هل تقدم البكتيريا المعوية مفتاحًا لتعزيز علاجات السرطان؟

دورية Nature

2022-08-20 06:35

بقلم: جين إردمان

يتذكر زيون ليفاي الحماس الذي غمره هو وابنته في عام 2019 يوم كانا يتفحصان صور أشعة طبية ويشاهدان نقاطًا سوداء صغيرة تمثل الخلايا التي هاجر إليها ورم ميلانيني (سرطان الخلايا الصبغية)، وهي تتضاءل رويدًا رويدًا إلى أن اختفت تمامًا. بيد أن الصور لم تكن تعرض لقطات من جسد ليفاي، حتى إنه لم يعلم لمن تعود تلك الصور، رغم أنه كانت له علاقة بها.

قبل ذلك بخمس سنوات تقريبًا، كان الأطباء قد شخصوا ليفاي بالإصابة بورم ميلانيني، لكن الورم كان في مرحلة خمود بفضل علاج مناعي قوي يُسمى «نيفولوماب» Nivolumab. وبالنظر إلى أنه أظهر استجابة جيدة لهذا العلاج، فقد طَلب منه الأطباء في مركز شيبا الطبي في حي تل هشومير بإسرائيل النظر في التبرع ببرازه وما يحويه من ميكروبات، علّه يساعد مرضى آخرين لم يستجيبوا للعلاج، أو أصبح السرطان في أجسادهم مقاومًا له. فوافق ليفاي على الخضوع لفحوص صارمة، وعلى سحب عينات من دمه، والإجابة عن استبيانات مفصلة عن أصناف الطعام التي تناولها أكثر من غيرها (وكانت إجابته أنها البيتزا). بعد ذلك، أعد ليفاي عينات البراز التي سيتبرع بها، وعبأها في مُبرِّد، ثم طلب سيارة أجرة، وفرّها له مستشفى المركز الطبي سالف الذكر. فكما هو الحال في أي عملية استزراع طبية، كان لوقت سفر العينات أهمية كبرى. وفي هذه الحالة، أراد الأطباء أن تصلهم العينات في أقل من 90 دقيقة.

وما إن وصلت العينات إلى المستشفى، بدأ العلماء في فحصها لمعرفة ما إن كانت تحوي جراثيم مُمْرِضة، أم لا. وأعقب ذلك تخفيفها، وجعلها متجانسة القوام، ثم وضِعَت في جهاز طرد مركزي، لغربلتها من أجل الحصول في نهاية المطاف على مَرَق بكتيري مُصفّى، يمكن تجميده وتعبئته في كبسولات. وقد دفع الحماس الشديد الذي أبداه ليفاي تجاه المشروع بِن بورسي، طبيب الأورام من مركز شيبا الطبي الذي قاد الدراسة، أن يرسل إلى ليفاي صور الفحوص الطبية مجهَّلة الهوية، والتي تعود لأحد من تبرع لهم الأخير بميكروباته. ومؤخرًا، كانت فترة تربو على ثلاث سنوات قد مضت، دون أن يظهر أثر للسرطان لدى ذلك المتلقي الذي أصبح بدوره متبرعًّا في تجربة مماثلة لعلاج الورم الميلانيني. ويشعر ليفاي بالرضا عن هذا الأثر الذي أحدثه، فيقول: "أشعر بفخر شديد لأنني استطعت إنقاذ حياة بعض الأشخاص، وأود القيام بذلك مجددًا".

كانت هذه الدراسة الإسرائيلية، وأخرى أجراها باحثون في الولايات المتحدة2 أول دراستين من نوعهما تعتمدان على استزراع ميكروبات البُراز (FMT) لتهيئة المرضى للحصول على استجابة أفضل للعلاجات المناعيّة، وهي عقاقير شديدة القوة مضادة للسرطان تطلق العنان لأسلحة الجهاز المناعي البشري ليهاجم الأورام السرطانية. وقد عادت هاتان الدراستان، المنشورتان العام الماضي في دورية «ساينس» Science، بنتائج متواضعة، فمن أصل 26 مريضًا لم يستجيبوا للعلاج المناعي مسبقًا، أدى استزراع البراز إلى استجابة واحد من كل ثلاثة مرضى للعلاج. رغم ذلك، حظيت الدراستان باهتمام كبير.

