخلصة من أفواه الدعاة وتعاملهم الأخلاقي الأخوي مع السكان الذين أصبحوا فيما بعد من الدعاة إليه والحماة المدافعين عنه يقول هاراهاب: (إن انتشار الإسلام كان بسعي دعاة يتخذون من دعوتهم الأساليب السلمية المعتدلة بقلوب مخلصة وإرادات قوية حتى تكاثرت المدارس الإسلامية). وكان الجهد الذي بذله هؤلاء الدعاة جهداً فطرياً ذاتياً نابعاً من حرصهم على الإسلام وهداية الناس إلى دين الله حيث يؤكد هاراهاب هذه الحقيقة: (لقد انتشر الإسلام بصورة عجيبة نشره الدعاة ولم ينالوا حظاً من مساعدة الملوك بل اعتمدوا على القوة الكامنة في نفس العقيدة)، ويسترسل هاراهاب في الحديث عن الدعوة السلمية: فمما يدل على عقيدة الدعاة الشيعة الخالصة لله أنهم حتى بعد أن انتشر الإسلام وأنشأوا هناك ممالك وأصبحوا متنفذين لم يتغير تعاملهم مع الناس ولم يرغموا أحداً على دخول الإسلام بل كانوا يدعونه بالتلطف والمعاملة الحسنة: (إنهم لم يأتوا بسيوف مسلولة، ولم يكونوا مغيرين ولا مستعمرين كالأسبان في القرن السادس عشر الذين جاؤوا بالسيوف والقوة والبطش لادخال الأندونيسيين إلى دينهم، ولم يكونوا كالأوربيين الآخرين الذين احتكروا التجارات وآثروا الثروة فأهلكوا غيرهم، إنهم جاؤوا فاستعملوا عقولهم خلال ذلك، وثقافتهم لنشر دينهم ولم تمر بأذهانهم فكرة الترفع والتسلط على غيرهم).

ولا يزال أهالي (تكارونغ) عاصمة (كوتي) في أندونيسيا يدينون بالفضل لذلك العلوي في حكاياتهم: (إن الإسلام جاء على يد أحد السادة الأشراف)، وتشير الروايات إلى أن ذلك السيد هو أحمد المهاجر بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي أعقب هناك أولاداً وأحفاداً اندمجوا كل الإندماج مع الشعب الأندونيسي وتفرقوا في نواحي تلك البلاد.

يقول نور الدين محمد في كتاب (سجارة عالم ملايو) (فمن هذه الجماعة ظهر كثير من العظماء دخلوا إلى جاوا، فوجدوا بها مكانة، ونالوا المراتب العالية في بيراك، وتولى بعضهم السلطنة في برليس (ملايا) وسياك (سومترا) وبعدها تكاثروا وتوالدوا).

دعاة لا زالوا في الذاكرة الأندونيسية

ويتوسّع هذا الموضوع عند الأستاذ محمد عبد الكريم أمر الله في كتابه (سجارة أمة إسلام)، حيث يذكر في (ج4ص21) منه أسماء الدعاة الذين نشروا الإسلام في تلك البلاد من العلويين في كل منطقة من مناطق أندونيسيا، فيقول: (إن الأندونيسيين يعتقدون اعتقاداً متوارثاً بأنهم تلقوا الدين عن سيد شريف من سلالة الرسول)، ثم يذكر أسماء الدعاة كـ (السيد اسماعيل الذي جاء إلى سمودرا (باساي) والسيد عبد العزيز الذي أسلم على يده الملك (براميسوارا) والشيخ عبد الله عارف وتلميذه برهان الدين في أجيه وملك إبراهيم المنتسب إلى زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب في (كرسيك) وهداية الله المنتسب إلى الرسول)

ولا يزال الكثير منهم يحتفظون بنسبهم المتصل إلى الرسول، يقول البروفسور حسين جايادينينغراد في بحث له عن جذور الإسلام في أندونيسيا نشر في مجلة (بهاسا دان بودايا): (إن سلاطين جزائر الملوك يعتقدون أنهم من سلالة جعفر الصادق ومثلهم سلاطين بروني).

مملكة باساي وانتشار التشيع

وقد أنشأ العلويون الشيعة أول مملكة لهم في باساي (سومترا الشمالية) في القرن السادس الهجري فكانت تلك المملكة مركز إنطلاق التشيع إلى جاوا، وكان ينشر التشيع فيها رجل علوي اسمه اسحاق بن إبراهيم الملقب بـ (أسمارا) بن الحسين من أبناء الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وكان أخوه علي بن إبراهيم يقيم في (كرسيك).

