خلايا مناعية تستخدم هرمونات الجوع لتعزيز التئام الجروح

دورية Nature

2023-03-22 07:48

بقلم: فيشوا ديب دِكْسِيت

لطالما اعتقد العلماء أن الخلايا المناعية المعروفة باسم الخلايا الأحادية، تسهم في قتل البكتريا التي تغزو الجسم. غير أن دراسة عن كثب لهذه الخلايا كشفت أنها تلعب دورًا غير متوقع؛ إذ تشترك مع أحد الهرمونات، في تحسين التئام الجلد، إثر العدوى البكتيرية.

يؤدي إفراز خلايا المعدة لهرمون يُعرف باسم الجريلين، إلى تحفيز الشعور بالجوع1، بينما يعمل هرمون اللبتين، الذي تطلقه الخلايا الدهنية، على جعل منطقة تحت المهاد في الدماغ تثبِّط الإقبال على تناوُل الطعام. ويُعدُّ فقدان الشهية العرض الأكثر شيوعًا بين الأعراض التي تقترن بالحمى والالتهاب اللذين تحفزهما حالات العدوى. وتحتاج أجهزة الجسم المناعية والعصبية والأيضية إلى التواصُل فيما بينها عن طريق المستقبِلات، والهرمونات، وجزيئات تأشير معروفة باسم السيتوكينات4، بهدف تنسيق شن استجابة مناعية ناجعة ضد العدوى، والعودة بالجسم إلى أداء وظائفه بصورة طبيعية في نهاية المطاف، لكن ما إشارات التعافي التي تتحكم في التئام الأنسجة وإصلاحها بعد العدوى؟ للإجابة عن ذلك السؤال، تفيد الباحثة رايتشيل كراتوفيل وفريقها البحثي في بحث نشر مؤخرًا بدورية Nature، بأن علاقة بين الهرمونات والخلايا المناعية تنشأ خلال عملية التئام الجروح، وهي علاقة لم يشتبه العلماء في وجودها سابقًا.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن استئصال شأفة العدوى البكتيرية عبر الخلايا المناعية يتطلب شن استجابة مناعيةً قوية مسببة لالتهاب. يلي ذلك، إنتاج عناصر تحفز التئام الأنسجة التالفة وإصلاحها. ولطالما ركزت البحوث في هذا المجال، على دراسة إنتاج السيتوكينات المعززة للالتهابات أو المقاومة لها، والتي تستطيع أن تتحكم في نشاط الخلايا المناعية المحاربة للعدوى، وتحفز إصلاح الأنسجة، بتنشيط الخلايا اللُحْمية. وقد ظهر اتجاه بحثي جديد يستهدف دراسة الآلية التي تؤثر بها مجموعة من الجزيئات الأخرى، مثل نواتج الأيض، والهرمونات، والنواقل العصبية6، على عملية التعافي من الالتهاب وعلاجه. فالوقوف على مثل هذه العوامل التي ترمم الأنسجة، يمكن أن يتيح التصدي على نحو أفضل لحالات العدوى، ولاستجابات الجسم المعنية بإصلاح الأنسجة التالفة في الأشخاص المعرضين لخطر العدوى، مثل كبار السن، أو من يعانون أمراضًا أيضية مرتبطة بالسمنة.

وتُعد ندرة المنظومات التجريبية القادرة على محاكاة حالة المرض والتعافي، من العقبات الرئيسية التي تواجه السعي إلى اكتشاف العوامل الضرورية لالتئام الجروح. إذ يحتاج الباحثون إلى نموذج حيواني قريب إكلينيكيًا من البشر، يُجسِّد آليات الأمراض المعدية، ويمكن من خلاله مراقبة سلوك الخلايا المناعية محل البحث، ودراستها، خلال عمليات إصلاح الأنسجة التالفة. وسعيًا إلى التغلب على هذه المشكلة، ابتكرت كراتوفيل وفريقها البحثي نموذجًا يُغلَّف فيه بعض الخرز ببكتيريا المكورة العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus، ويخترق جلد فئران، على غرار الطريقة التي تغزو بها البكتريا عادةً الجسم محمولة على جسم غريب، كشظية حادة، على سبيل المثال. ومن خلال ذلك، تبين أن العدلات، التي تُعد أولى الخلايا المناعية التي تتصدى للعدوى، تنساب عبر الجلد، حيث تعمل على ابتلاع البكتريا، بينما تُحشد من الأوعية الدموية خلايا مناعية من نوع آخر، هي الخلايا الأحادية، لمحاصرة موضع نشوء العدوى.

وقد وجد الفريق البحثي أن عدم حشد الخلايا الأحادية إلى موضع غزو البكتريا للجسم، تصاحبه ظاهرة غير متوقعة؛ اقترن فيها ارتفاع عدد الخلايا الدهنية التي أمكن رصدها في طبقة الأدمة بالجلد بقصور في عملية إصلاح الأنسجة. ومن المعروف أن هذه الخلايا الدهنية في أدمة الجلد، تشارك في استجابة الجسم الدفاعية ضد الغزو البكتيري، وتسيطر على تفشي العدوى البكتيرية التي تصيب الجلد، من خلال إنتاج ببتيدات مضادة للميكروبات7. إضافة إلى ذلك، يلعب هرمون اللبتين، الذي تفرزه الخلايا الدهنية، دورًا في تحفيز التئام الجروح، وتعزيز نمو الأوعية الدموية8. وتثير نتائج تجارب كراتوفيل وفريقها البحثي، تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخلايا الدهنية المحتشدة، تفرز عناصر تُفاقِم تلف الأنسجة في غياب الخلايا الأحادية.