في هذا الصدد، قالت بريندا ويلسون عالمة الأحياء الدقيقة من جامعة إلينوي في إربانا - شامبين: "رغم أن الدراستين شملتا عددًا قليلًا من المرضى، لم تخلُ أي منهما من فئة أتراب تغلَّبت على مقاومتها للعلاج. وأجد هذا رائعًا، لأنه يؤكد أننا نسير على الطريق الصحيح". ويرى ويلسون أن الخطوة التالية هي معرفة كيف نحدد أي المرضى سيستجيبون لهذا الإجراء، وأيهم لن يستجيب له.

واليوم، تُجري المختبرات الأكاديمية وشركات الأدوية حول العالم ما لا يقل عن 30 تجربة للعلاج باستزراع البراز. وقد بدأت نتائج هذه الدراسات تتدفق.

ويشير المزيد من الأبحاث إلى أن الميكروبيوم المعوي يمكن أن يؤثر سلبًا أو إيجابًا على زحف الأورام إلى أماكن أخرى بعيدة في الجسم، وأيضًا على الأعراض الجانبية للعلاجات المختلفة. وكذلك على قدرة الجهاز المناعي على استهداف الخلايا السرطانية والتخلص منها. كما أن بعض الأبحاث ربطت وجود بكتيريا بعينها بتحقيق آثار علاجية إيجابية، وهو ما قد يرشدنا إلى إعداد علاجات مخصصة. ويدرس العلماء الآن الدور الذي تلعبه الأنظمة الغذائية، والتنوع الحيوي للميكروبات المعوية، وكذلك يسعون إلى كشف التأثيرات المتبادلة بين الكائنات الدقيقة الموجودة في القناة الهضمية، وتلك الموجودة في الأورام. وهو ما قد يفتح لنا آفاقًا علاجية جديدة يمكن أن تستهدفها الأدوية.

بيد أن ترجمة ما سجله العلماء من مشاهدات إلى علاجات حقيقية قد لا يكون سهلًا. مع ذلك، عالج بورسي 30 شخصًا حتى الآن. ووفقًا لتقديراته، فعدد من خضعوا لاستزراع بُراز في أجسادهم كمكمل لعلاج السرطان في العالم، يتراوح بين 50 و100 شخص. ومع انطلاق دراسات جديدة، سيحتاج الباحثون إلى وضع استراتيجيات لتحديد أفضل المتبرعين، ولتوسيع نطاق جراحات الاستزراع تلك، مع جعلها أقل تكلفة.

لكن هذا لم يَنَل من عزيمة بورسي، وغيره من الباحثين. إذ يصِف هذا التوجه بأنه قد يفتح باب "عصر علم الأورام البيئي"، وهو العصر الذي سيرشدنا فيه الفهم الأفضل للأورام، ولأجسام المصابين بها، وللميكروبات الموجودة بها، وللجهاز المناعي، إلى إيجاد علاجات أفضل.

تجارب رائدة

تعود بدايات اهتمام بورسي بالعلاقة بين الأورام والبكتيريا إلى العام 2006. إذ عاد آنذاك من رحلة سير على الأقدام قبيل إنهاء دراساته الطبية، وذهنه مشغول بعُقد شبيهة بالأورام على الأشجار، تنتج أحيانًا عن رد فعل الشجرة لعدوى ما تعرضت لها. فبدأ يفكر في التأثيرات المتبادلة بين البكتيريا والأورام في جسم الإنسان، لكن زملاء فريقه البحثي أثنوه عن الفكرة. ويذكر أنهم قالوا له: "صب تركيزك على التأثيرات الوراثية عوضًا عن ذلك". رغم ذلك، فقد مضى بورسي ليجري الدراسات الوبائية التي كشفت وجود رابط بين السرطان والميكروبيوم، ودرس دور المضادات الحيوية في التأثير على فرص الإصابة بالسرطان. وكيف قد تُسبب الأنظمة الغذائية تغييرًا في ميكروبات الأمعاء.

بعد عشر سنوات، أخذ العلماء يشكِّلون تصورًا عن الميكروبيوم ككائن قد يتحوَّر في الصحة وفي المرض. وبدأت الصلة بينه وبين السرطان تحظى باهتمامهم. وتزامن هذا التوجه مع طفرة هائلة في الاهتمام بالعلاجات المناعية. وقد أحرزت هذه العلاجات نجاحًا ملحوظًا مع أنواع عديدة من الأورام السرطانية. بيد أنها ليست فعالة مع جميع المرضى؛ إذ لم تظهر استجابة طويلة الأمد لها إلا لدى نسبة تتراوح بين 15 و20% من المرضى.