وتقع مملكة باسي في مقاطعة أجيه ومن باساي انتشر التشيع في كل المقاطعة، حتى أن اسم مملكة في هذه المقاطعة أُضيف إلى اسمها صفة التشيّع، وأصبحت هذه الصفة ملازمة لها، وهي (شيعة كوالا)، وتعني في اللغة الأندونيسية (كوالا الشيعية)، وكان لهذه المملكة نضال كبير في محاربة الإحتلال الهولندي، وأصبحت رمزاً من رموز التحرير، وسجّل أهلها مع أهالي باساي وغيرها من الممالك في أجيه أروع صفحات الشجاعة والبطولة والتضحية في سبيل تحرير البلاد من نير الإحتلال، وبعد استقلال أندونيسيا كرّمت الحكومة الأندونيسية هذه البلدة وأنشأت بها جامعة باسم (جامعة شيعة كوالا)، وتدين هذه المملكة وغيرها من الممالك في أجيه بفضل انتشار التشيع فيها إلى مملكة باساي.

كتاب الشيعة

ولا تزال باساي موضع اهتمام الكتاب والباحثين في أندونيسيا، لما مثلته من دور كبير وفاعل في بناء الحضارة الإسلامية في أندونيسيا، ومن هذه المؤلفات والبحوث والدراسات التي كتبت عنها: كتاب (الشيعة) باللغة الأندونيسية للدكتور أبو بكر أجي عام (1965)، وكان لهذا الكتاب صدى واسع في الأوساط العلمية والفكرية والإجتماعية والسياسية وكتب عنه الكثيرون فقد كتب الدكتور حزيرين عميد جامعة جاكارتا مقدمة لهذا الكتاب قال فيها مخاطبا المؤلف:

(إن عملكم فيما يتعلق بالشيعة مهم جداً لشعبنا، لا سيما لأولئك الذين ليس لهم قدرة الإطلاع مباشرة على الكتب العربية، حتى أن الذين يجيدون اللغة العربية قد لا تتاح لهم الفرص للإطلاع على هذا الموضوع الذي توليتم أنتم بحثه. إن الإطلاع على ما يتعلق بالشيعة ليس فقط مهماً جداً لمعرفة كل ما يتعلق بالإسلام، خصوصاً لشعبنا، بل إن التاريخ الإسلامي وازدهاره وتطوره في أندونيسيا بالذات مرتبط بالشيعة ارتباطاً مباشراً).

ثم يتطرّق حزيرين في مقدمته إلى جهود علماء مملكة باساي في نشر التشيع ونقله إلى كل ممالك أجيه فيقول: (أليست باساي تمثل أول دولة إسلامية في أندونيسيا ؟ وهي الدولة التي أسسها الشيعة، ومن باساي توسّع التشيّع وتعاليمه إلى جميع القطر الأجوي، ثم توسعت الدعوة وعمت المناطق الأخرى الواسعة في سومطرا ومالايا، حتى أن دولة (مينانغكاباو) تحولّت من البوذية إلى الإسلام وتبعت المذهب الشيعي واستمرت ثلاثة قرون).

كما كتب (بحروم رانكوتي) الكولونيل في البحرية الأندونيسية كلمة للمؤلف قال فيها: (ولهذا السبب فإن هذه الأمور سوف تعطينا الشيء الكثير عندما نعلم الغاية والمبدأ الشيعيين، كما كان يقوم بهما زعماء الشيعة في أجيه، مما توسع فيما بعد إلى الولايات الأخرى إلى (مينانغكاباو وجاوا) وغيرها، ومما يمكننا معه فهم ومعرفة مداخل تاريخ الشيعة وكيف ازدهر ذلك في مينانغكاباو، ومما أنتج حركة (الإسلام الأبيض) التي أوجدها الداتونان رينجيه مع زميليه الإمام بونجول وتوانكوراو، بل إن تاريخ أندونيسيا في عقيدتي لا يمكن إحياؤه وتدوينه مرة أخرى بطريقة موسوعية بدون أن نذكر التشيع وغايته وأهدافه التي عاشت قروناً في أندونيسيا)