بحثًا عن إجابة لهذه التساؤلات، قيَّمت كراتوفيل وفريقها البحثي مستويات عدة بروتينات تُفرَز في الجلد، يُعرف عنها تنظيمها لعملية التئام الجروح، وعملية تَكوُّن الأوعية الدموية (نشوء الأوعية). وقد وجد واضعو الدراسة أنه من بين مستويات البروتينات تلك التي درسوها، كانت مستويات بروتين اللبتين وحده هي التي شهدت ارتفاعًا في الجروح غير الملتئمة عند موضع العدوى لدى الفئران التي افتقرت إلى الخلايا الأحادية. كذلك أفاد الفريق البحثي بأن كبح التعبير عن اللبتين بموضع العدوى لدى الفئران التي افتقرت إلى الجين Ccr2، يحد فرط نمو الأوعية الدموية، في حين أن ارتفاع مستويات هذا البروتين، عن طريق حقنه داخل الجلد، أنتج تأثيرًا محاكيًا لتزايد نمو الأوعية الدموية، في الجروح غير الملتئمة. وفي نموذج الإصابة بالعدوى الذي لم تُحشد فيه الخلايا الأحادية إلى الجلد، استطاعت الفئران التي لم توجد لديها مستقبلات للبتين على جدران أوعيتها الدموية، أن تنجو من تشوهات الأوعية الدموية، وهو ما يشير إلى أن اللبتين يؤثر في الخلايا الطلائية المبطنة للأوعية الدموية. ويدل ذلك أيضًا على أن الخلايا الأحادية تفرز عنصرًا يؤثر في الخلايا الدهنية للجلد، بهدف التحكم في إنتاج اللبتين وتنظيم تأثيره.

ومن ثم، انتقل الفريق البحثي إلى استكشاف الدور الذي يلعبه هرمون الجريلين، الذي تفرزه الخلايا الأحادية، في جلد الفئران المصابة بالعدوى. ووجد الفريق أن تأثير الجريلين يعاكس تأثير اللبتين، من خلال تحفيز شعور بالجوع. فهل تستطيع الخلايا المناعية، كبديل، أن تُسخِّر جزيئات الجريلين للتحكم بدقة أكبر في عملية إصلاح الأنسجة التالفة؟ تدل الدراسات السابقة على أن الجريلين يتم التعبير عنه في الخلايا المناعية، وأن ارتفاع مستوياته يحمي الأنسجة من الالتهاب، ومن حالة مرضية مصاحبة له، تُعرف باسم تعفن الدم9. وهو ما يتسق مع ما كشفت عنه نتائج الفريق البحثي. إذ تبين أن إعطاء الجريلين للفئران التي تعاني نقصًا في الخلايا الأحادية، يكبح تأثيرات اللبتين الضارة، المتمثلة في فرط نمو الأوعية الدموية.

كذلك أدى تلقي علاج قائم على الجريلين إلى تحَسُّن التئام الجروح، في الفئران التي احتفظت بالخلايا الأحادية في جلودها بعد الإصابة بالعدوى. ومن الجدير بالملاحظة، أن واضعي الدراسة برهنوا أيضًا على أن التئام الجروح يتأخر، في الحيوانات المصابة بالعدوى التي تفتقر خلاياها المناعية إلى الجريلين. وتشير هذه الاكتشافات، إلى أنه في هذه النماذج الحيوانية لفئران مصابة بعدوى جلدية، لعب اللبتين والجريلين أدوارًا متعاكسة في تنظيم استجابة الجسم المناعية الالتهابية.

وسيكون من المثير للاهتمام أن تركز الدراسات القادمة على اكتشاف الكيفية التي تُطلِق بها الخلايا الأحادية هذه الاستجابات المُبرمَجة لترميم الأنسجة في الجلد المصاب بالعدوى. ولعل هناك آلية متعددة الجوانب، تقف وراء الكيفية التي تؤدي بها استجابة الجسم بإفراز الجريلين إلى تعويض تأثيرات هرمون اللبتين في الجلد. وما زلنا لا نعرف ما إذا كان هرمون الجريلين يؤثر في الخلايا الدهنية الأدمية، لتنظم إفراز اللبتين، أم لا، أو ما إذا كان هذا الهرمون ينشط مستقبلاته على خلايا الأوعية الدموية، لإضعاف إشارات التعبير عن اللبتين. كذلك نجهل ما إذا كان الصوم، الذي يرفع مستويات الجريلين ويخفض تركيز اللبتين في الدم2،1، يمكن أن يعزز تأثيرات الخلايا المناعية المُجددة للخلايا، أم لا.

إن اكتشاف كراتوفيل وفريقها البحثي لدور الإنتاج الموضعي للجريلين المُفرز من الخلايا الأحادية كنظام تأشير يطلق عمليات إصلاح الأنسجة التالفة، يُعد إسهامًا بالغ الأهمية في هذا المجال. وتُعد هذه الاكتشافات بالغة الأهمية فيما يتصل بحالات السمنة، التي يرتبط فيها تجاوُز اللبتين لمستوياته الطبيعية (أو ما يُعرف بفرط إنتاج اللبتين) بارتفاع خطر الإصابة بالعدوى، وقصور الرقابة المناعية وإصلاح الأنسجة6. وتتسق النتائج التي خرجت بها دراسة كراتوفيل وفريقها البحثي، مع الأفكار القائمة القائلة بأن الجهاز المناعي والجهاز الأيضي، ليسا مستقلين تمامًا عن أحدهما الآخر، بل يمكن أن تتضافر وظائفهما، وأن يستخدما عناصر مناعية أيضية مشتركة بينهما، اعتُقد فيما مضى أنها تؤثر في كل منهما وحده، للمساعدة في إصلاح الأنسجة وتجديدها.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي