الماء ضروري للحياة

د. مازن سلمان حمود

2025-10-26 12:16

الحديث الشائع عن ضرورة شرب ثلاث لترات من الماء يومياً تحوّل مع مرور الزمن إلى ما يشبه “وصية صحية” تُردد دون تمحيص، بينما أصل الفكرة مختلف تماماً.

ففي منتصف القرن العشرين، حين أصدرت لجنة الغذاء والتغذية الأمريكية تقديراً لحاجة الإنسان اليومية من الماء، ذكرت بوضوح أنّ مجموع ما يحتاجه الجسم يقارب لترين ونصف إلى ثلاث لترات، لكن الجزء الأكبر من هذه الكمية يأتي من الطعام نفسه: من الخضروات والفواكه والحساء وسائر الأغذية الغنية بالماء. غير أنّ هذه الإضافة الجوهرية ضاعت مع الزمن، وبقيت العبارة مبتورة لتُفهم على أنها إلزام لكل إنسان أن يشرب ثلاث لترات من الماء الصافي كل يوم.

العلم الحديث أكثر دقة ورحابة من هذا التبسيط. التوصيات الأوروبية والأمريكية تضع مدى تقريبياً لا قاعدة جامدة: حوالي لترين للنساء، وحوالي لترين ونصف إلى ثلاثة للرجال، وهذا يشمل كل ما يدخل الجسم من ماء عبر الطعام والشراب معاً، إضافة إلى ما يُنتج في التمثيل الغذائي الداخلي (حوالي ٢٥٠مل). والواقع أنّ الحاجة تتغيّر بشكل واسع وفق النشاط البدني والجو والمجهود العضلي والعرق، فلايُقاس الإنسان القاعد في مكتب مكيَّف على العامل تحت شمس الصيف أو الرياضي في مضمار الجري.

الجسم نفسه يمتلك جهازاً معقداً لضبط العطش وإفراز الهرمونات المنظمة للماء والأملاح. هذه المنظومة تعمل بدقة مدهشة لتحافظ على تركيز الصوديوم والأسمولالية في الدم ضمن نطاق ضيّق. فإذا بالغ الإنسان في شرب الماء أسرع مما تستطيع الكلية طرحه (٣ - ٤ لتر في ساعة أو اثنين) وقع فيتسمم الماء، وهو نقص خطير في الصوديوم قد يؤدي إلى تشنجات أو غيبوبة. وإذا أهمل عطشه وقع في الجفاف وما يصاحبه من خلل في الوظائف الحيوية.

النصيحة العلمية الواضحة إذن ليست في ترديد رقم ثابت يُطبق على الجميع، بل في الاستجابة لآلية العطش الطبيعية، ومراعاة الظروف الخاصة لكل شخص. ولمن يريد مؤشراً عملياً سهل الفهم: لون البول هو العلامة الأدق في الحياة اليومية، فإذا كان بلون أصفر فاتح فذلك دليل على توازن جيد، وإذا صار داكناً دلّ على حاجة إلى المزيد من الشرب.

إنّ الاعتدال هو القاعدة الذهبية. فلا الانسياق وراء شعار “ثلاث لترات للجميع” يعكس حقيقة العلم، ولا تجاهل الحاجة الفعلية للجسم يُعتبر حكمة. العلم يقول بوضوح: اشرب حين تعطش، زد بقدر مجهودك وحرارة بيئتك، واجعل ميزانك هو وعيك بلون البول وبإشارات جسدك. هذه هي النصيحة القائمة على الدليل، البعيدة عن الإفراط والتفريط.

* ماجستير تغذية علاجية—جامعة لندن

ذات صلة

مركز المستقبل ناقش.. التعاون السعودي الباكستاني وتحولات الردع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسطوهم الانتصار: حين يصنع المرشح هالته من سرابالمزاح في الميزان.. تربية للنفس أم عبث بالقيم؟الانتخابات بين الطموح الديمقراطي والتحديات البنيويةمن الاغتراب إلى التشيّؤ الاغترابيّ في منظور كارل ماركس