مركز إشعاع علمي حضاري

مثّلت باساي منذ تأسيسها مركز إشعاع حضاري وعلمي في إجيه وأندونيسيا، وأغنى علماؤها الحضارة الأندونيسية الإسلامية بمؤلفاتهم التي لم تقتصر قراءتها ودراستها في باساي، بل كانوا يرسلونها إلى باقي الممالك في إجيه، ويدلنا قول المستشرق الهولندي الدكتور (سنوك هرخرونيه) إن باساي كانت عاصمة العلم، ومصدر الحضارة العلمية ليس في أندونيسيا وحدها، بل تعدتها إلى كثير من البلدان، يقول سنوك وهو يتحدث عن دور مملكة باساي وعلمائها في ازدهار النهضة العلمية في إجيه: (إن من المؤكد أن جميع الكتب العلمية من العالم الإسلامي كانت معروفة في إجيه، وفي التعليقات التي كتبها العلماء دليل على فهمهم الفهم التام).

ثم يشير الدكتور سنوك إلى مدى اهتمام العلماء بالحركة العلمية وإبقاء هذه النهضة الفكرية حية حتى في إحلك الظروف وأشدها فيقول: (إن العلماء المحققين في القوانين الإسلامية، وعلوم الآلة واللغة يكتبون ويتراسلون باللغة العربية، حتى أنهم في أحرج الأوقات خلال المعارك، وفي الأماكن النائية في الغابات والجبال كانوا يستصحبون الكتب ويدرسونها).

ثم يتحدث عن آثار تلك النهضة العلمية التي بلغت أوجها في باساي فيقول: (إن (فن درماتن) ـ القائد الهولندي ـ وجد نحو (300) كتاب بين مخطوط ومطبوع بمطبعة حجرية عندما زحف الهولنديون على (كومالا)، من بينها مخطوطات كان قد مر عليها يومذاك قرنان، ومعظم هذه الكتب بلغة الملايو ولغة أجيه، ومما عثر عليه كتب في أحوال العالم في الهند وفارس وتركيا والسلاطين، ومنها كتاب التبيان في معرفة الأديان ألفه صاحبه عام (1654).

ويظهر من كلام سنوك أن الحركة العلمية لم تقتصر على مؤلفات علماء باساي واجيه فقط، بل نشطت حركة الترجمة من وإلى الملايو، وهذا ما يؤكده المؤرخ الأندونيسي ضياء شهاب حيث يقول: (ومما هو جدير بالذكر أن جل الكتب المؤلفة والمترجمة في المواضيع الإسلامية في تلك العصور ظهرت في أجيه، حيث كانت حكومة أجيه كثيرة العناية بالشؤون الإسلامية)، ويقول أيضاً: (وكان الأجيون يبعثون الدعاة إلى أندونيسيا الشرقية ويرسلون الكتب إلى شبه جزيرة الملايو).

دهليز مكة

واتسعت الحركة العلمية في باساي وأجيه وازدهر النشاط الفكري والتأليف والترجمة ففي عام (1637) وصل إلى أجيه الشيخ يوسف الكاسري مفتي بانتن وصاحب كتاب (بستان السلاطين) الذي هاجر جده من حضرموت في اليمن، ولما رأى تلك الحركة العلمية النشيطة أطلق على أجيه لقب (دهليز مكة) لنشاطها العلمي، كما خصص الباب الثالث عشر من كتابه الآنف الذكر للحديث عن هذه الحركة العلمية في أجيه.

ولا تزال شواهد قبور العلماء الأعلام من الشيعة في باساي مزاراً عاماً للمسلمين حتى اليوم، كقبر السيد حسام الدين الحسيني المتوفى سنة (823هـ)، والسيد حسن بن علي الأسترابادي المتوفى سنة (833هـ) وغيرهما، كما عُرفت قبور الشيعة في باساي بشواهد تكتب عليها مثل (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، كما لا يخلو قبر فيها من عبارة (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار)، وهذه العبارة يصوّرها الأجيون أيضاً على أعلامهم صورة ذي الفقار سيف علي بن أبي طالب، كما لا يزال حتى اليوم تجري احتفالات الشيعة في شهري محرم وصفر في باساي ويطلق على شهر المحرم هناك اسم (أسن أو سين) أي ـ حسن وحسين ـ.

وإضافة إلى تزعم مملكة باساي الحركة العلمية في أجيه، فقد كانت مركزاً تجارياً مهماً للتجار المسلمين القادمين من آسيا الشرقية والهند وغيرها وقد حكم باساي (12) سلطاناً هم:

1 ـ جوهن شاه

2 ـ الملك الكامل: توفي: 607هـ/1210م)

3 ـ الملك الصالح (ميرا سيلا) توفي: (696هـ/1297م)

4 ـ محمد الظاهر بن الملك الصالح: توفي (726هـ/1326م)

5 ـ محمود بن محمد الظاهر: توفي (745هـ/1345م)

6 ـ جمال الدين أحمد (برمادا لابرمالا): توفي (784هـ/1383م)

7 ـ زين العابدين: قتل (807هـ/1405م)

8 ـ محمد بن زين العابدين: توفي (838هـ/1435م)

9 ـ أبو زيد الملك الطاهر: (838هـ/1435م) تولى الحكم مدة وجيزة

10 ـ محمد بن زين العابدين

11 ـ عبد الله بن محمد بن زين العابدين: توفي: (918هـ/1512م)

12 ـ اسكندر آخر سلاطين باساي قتل بالصين

أحداث تتكلم

عرف شعب باساي بابطولة والشجاعة إلى جانب إيمانه العميق بالإسلام، ومن أبرز الأحداث التي جرت في هذه المملكة أنها عاشت في أيام الملك الصالح ذروة الإزدهار العلمي والإقتصادي حيث وصل في عهده علماء الإسلام وتجار العرب إلى باساي من البلاد العربية والإسلامية كإيران ودلهي وملابر وكرومندل غيرها، وفي عهد محمود الظاهر زار باساي الرحالة ابن بطوطة وسجل مشاهداته فيها، وجرى أول اتصال للمملكة مع الصين في عهد السلطان أحمد جمال الدين حيث أرسل وفداً سنة (783هـ)، كما استقبل وفداً منها، وفي عهد ابنه زين العابدين هاجمت قوات دولة سيام هذه المملكة فخرج إليهم السلطان وخرج معه كل من يقدر على حمل السلاح في باساي فاستطاعوا دحر العدو، وأخيراً وفي عام (920هـ/1514م) استولى السلطان علي معايت مؤيد شاه (ملك اجيه) على باساي وضمها إلى مملكته، وعين عليها ابنه علاء الدين رعاية أميراً وقد جمع هذا السلطان ممالك أجيه وضمها إليه فاصبحت لديه قوة لرد هجمات البرتغاليين الذين وصلوا إلى أندونيسيا عام (1509).

الجهاد المقدس

وبعد ضم باساي إلى أجيه بدأت مرحلة جديدة في تاريخ هذه المملكة وهي مرحلة الكفاح المسلح والجهاد المقدس ضد الإحتلالين البرتغالي والهولندي، حيث يحتفظ تاريخها بصفحات البطولات العظيمة التي سطرها أهلها، كما تحتفظ وثائق البرتغاليين والهولنديين عن تلك المملكة بهذه الشجاعة الأسطورية التي جعلت القائد الهولندي فن سويتن يكتب إلى صديقه: (إننا نواجه شعباً في أجيه لم يكونوا متصفين بالبطولة فحسب، ولكننا نواجه رجال حرب منذ العهود القديمة لم يسبق لهم أن استعمروا).

ويتحدث المستشرق الهولندي سنتخراف في كتابه (أجيه) عن الشعب الإيجي الحر الذي يفضل الموت على العبودية فيقول: (إن الأجيين كالليوث، ويفضل الكثير منهم الموت حرقاً على الإستسلام، إنها حروب استقتالية حقاً)

بداية المأساة

كان اكتشاف الملاح البرتغالي (فاسكو دي غاما) طريق رأس الرجاء الصالح عام (902هـ/1497م) هو بداية مأساة هذه البلاد، فكان لهذا الإكتشاف آثاره المدمرة التي جرت الويلات على الشعب الأندونيسي طوال ثلاثة قرون، وهي مدة الإحتلال البرتغالي والإسباني والهولندي والإنكليزي، حيث بدأت سفن البرتغال تهاجم سفن المسلمين التجارية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، فكان البرتغاليون يحملون ما ينهبونه من محصولات هذه السفن وخاصة التوابل التي ازدهرت تجارتها في ذلك الوقت إلى لشبونة بعد أن يقتلوا من بالسفينة.