وأخذت الأدلة الداعمة لدور الميكروبات في نجاح هذه العلاجات أو فشلها تتراكم في المؤتمرات المعنية بالسرطان، وفي كبرى الدوريات العلمية. فوفقًا لدراسة أجراها في عام 2015 توماس جاجيسكي طبيب الأورام من جامعة شيكاجو بولاية إلينوي الأمريكية وفريقه البحثي، وتكثر الإشارة إليها في هذا الصدد، أدى التوازن في ميكروبات القناة الهضمية لدى الفئران، إلى حسم ما إذا ما كانت ستستجيب لنوع معين من العلاج المناعي، أم لا.3 إذ إن مواءمة تركيب الميكروبيوم جعلتها تستجيب للعلاج بشكل أفضل. وفي عام 2018، خلصت ثلاث ورقات بحثية إلى نتائج مشابهة لدى مرضى مصابين بورم ميلانيني، عولجوا بمثبطات نقاط التنظيم المناعي، وهو نوع من العلاجات المناعية، يعمل بالدرجة الأولى عن طريق حث الخلايا المناعية المُعطلة على مهاجمة الخلايا السرطانية.4-6. ويبدو أن وجود جراثيم بعينها في الأمعاء، أو عدم وجودها يؤثر في احتمالية الاستجابة للعلاج.

من هنا، يجري حاليًا باحثون من جميع أنحاء العالم تجارب إكلينيكية لاستزراع البُراز. وهو إجراء أظهر قدرًا من الفاعلية في مساعدة المرضى الذين يعانون من تكرر الإصابة بعدوى بكتيريا المطثية العسيرة Clostridioides Difficile، وهي بكتيريا قد تسبب عدوى إسهال موهنة. وتُعد الأورام الميلانينية مثالية لاستهدافها بالتدخلات العلاجية المساعدة القائمة على استزراع البراز، بالنظر إلى شيوعها، وعدم استجابتها للعلاجات المناعية بالشكل المرجوّ إلا أحيانًا.

تعقيبًا على ذلك، يقول حسن زعرور، طبيب الأمراض الجلدية، وعالم أبحاث العلاجات المناعية المضادة للسرطان، من مركز هلمان للسرطان التابع للمركز الطبي في جامعة بِتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية: "هذا توجه لم يوجد في السابق، وبات يحظى بالثقة بعدما كان موضع شك".

قاد زعرور تلك الدراسة التي نشرت مع دراسة بورسي في دورية «ساينس» العام الماضي. ونجحت هذه التجارب الإكلينيكية الأولى مجتمعة في علاج 26 مريضًا إجمالًا. وألحقت الدراسة الإسرائيلية عشرة أفراد يعانون أورامًا ميلانينية في مراحل متأخرة من مرضهم، تابعت أورامهم انتشارها رغم خضوعهم لعلاج بمثبطات نقاط التنظيم المناعي. ومن بين هؤلاء المشاركين، تمكن ثلاثة فقط من التغلب على مقاومة السرطان للعلاج، التي انحسرت بشكل جزئي فقط لدى اثنين منهم. وبمحض الصدفة، كان ثلاثتهم قد خضعوا لعلاج باستزراع عينات البراز التي تبرع بها ليفاي. بينما لم يستجب للعلاج خمسة مشاركين تلقوا عينات من متبرع آخر، تعافى بدوره من السرطان.

أما الدراسة الأمريكية، التي أجراها المركز الطبي لجامعة بِتسبرج بالتعاون مع المعهد القومي للسرطان في بيثيسدا بولاية ماريلاند، فقد ألحقت 16 مريضًا مصابين بأورام ميلانينية هاجرت إلى مواضع أخرى، واستمر انتشارها رغم العلاجات المناعية. واستعانت هذه الدراسة بسبعة متبرعين أبدوا استجابة طويلة الأمد للعلاج المناعي المضاد لورمهم الميلانيني. ومن بين من خضعوا لاستزراع البراز البالغ عددهم 16 شخصًا، أبدى ستة أشخاص استجابة للعلاج، وكانت هذه الاستجابة تامةً في ثلاثة منهم. بيد أن الدراسة لم تتوصل إلى أي أدلة واضحة على أن البراز من متبرع بعينه كان أقل أو أكثر نفعًا من ذاك الذي أتى من متبرعين آخرين.

