فصائل الدم النادرة: فجوة طبية تبحث عن حلول عاجلة
أوس ستار الغانمي
2025-12-28 04:24
تُعد فصائل الدم النادرة إحدى القضايا الطبية شديدة الحساسية التي تضع النظم الصحية والمستشفيات أمام تحديات معقّدة عند الحاجة إلى عمليات نقل دم عاجلة. فرغم التطور الهائل في تقنيات حفظ الدم ونقله، ما تزال الندرة الجينية لبعض الفصائل تشكّل فجوة كبيرة بين الاحتياج الفعلي والمخزون المتاح، خصوصًا حين تكون حياة المريض معلّقة على وحدة دم واحدة مطابقة تمامًا لفصيلته. وتتزايد أهمية هذا الملف مع التقدم في أبحاث الهندسة الوراثية ومحاولات إنتاج دم اصطناعي أو خلايا دم حمراء خالية من المستضدات، وهي جهود علمية تفتح آفاقًا واعدة لكنها ما تزال محاطة بضوابط وتجارب طويلة. في هذا التقرير الموسّع، نسلّط الضوء على ماهية فصائل الدم النادرة، وأسباب تكوّنها، وكيف تعمل المؤسسات البحثية حول العالم على الوصول إلى بدائل مستقبلية آمنة.
ما هي فصائل الدم النادرة؟
تُقسم فصائل الدم بناءً على وجود أو غياب بروتينات محددة تُسمى المستضدات (Antigens) على سطح خلايا الدم الحمراء، ويتم تصنيفها وفق نظامين الأول هو “ABO”، الذي يعمل على تقسيم فصائل الدم إلى أربعة أقسام وفق ما نشرته مختبرات دلتا الطبية وهم:
فصيلة الدم: A تحتوي خلايا الدم الحمراء على مولدات مضادات من نوع A، بينما توجد الأجسام المضادة لفصيلة الدم B في البلازما.
فصيلة الدم B: تتضمن خلايا الدم الحمراء مولدات مضادات من نوع B، وتحتوي البلازما على الأجسام المضادة لفصيلة الدم A.
فصيلة الدم AB: تحتوي خلايا الدم الحمراء على مولدات مضادات من نوعي A و B، لكنها لا تحتوي على أي أجسام مضادة في البلازما.
فصيلة الدم O: لا تحتوي خلايا الدم الحمراء على أي مولدات مضادات، لكنها تحتوي على الأجسام المضادة لفصيلة الدم A و B في البلازما.
ويُعرف النظام الثاني باسم (العامل الرايزيسي (RH)، والذي يعمل على تقسيم فصائل الدم إلى سالب وموجب مثل: (A+) وسالبة مثل: ( A-)، وفيما يلي سوف نتعرف عليه بشكل أكثر وضوحًا.
كيف تكونت فصائل الدم النادرة؟
وتعود هذه الندرة إلى أنّ خصوصية فصيلة الدم في منطقة جغرافية معيّنة هي نتيجة تَكَيُّف الإنسان مع بيئته التي شكلت خصائصه الوراثية على مر القرون.
ويُلاحظ أن التنوع الجيني الأكبر في العالم موجود في إفريقيا، حيث مهد البشرية. ولا توجد بعض فصائل الدم إلا في الأشخاص ذوي الأصول الإفريقية أو الكاريبية.
وفي الصين، يوجد أقل من شخص واحد في الألف سالب العامل الريسوسي، في مقابل 15% في أوروبا. بحسب ما ورد في تقرير الشرق للأخبار يروي تييري بيرار أن تكوين مخزون من الدم السالب العامل الريسوسي كان ضرورياً "لضمان سلامة عمليات نقل الدم للرياضيين الأوروبيين" قبل دورة الألعاب الأولمبية عام 2008 في بكين.
ويشرح عالم الأحياء الطبية أن "99,96% من السكان هم من فصيلة فيل موجب (إحدى علامات فصيلة الدم البالغ عددها 390) وثمة أفراد يشكّلون استثناءً سيكونون من فصيلة فيل سالب. إذا تحصنوا بمستضد مضاد لفصيلة فيل ونُقِل الدم إليهم، من الضروري العثور على متبرع متوافق، وإلا سيكون خطر الوفاة قائماً".
وفي فرنسا، يُعتقد أن ثمة ما بين 700 ألف ومليون شخص يحملون دماً نادراً، من دون أن يكونوا بالضرورة على علم بذلك.
وقد يتم اكتشاف أحد ذوي الدم النادر مصادفةً، في أثناء فحص ما قبل نقل الدم أو التبرع العادي.
وفي حالة نقل الدم، يجب أن يحصل هؤلاء الأشخاص على دم قريب قدر الإمكان من فصيلة دمهم، لأن عدم التوافق قد يؤدي إلى الوفاة.
ويقول تييري بيرار "نحن بحاجة إلى أقصى قدر من تنوّع المتبرعين لنتمكن من نقل الدم إلى جميع المرضى".
ويشير سجلٌّ وطنيٌّ لحاملي فصائل الدم هذه إلى أن عدد المتبرعين في فرنسا يبلغ نحو 18 ألفاً.