واستأثروا بطريق الهند وفي عام (1511) هاجمت السفن البرتغالية بقيادة (البوكرك) (ملاكا) إحدى ممالك أجيه القريبة من باساي، ولم تكد تطأ أقدام البرتغاليين أرض ملاكا حتى استبيحت المدينة قتلاً ونهباً وأودع من بقي من أهلها السجون المظلمة ومُورس بحقهم أشد أنواع التعذيب بكل وسائلها الإجرامية من آلات تحطيم العظام وكي الأجساد بالحديد المحمى وأدوات الشنق وغيرها، وبقيت هذه الوسائل الدموية تمارس طوال احتلالهم لتلك البلاد.

ثم توجه البوكرك إلى آرو حيث توجد هناك مصانع السفن فنهب ثلاث سفن وما فيها واختطف رجاله ستين شخصاً من أمهر صناع السفن ومعهم نساؤهم وساقوهم إلى (كوشين) ليصنعوا لهم سفنا ولكن هؤلاء الأسرى ثاروا في وسط البحر ونجوا بأنفسهم ووصلوا إلى باساي.

هجوم القراصنة البرتغاليون على باساي

بعد استيلاء البوكرك الحاكم البرتغالي على ملاكا وجه قائده سباستيان دي سوسا بـ (16) سفينة محملة بالسلاح والجنود إلى باساي لاحتلالها، ولكن أهالي باساي تصدّوا لهذا الأسطول بقيادة القائد إبراهيم أخو السلطان علي معايت، فقاموا بهجمات خاطفة سريعة كبدت المحتلين خسائر جسيمة مما اضطرهم إلى الإنهزام تاركين مدافعهم محشوة بالقذائف في القلعة وأشعلوا النيران فيها غير أن المسلمين سارعوا لإطفاء النيران وتوجيه المدافع نحو البرتغاليين فقتلوا كثيراً منهم وانهزم الباقون.

وبقي البرتغاليون يهاجمون السفن التجارية بعد استيلائهم على ملاكا فينهبون ويسرقون ويقتلون وعاودوا هجومهم على باساي غير أن القائد إبراهيم نظّم جيشاً وأعد عدته للدفاع عن باساي، فهزم الأسطول البرتغالي وطردهم من باساي وقتل قائدهم بريتو، وطاردهم الأجيون في عرض البحر وكبدوهم خسائر فادحة.

وفي عام (1537) هاجم باساي أسطول برتغالي بقيادة دي سوسا فانقض جيش باساي على الأسطول البرتغالي ومزّقه شرّ ممزّق فقتلوا الكثير منهم وأسروا الباقين، وقد أعد أهل باساي عدتهم لرد تلك الهجمات، فبنوا أسطولاً ضخماً، وعززوا الجيش وذهبت أطماحهم إلى أبعد من الدفاع وهو الهجوم على البرتغاليين وتحرير ملاكا فأعدوا العدة لذلك وجهزوا أسطولا يقل (15) ألف جندي وتأهب البرتغاليون فجرت معركة طاحنة قتل الكثير فيها من الفريقين، وكاد الأجيون أن ينتصروا لولا يد الخيانة التي طعنتهم في الظهر، فقد ناصرت سلطنة جهور البرتغاليين على أبناء جلدتهم.

بعد تلك المعركة زادت عزيمة الأجيين وتقدمت صناعة السفن في باساي وصارت ترسل الفائض منها إلى الممالك الإسلامية الأخرى مثل بانتن ودمك لمساعدتها على رد هجمات البرتغاليين حتى استطاعت أجيه في عام (1547) دك الأسطول البرتغالي في ملاكا وإغراقه وقتل الكثير منهم وهرب الباقين.

جرائم القراصنة الهولنديين

في ذلك الوقت استفحل العداء بين البرتغاليين والهولنديين وكثرت الهجمات على السفن بينهما، حتى استطاع الهولنديون رشوة حاكم ملاكا البرتغالي بمبلغ (80) ألف ريال مقابل تسليمهم ملاكا ولكنه لم يستلم ريالاً واحداً منهم لأنهم قتلوه فور دخولهم ملاكا.