بيد أن العلماء حتى هذه اللحظة لم يكتشفوا ماهية "البراز النافع"، أي ما يُشكل مادة عينات البراز المتبرع بها التي تحفز استجابة فعالة مضادة للسرطان. وذلك وفقًا لديفيد بيناتو، استشاري طب الأورام، ورئيس البرنامج البحثي لتطوير العلاجات من جامعة إمبريال كوليدج لندن، الذي أضاف قائلًا: "عليك أن تعرف ما إذا كان العلاج الذي تعطيه للمريض يحدث فاعلية موضعية. ففي نهاية المطاف، قد تكون فاعليته مثل العقاقير الوهمية".

أتت الدراسات بنتائج متعارضة عن نوع الميكروبات الأهم في هذا العلاج. فرغم وجود رابط وثيق بين التنوع الحيوي للميكروبيوم والتمتع بصحة جيدة، كانت الميكروبات في العينات التي تبرع بها ليفاي أقل تنوعًا من نظيراتها في الميكروبيوم الذي استخدمته الدراسة الإسرائيلية، إلا أنها بدت أكثر نفعًا.

حول ذلك، تقول جينيفر وارجو، طبيبة الأورام من مركز إم دي آندرسون للسرطان في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، والمؤلفة المشاركة في الدراسة الإسرائيلية: "يجب في النهاية أن نتوصل إلى سر الوصفة، أي خليط الجراثيم ذات الصفات الوظيفية المرغوبة التي تستطيع أن تحفز الاستجابة المناعية وتعزز الصحة إجمالًا". بيد أن الوصول إلى التركيبة المثالية قد يكون مستحيلًا، فتركيب الميكروبيوم يختلف اختلافًا شاسعًا بحسب العِرق، والبقعة الجغرافية، والنظام الغذائي المتبع، وفقًا لما أفاد به ألكساندر كُورَتْس، طبيب أمراض الجهاز الهضمي، والمدير الطبي لبرنامج العلاجات الميكروبيومية من جامعة مينيسوتا في منيابولس.

وقد نشر الفريق الذي أجرى التجربة الأمريكية بالتزامن مع دراسته، ورقة بحثية أخرى في دورية «نيتشر ميديسن» Nature Medicineفي مارس الماضي، تهدف إلى الوقوف على الكائنات الدقيقة المرتبطة بفاعلية العلاج أو عدم فاعليته. وإلى اختبار ما إذا ما كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على المساعدة في تحديد ما يناسب كل مريض من العينات المُتبرع بها7. ففي الوقت الراهن، لا يعرف العلماء على وجه الدقة ما إذا كان المتعافون من السرطان يمتلكون ميكروبيومًا يعج بالميكروبات الضارة، لكن جهازهم المناعي جيد أم العكس، على حد ما أفاد به أميران دزوتسيف، اختصاصي علم المناعة من المعهد القومي للسرطان، وأحد واضعي الدراسة الرئيسيين.

وفي دراسة أحدث، عمد فريق كندي إلى استخدام براز استُزرع، وجُمع من متبرعين لم يصابوا بالسرطان من قبل، لاختبار قدرته على درء مقاومة العلاج المناعي لدى من لم يتلقوه بعد. وقد عرض الفريق نتائج تجاربه، التي لا تزال في مراحلها الأولى في شهر يونيو الماضي، في اجتماع للجمعية الأمريكية لطب الأورام الإكلينيكي، عُقد في شيكاجو. وتعليقًا على ذلك، يقول سامان ماليكي اختصاصي علم المناعة من الجامعة الغربية بلندن في كندا، والمشرف على فريق شارك في التجربة، إن المقاومة الأولية للعلاج هي أكبر مشكلة يواجهها هذا المجال. وقد شارك في الدراسة 20 شخصًا من جميع أنحاء كندا عانوا أورامًا ميلانينية وكانوا في مرحلة متأخرة من مرضهم. وبعد خضوعهم لاستزراع البراز وتلقيهم العلاج المناعي، أظهر ثلاثة منهم استجابة تامة للعلاج، فيما أبدى 13 فردًا استجابة جزئية، بينما استمر انتشار المرض بصورة مطردة لدى ثلاثة أفراد، توفي أحدهم من جراء ورمه الميلانيني في نهاية المطاف.