أصل فصيلة الدم Rh null
أظهرت الأبحاث الحديثة أن فصيلة الدم Rh null ناتجة عن طفرات جينية تؤثر في بروتين يؤدي دوراً أساسياً في خلايا الدم الحمراء، يُعرف باسم الغليكوبروتين المرتبط بعامل Rh أو RHAG. يبدو أن هذه الطفرات تُقصّر أو تغيّر شكل هذا البروتين، مما يؤدي إلى تعطيل ظهور المستضدات الأخرى من نوع Rh على سطح خلايا الدم الحمراء.
في دراسة أُجريت عام 2018، تمكن تويي وزملاؤه في جامعة بريستول من إعادة تكوين فصيلة الدم Rh null في المختبر.
وليتمكنوا من ذلك استخدم الفريق خلايا دم حمراء غير ناضجة نُميت في المختبر، ثم استخدموا تقنية تحرير الجينات "كريسبر-كاس9/ Crispr-Cas9" لحذف الجينات المسؤولة عن إنتاج المستضدات في خمسة أنظمة من فصائل الدم، وهي الأنظمة التي تُسبب غالبية حالات عدم التوافق في عمليات نقل الدم. شمل ذلك مستضدات ABO وRh، إضافة إلى مستضدات أخرى تُعرف باسم Kell وDuffy وGPB.
وقال توي: "اكتشفنا أنه إذا قمنا بتعطيل خمسة أنظمة من المستضدات، فسنتمكن من إنشاء خلايا فائقة التوافق، لأنها ستخلو من أكثر فصائل الدم المسببة للمشكلات".
الخلايا الدموية الناتجة كانت متوافقة مع جميع فصائل الدم الشائعة، وأيضاً مع الأنواع النادرة جداً مثل: Rh null وظاهرة بومباي (Bombay phenotype)، وهي أيضاً فصيلة نادرة يحملها شخص واحد فقط من بين كل أربعة ملايين. ولا يمكن للأشخاص الذين يمتلكون هذه الفصيلة تلقي دم من فصائل O أو A أو B أو AB.
ورغ كل ما سبق، إلا أن استخدام تقنيات تعديل الجينات لا يزال مثيراً للجدل ويخضع لضوابط صارمة في أنحاء كثيرة من العالم، مما يعني أن هذا النوع من الدم فائق التوافق قد يستغرق بعض الوقت قبل أن يصبح متاحاً سريرياً. وسيحتاج إلى اجتياز العديد من جولات التجارب السريرية والاختبارات قبل الموافقة عليه.
في غضون ذلك، شارك توي في تأسيس شركة فرعية، تُدعى "سكارليت ثيرابيوتكس"، وتجمع تبرعات الدم من الأشخاص ذوي فصائل الدم النادرة، بما في ذلك فصيلة الدم Rh null. ويأمل الفريق في استخدام هذا الدم لإنشاء سلالات خلوية يمكن زراعتها في المختبر لإنتاج خلايا الدم الحمراء بشكل دائم. ويمكن بعد ذلك تجميد هذا الدم المُنْتَج في المختبر في أماكن تخزين مخصصة لحالات الطوارئ في حال احتاج إليه أصحاب فصائل الدم النادرة.
يأمل توي في إنشاء بنوك دم نادرة في المختبر دون استخدام تعديل الجينات، مع أن هذه التقنية قد تلعب دوراً في المستقبل.
ويقول: "إذا تمكنا من القيام بذلك دون تعديل الجينات، فهذا رائع، لكن التعديل الجيني خيار متاح لنا". جزء مما نقوم به هو اختيار المتبرعين بعناية، سعياً لجعل جميع مستضداتهم متوافقة قدر الإمكان مع معظم الناس. لكن بعد ذلك قد نضطر إلى تعديل الجينات لجعلها متوافقة مع الجميع.
ويتسابق باحثون آخرون لإنتاج دم Rh null -خالٍ من العامل الرايزيسي- في المختبر.
في عام 2021، استخدم عالم المناعة غريغوري دينوم وزملاؤه في معهد فيرستي لأبحاث الدم في ميلووكي في الولايات المتحدة، تقنية تحرير الجينات Crispr-Cas9 لإنشاء فصائل دم نادرة مخصصة، بما في ذلك Rh null، باستخدام الخلايا الجذعية المستحثة متعددة القدرات البشرية (hiPSC).
وتمتلك هذه الخلايا الجذعية خصائص مشابهة للخلايا الجذعية الجنينية ولديها القدرة على التحول إلى أي نوع من خلايا الجسم البشري، إذا توفرت الظروف المناسبة.
ويستخدم علماء آخرون نوعاً مختلفاً من الخلايا الجذعية التي تكون مبرمجة مسبقاً لتصبح خلايا دم، لكنهم لم يحددوا بعد أي نوع بالضبط.