وقد فاق هؤلاء المجرمون جرائم من سبقوهم كثيراً في القسوة والوحشية والبشاعة، وارتكبوا من المجازر ما يندى لها جبين الإنسانية، فنهبوا كل ما وجدوه من أملاك وأموال، وقتلوا كل من وجدوه من السكان، واعتدوا على الأعراض، وتناقص عدد سكان ملاكا إلى 90% فبعد أن كان سكان ملاكا (20) ألفاً أصبحوا ألفان فقط كما يعترف بذلك الهولنديون أنفسهم في وثائقهم.

زادت هذه الجريمة النكراء الأجيون إصرار وعزيمة على قتال أعدائهم رغم تخلي الدولة العثمانية عنهم ورفضها مد يد العون لهم، وذلك حينما أرسلت أجيه وفداً إلى اسطنبول عام (1267هـ/1851م) وصار البحارة الأجيون يثورون على السفن الهولندية وسط البحر ويقتلون الهولنديين وتكررت هذه الحوادث كثيراً حتى أصيبوا بالرعب.

المعاهدة الفاشلة

وفي عام (1871) عقدت معاهدة بين هولندا وبريطانيا تم بموجبها إطلاق الحرية لهولندا لمد نفوذها في جميع أنحاء سومترا، فوجدت الفرصة سانحة للإستيلاء على أجيه فطالبت أجيه بالإعتراف بسيادة هولندا، لكن طلبها جوبه بالرفض القاطع، فدارت حرب طاحنة استمرت (45) يوماً، كان الأجيون فيها يستقتلون في الدفاع عن أرضهم وعرضهم ودينهم واستقبلوا الهولنديين بصيحات التكبير التي بثت في قلوبهم الرعب فاندحر الجيش الهولندي، وقتل قائده (فن تيل) وقتل الكثير من الضباط معه.

ثم لمّ الهولنديون فلولهم المندحرة وتوجهوا نحو باساي وهدفهم المسجد الذي تحصن فيه البعض للدفاع عنه، وكمن البعض الآخر لهم، فما إن صاروا بمرأى العين حتى أمطرهم أهل باساي بوابل الرصاص، فبادلهم الهولنديون إطلاق القذائف باستمرار على المسجد فأحرقوه مما اضطر المتحصنين به أن يخرجوا، فخرجوا ونصبوا الكمائن لهم على شكل مجاميع، ولما دخل الهولنديون باغتهم أهل باساي بهجوم خاطف وسريع وكبدوهم الكثير من القتلى ولاذ الباقون بالفرار.

يقول شاهد عيان من الجنود الهولنديين عن هذه المعركة في الوثائق الهولندية: (إن الأجيين يهاجموننا في كل معركة مباغتة، على رغم مواجهتهم لجيش مستكمل السلاح، فأدركنا أن مهمتنا شاقة). وقد فقد الهولنديون في هذه المعركة 15% من الضباط و58% من الجنود حسب ما جاء في مصادرهم.

قرد مصفد

واستمرت تلك المعارك الدامية لسنين طوال، وجرت مصادمات طاحنة يطول شرحها أبدى فيها الأجيون من الشجاعة ما أبهر العدو قبل الصديق، رغم قلة عددهم وعدتهم الحربية أمام جيش متكامل العدة والعدد، وقد اعتمد الأجيون في قتالهم على الهجمات المباغتة الخاطفة السريعة التي تفقد العدو سيطرته على زمام الأمور، وتصيبه بالذهول والشلل الممتزج بالرعب، وهم يسمعون صيحات التكبير من الأجيين وهذا ما جعل سنوك يقول: (إن الجيوش الهولندية أشبه بقرد مصفّد بأغلال يؤذيه الأطفال أشد الأذى وهم آمنون).

قائد علوي

ومن رموز هذا الكفاح المسلح والجهاد المقدس الأجيين الذين لم يشكلوا مصدر خطر على الهولنديين في الحرب فحسب، بل كانوا مصدر رعب لهم حتى في منامهم وكوابيسهم التي تقض مضجعهم القائد الحبيب عبد الرحمن الزاهر وهو سيد علوي شريف ينتهي نسبه إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) الذي لم يوجد مثله في الأجيين كما يقول المستشرق الهولندي سنتخراف: (لم يوجد منذ سبعين عاماً زعيم كهذا الزعيم الفذ للأجيين، الحبيب بن عبد الرحمن الزاهر، ونحمد الله على أن كان زعيماً واحداً فقط، فقد كانت حكومة هولندا تخشاه كثيراً، وتبذل جهدها وتتوسل بكل وسيلة لإخضاعه). ـ وسنفرد لهذا القائد العلوي البطل موضوعاً مستقلاًـ