ولا تزال تلك بيانات مبدئية8، لكن ماليكي مسرور بما توصل إليه فريقه حتى الآن، إذ يقول: "لم نخلُص من تلك الدراسات بمؤشرات على أمان هذا الإجراء وحسب، إذ اكتشفنا أيضًا مؤشرات أوليةتوحي بأن العلاجات الميكروبيومية قادرة على زيادة فاعلية العلاجات المناعية".

في هذا الإطار، زينب إروجلو طبيبة الأورام، من مركز موفيت لعلاج السرطان في تامبا بولاية فلوريدا الأمريكية، توضح أن معدل الاستجابة للعلاج في هذه الدراسة لم يزد إلا بقدر ضئيل عن معدل الاستجابة للعلاجات المناعية وحدها. فعادةً، يُبدي قرابة 40% ممن يواجهون مراحل متقدمة من انتشار الأورام الميلانينية قدرًا من الاستجابة للعلاج المناعي. بيد أنها أضافت قائلة: "أحيّي الباحثين على محاولتهم جعل هذا الإجراء من عناصر الخط الأول في علاج الأورام الميلانينية النقيلية". وتضيف أن إقناع الأفراد بتجربة الخضوع لعلاج باستزراع البراز قبل الخضوع للعلاج المناعي لن يكون سهلًا. واختتمت حديثها قائلة: "سيكون من الشيق متابعة ما ستخلص إليه هذه الدراسات".

التلاعب ببيئة معقدة

وتقول وارجو إن تحديد أفضل براز للتبرع به قد لا يعتمد على ما يحويه من ميكروبات، وإنما على سلوك تلك الميكروبات. من هنا، يقول كورتس إن فحص نواتج أيض البكتيريا محوري لتحديد خصائص مثل هذه العلاجات، وهذا بدوره قد يغيّر طريقة إعطائها.

كذلك يجب الالتفات إلى أمر آخر، وهو ميكروبيوم الورم نفسه. إذ يشكل قرابة 25% من بيئة الورم. وقد يُحفِّز المناعة ضد الورم أو يُعطلها. وقد بينت الأبحاث التي أجراها في السنوات القليلة الماضية رافيد شتراوسمان، عالم بيولوجيا السرطان من معهد وايزمان للعلوم في رحوفوت بإسرائيل، أن الميكروبات الموجودة في الأورام قد تسهم في خلق مقاومة للعلاج الكيماوي. كما تمكن شتراوسمان، وفريقه البحثي، من اكتشاف أنواع بكتيرية معينة داخل خلايا الأورام.

ويذكر بورسي أن الميكروبات تنتقل إلى الأورام من أماكن عديدة في الجسم، تشمل الأمعاء وتجويف الفم، ومجرى الدم، بناءً على نوع السرطان. وهنا، تقول فلورينسيا ماكآليستر، طبيبة الأورام من مركز إم دي آندرسون للسرطان: "نعتقد أن ثمة مصادر مختلفة لهذه الميكروبات. وقد عرفنا ذلك عن طريق مقارنة الورم مع الأنسجة المجاورة له، ومع ميكروبيومات الأمعاء والفم في المريض ذاته". وقد بدأ باحثون مؤخرًا في مراقبة الإشارات المشتركة بين الميكروبات في الأورام وتلك الموجودة في الأمعاء، لمعرفة ما إن كانت تؤثر على بعضها البعض، والوقوف على شكل هذا التأثير.

وقد بدأت بعض الدراسات في إيجاد حل لتلك التعقيدات. على سبيل المثال، درست ورقة بحثية نُشرت في دورية «سِل» Cell في عام 2019، حالات مرضى يعانون سرطان البنكرياس الغُدِّي، وهو سرطان يتسم بوجه عام بضعف فرص نجاة المصابين به. وقد جاء المشاركون في الدراسة من منطقتين مختلفتين جغرافيًا، هما بالتيمور وهيوستن11. ووجدت الدراسة أن من أظهروا استجابة طويلة الأمد للعلاج بالبقاء على قيد الحياة لخمس سنوات أو أكثر، كانت الميكروبات في ميكروبيوم الورم لديهم أكثر تنوعًا ممن عاشوا لفترة أقل من خمس سنوات. وبدا للفريق الذي أجرى الدراسة أن بعض الميكروبات في أورام هؤلاء المرضى أتت من القناة الهضمية. كما تبين أن استزراع البراز من متعافين أظهروا استجابة طويلة المدى، أسهم في تأخير نمو الأورام في فئران مصابة بسرطان البنكرياس، وعزز أداء الخلايا المناعية لدى هذه الفئران.