وعلى سبيل المثال، استخلص مؤخراً علماء في جامعة لافال في كيبيك، كندا، خلايا جذعية دموية من متبرعين لديهم دم من فصيلة A إيجابي. ثم استخدموا تقنية Crispr-Cas9 لحذف الجينات المسؤولة عن إنتاج مستضدات A وRh، مما أدى إلى إنتاج خلايا دم حمراء غير ناضجة من نوع O Rh null. كما استخلص باحثون في برشلونة، إسبانيا مؤخراً خلايا جذعية من متبرع دم Rh null، واستخدموا تقنية Crispr-Cas9 لتحويل دمه من الفصيلة A إلى الفصيلة O، مما يجعلها أكثر شيوعاً وقابلية للاستخدام العام.
وعلى الرغم من هذه الجهود المبهرة، من المهم القول إن إنتاج دم اصطناعي مزروع في المختبر على نطاق يمكن للناس استخدامه لا يزال بعيداً. وتتمثل إحدى الصعوبات في جعل الخلايا الجذعية تنمو لتصبح خلايا دم حمراء ناضجة.
في الجسم، تُنتج كريات الدم الحمراء من الخلايا الجذعية في نخاع العظام، الذي يصدر إشارات معقدة توجه عملية نموها. يشار إلى أنه من الصعب جداً تكرار ذلك في المختبر.
يقول دينوم، الذي يعمل الآن كمدير للشؤون الطبية في شركة Grifols Diagnostic Solutions المتخصصة في طب نقل الدم: "هناك مشكلة إضافية، وهي أنه عند إنتاج دم من نوع Rh null أو أي فصيلة دم نادرة أخرى، قد تتعرقل عملية نمو ونضج كريات الدم الحمراء. إنتاج جينات فصائل دم محددة قد يؤدي إلى انهيار غشاء الخلية، أو فقدان القدرة على إنتاج كريات الدم الحمراء بكفاءة في بيئة الخلايا".
وفي الوقت الحالي، يشارك توي في قيادة تجربة "RESTORE"، وهي أول تجربة سريرية في العالم لاختبار سلامة إعطاء متطوعين أصحاء خلايا دم حمراء مُنمّاة صناعياً في المختبر من خلايا جذعية دموية لمتبرعين.
لم يخضع الدم الاصطناعي في التجربة لأي تعديل جيني، ولكن الأمر استغرق عشر سنوات من البحث للوصول إلى المرحلة التي كان العلماء مستعدين فيها لاختباره على البشر.
يقول توي: "في الوقت الحالي، يُعد سحب الدم من الذراع أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة، ولذلك سنحتاج إلى متبرعين بالدم في المستقبل القريب". "لكن بالنسبة للأشخاص ذوي فصائل الدم النادرة حيث لا يوجد سوى عدد قليل جداً من المتبرعين الآخرين، إذا تمكنا من إنتاج المزيد من الدم لهم، فسيكون ذلك أمراً مثيراً للغاية". نقلا عن موقع بي بي سي عربي.
تجنب الوصم
يمكن اكتشاف شخص يحمل فئة دم نادرة عن طريق الصدفة، أثناء إجراء فحص ما قبل نقل الدم أو أثناء حملة فحوص تشخيص. ويتم الاتصال عندها بأقاربه لأنه من المحتمل أن تكون لديهم فصيلة الدم نفسها.
وتُسجل احتياجات ملحة بشكل خاص على صعيد مرضى فقر الدم المنجلي، وهو مرض يصيب الدم بشكل أساسي، ويصيب الأشخاص من أصل أفريقي، ويتطلب عمليات نقل دورية.
تعاني ليتيسيا دوفوا (31 عاما) المنحدرة من جزر الأنتيل من هذا المرض، ولديها فصيلة دم نادرة، رغم تصنيفها ضمن فئة "بي +".
وقالت لوكالة الصحافة الفرنسية "منذ عامين رفض جسدي دما من فئة بي إيجابي لم يكن يتوافق تماما مع فئة دمي".
وأضافت الشابة -التي تدعم جمعيتها "دريباكير" المرضى- "يسبب مرض فقر الدم المنجلي مضاعفات في العظام، مع الحاجة إلى المزيد من العمليات الجراحية ونقل الدم. قدرتي على المشي تعود جزئيا إلى عمليات نقل الدم".
وتُعد مسألة فئات الدم النادرة قضية حساسة، ويمكن أن تفسح المجال لتفسيرات عرقية، وحتى عنصرية، تستنتج خطأ أن الدم بين السود والبيض غير متوافق.
وأكد شياروني "ضرورة تجنب وصمة العار. كل يوم لدينا سكان أوروبيون يتلقون دما من متبرعين من أصل أفريقي والعكس صحيح".
الخلاصة
تبرز فصائل الدم النادرة بوصفها مزيجًا معقدًا من الوراثة والبيئة والاحتياج الطبي، ومع أن الهندسة الوراثية تقدّم وعودًا مستقبلية، فإن الاعتماد على المتبرعين سيظل أساسًا لإنقاذ حاملي الفصائل النادرة. ويظل الوعي العام، وتوسيع قاعدة المتبرعين، وتجنّب أي ربط خاطئ بين الفصائل والأعراق، عناصر لا يمكن الاستغناء عنها لضمان سلامة المرضى حول العالم.