العمليات البطولية

وإضافة إلى استمرار المعارك بدون توقف فقد خاضت تلك المجاميع الأجية عمليات بطولية، فالدوريات الهولندية معرّضة دائماً للخطر، وفي أي لحظة يهاجمها الأجيون ويقتلون جميع أفرادها، أو يتسلق قرابة 20 شخصاً أو أكثر الأسوار المحصّنة في جنح الظلام فيقتلون كل من يجدونه من الهولنديين ويخرجون ومعهم الأسلحة والغنائم، وقد يكمنون لفرقة هولندية فيبيدونها عن بكرة أبيها، وقد يدخل شخص بصفة تاجر ماشية أو غيرها بين الهولنديين فإذا صار بينهم يخرج خنجره ويقتل ضابطين أو ثلاثة قبل أن يقتلوه، كل تلك العمليات أصابت الهولنديين بالرعب والذعر.

يقول الماجور براندهوف عن هجمات الأجيين المباغتة: (إن للعصابات الأجية مهارة ودربة على القتال، كانوا يتخيّرون الهجوم تخيّراً على أقسام الجيش، والجيش الهولندي منفصلة أجزاؤه بعضها عن بعض، فالأمامي لا يرى من في الوسط، وهذا لا يرى الخلفي، فلما هاجم الأجيون الطليعة لم يعلم بذلك من يليها، هاجموا من اليمين، فلما اتجه الهولنديون إلى اليمين هاجم آخرون من الشمال، أي من خلفهم، وهذه خطة محكمة، وكانت الهجمات تقع في آن واحد على الأقسام، فتؤخر تقدم الجنود، لأنهم لا يعرفون ما وقع لإخوانهم).

ويضيف براندهوف في حديثه عن مدى صلابة الأجي في الدفاع عن دينه ووطنه وتضحيته بنفسه في سبيل ذلك فيقول: (إن استقتال الأجيين وغيرتهم الدينية وحروبهم الطويلة قد استرعى إعجاب الكثيرين من الهولنديين أنفسهم فهم يقتحمون غمار الحرب، ويتسابقون لورود حياض المنايا، يدفعهم الحماس الديني معتقدين بأن كل ما يعانونه من حرب وشقاء جهاد في سبيل الله، وأن لهم الجنة).

وهناك شواهد كثيرة جداً وشهادات شهود عيان كثيرة أيضاً في الوثائق الهولندية سجلها التاريخ عن تلك الشجاعة التي تشبه المعاجز فالكثير من الضباط والجنود سجلوا شهاداتهم عن رجل أجي يهاجم وحده مجموعة من الجنود والضباط ولا يحمل سلاحا بيده سوى سكينا أو رمحا فيتلقى الرصاص بصدره ولا يسقط حتى يقتل من الهولنديين جنديا أو اثنين أو أكثر.

ونختم هذه الأقوال والشهادات بما كتبه المراسل الحربي لجريدة التايمس اللندنية حينئذ حيث يقول: (إن الأجيين ليسوا من النوع الذي يفرض عليه الإستسلام فرضا مهما بلغت أعمال الإبادة، لا يتساوون مع سكان الجزائر الأخرى، إنهم ذوو عزائم قوية وحماس منقطع النظير، يفضلون الموت على الإستسلام إذا عدم الأمل، ولكنهم في حاجة إلى الأسلحة الجيدة للتغلب على الأوربيين).

الأجيون يستمدون الإباء من الحسين

واستمر القتال لسنوات طوال في كل مناطق أجيه وأندونيسيا وشاركت في هذا القتال حتى المرأة الأجية، وحتى استقلال أندونيسيا عام (1945)، فكان للشيعة اليد الطولى والدور الأكبر في هذا الإستقلال، مجسدين أعظم التضحيات وهم يستمدون من أبي الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام) وقفته الخالدة بوجه الظلم الأموي وكأن صوته يهتف في أسماع الأجيين (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد).

ذات صلة

مصائر الظالمينترامب يصدم العالم.. صنعنا التاريخفوز ترامب.. فرح إسرائيلي وحذر إيراني وآمال فلسطينيةالنظامُ التربوي وإشكاليَّةُ الإصلاح والتجديدالتأثير البريطاني على شخصية الفرد العراقي