ويُجري الفريق الآن تجارب إكلينيكية لاختبار فاعلية هذه الأفكار لدى تطبيقها في حال أشخاص يعانون سرطان البنكرياس. وفي ذلك السياق، تقول ماكآليستر، وهي الباحث الرئيس في الفريق الذي اضطلع بوضع الورقة البحثية المنشورة في دورية «سِل»: "نريد أولًا أن نتحقق من إمكانية استزراع مجهريات بقعة معوية مستقرة، ومن إمكانية الحفاظ عليها مع مرور الوقت". ويُزمع أن تعمل الدراسة على المدى البعيد على تقصي ما إذا ما كان تغيير تركيب ميكروبات الأمعاء، عن طريق استزراع البراز سيحدث تغييرًا مباشرًا في الميكروبات الموجودة في الورم.

ولا يزال الغموض يكتنف مدى تأثير الأنظمة الغذائية على الميكروبيومات المستزرعة. وتُعد هذه أصغر مساحة تناولتها الدراسات. فيقول كُورَتْس إن أكثر سؤال يطرحه من خضعوا لعلاجات باستزراع البراز للتصدي لعدوى بكتيريا المطثية العسيرةيتعلق بنوع الطعام الذي ينبغي لهم تناوله بعد هذه الجراحة. ويجيبهم كُورَتْس بأن عليهم الحد من تناوُّل الأطعمة المصنعة، والتوجه إلى نظام غذائي نباتي، لأن الميكروبات المعوية النافعة تميل إلى استهلاك الكربوهيدرات المركبة.

وترى كريستين سبنسر، مديرة نظم المعلومات من مؤسسة باركر للعلاج المناعي المضاد للسرطان في مدينة سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، أن الدراسات الوبائية بمختلف أنحاء العالم بيّنت أن الأنظمة الغذائية تؤثر في خصائص الميكروبيوم المعوي أكثر مما تؤثر بها الجينات. وسبنسر هي الباحث الرئيس بين واضعي ورقة بحثية لدراسة أُجريت في العام 2021، خلصَت إلى أن المرضى المصابين بالأورام الميلانينية ممن يتبعون أنظمة غذائية غنية بالألياف، تكون احتمالية استجابتهم للعلاج المناعي أفضل من غيرهم، بينما ارتبطت المعززات الحيوية الجاهزة المتاحة في الأسواق بنتائج أسوأ.

التخفيف من الأعراض الجانبية السامة

تطوع أمنون شاني، بعد تشخيصه بورم ميلانيني خبيث في العام 2017، كمشارك في تجربة إكلينيكية لاختبار فاعلية دواء «بيمبروليزوماب» Pembrolizumab، الذي ينتمي لعائلة من مثبطات نقاط التنظيم المناعي، وهو دواء يتكون من أجسام مضادة تعمل على تعطيل بروتين تعتمد عليه الخلايا السرطانية للاختباء من خلايا الجهاز المناعي. وسرعان ما سيطرت الأعراض الجانبية للدواء على حياته، فحدَّ التهاب المفاصل من قدرته على أي حركة، حتى اضطر إلى التوقُّف عن لعب التنس. وخلال فترة زمنية لم تتجاوز عامين، نُقل إلى أحد المستشفيات ست مرات، إثر جفاف ناتج عن إسهال شديد. أما هجرة الخلايا السرطانية لديه، فتضاءل نطاقها، لكنها لم تختفِ تمامًا.

"آخر ما أمكن أن أتخيله بعد كل هذه المعاناة التي مررت بها هو أن أتناول براز شخص آخر".

وعن تلك الفترة يقول شاني، وهو جراح فم في نس زيونا بإسرائيل: "لم تكن تلك أوقاتًا سارة، لكن لم أحسب قط أن لدي خيارًا آخر. كان هذا واقعيْ الذي أعيشه".

وبعدها، أي قبل سنة ونصف تقريبًا، أرسل إليه طبيبه يقترح عليه تجربة الخضوع لعلاج باستزراع البُراز مع جولة جديدة من العلاج المناعي. وقد صُدم شاني أول الأمر. ففي ذلك الصدد، يقول: "آخر ما أمكن أن أتخيله بعد كل هذه المعاناة التي مررت بها هو أن أتناول براز شخص آخر".

لكنه لم يتردد طويلًا، فوقع على نموذج يقر فيه بالموافقة على المشاركة في التجربة. وكان ذلك خلال فوضى جائحة «كوفيد-19». ثم خضع لدورة علاج باستزراع البُراز باستخدام المنظار، وهو إجراء صار يخافه ويمقته. وأعقبت ذلك جرعتان أخريان، كل منهما تتكون من 32 كبسولًا بحجم زيتونة، كان شاني يطلق عليها «مناطيد زيبلن». وكان عليه أن يبتلعها جميعًا في جلسة واحدة. ثم عاود تلقي العلاج المناعي. وبدا أن العلاج أكثر كفاءة الآن. وفي شهر مايو الماضي، جاءت آخر صور فحوص الأشعة المقطعية بالإشعاع البوزيتروني التي أُجريت له، خالية تمامًا من الورم.

وقد جاءت عينة استزراع البراز التي تلقاها شاني من الشخص الوحيد الذي أحرز استجابةً تامةً للعلاج في التجربة الإكلينيكية الأولى. وهو ما يعني أن شاني يمثل الجيل الثاني من متلقيي عينة ليفاي. وعلاوة على فاعلية ذاك العلاج المناعي، فقد خفّت الأعراض الجانبية التي عاناها شاني، وهو ما أشعره براحة كبيرة.

ببتيدات بكتيرية تكشف الأورام للخلايا التائية

واحتمالية تخفيف الأعراض الجانبية العنيفة التي تصاحب العلاج المناعي عن طريق تغيير تركيب مجهريات البقعة المعوية تفتح باب أمل كبيرًا للباحثين. وفي الوقت الحالي، يجري اختبار فاعلية العلاج باستزراع البراز في دراسات أولية، في مركز سلون كيتيرنج التذكاري للسرطان في نيويورك، وكلية طب جامعة منيسوتا، وفي مناطق أخرى، في أوساط مرضى يخضعون لعمليات زرع الخلايا الجذعية، وذلك لاختبار قدرة استزراع البُراز على علاج بعضٍ من الضرر الذي يَلحق بالميكروبيوم إثر دورات العلاج الكيماوي، والإشعاعي والمضادات الحيوية، في ذلك السياق، يقول كُورَتْس:" الأسباب الرئيسية للوفاة من جراء إصابات أخرى غير السرطان في مثل هذه الظروف هي العدوى، وداء الطعم ضد المُضيف".

نحو جهود أوسع نطاقًا

إذا انتشر العلاج باستزراع مجهريات البقعة في حالات السرطان، فقد يحد ذلك من قدرتنا على توفير المتبرعين المحدودة أعدادهم بالفعل، إذ إن قِلةً فقط من الراغبين في التبرع بعينات برازهم تصلح عيناتهم لهذا الغرض. فبين كل 40 شخصًا يفحصهم ماليكي، لا يجد إلا شخصًا واحدًا تصلح عيناته للتبرع بها. ويجب فحص هؤلاء تحسبًا لوجود عدوى بكتيرية أو فيروسية لديهم. وقد تسببت جائحة «كوفيد-19» في تعطيل بعض الدراسات لحين ابتكار فحوص ملائمة.

ورغم أن تجهيز عينات البراز ليس معقدًا، فالحاجة إلى الوقاية من تلوُّث العينات تجعل الباحثين قادرين على معالجة عينة متبرع واحدة فقط في كل غرفة يوميًا. ويقول كُورَتْس إن حتى أشد المَرافق الأكاديمية كفاءة، لن تكون على الأرجح قادرة على تلبية زيادة الطلب على هذه العينات. لذا، قد يستلزم هذا أن تتولى عمليات استزراع مجهريات البقعة مؤسسات تجارية أو مؤسسات أخرى غير هادفة للربح، ويعلل كورتَس لذلك قائلًا: "تنفيذ هذا على نطاق واسع يتطلب رأس مال كبير". وقد بدأت أولى المؤشرات على هذا التوجه في الظهور، إذ إن بعض التجارب الإكلينيكية تجريها الآن شركات.

ويرى زعرور أن استزراع البراز لعلاج السرطان قد يجمع في نهاية المطاف بين عدة تقنيات، تستخدم بكتيريا مستقاة من جسم الإنسان أو أخرى جرت هندستها مخبريًا. وتستلزم جهود كهذه الوصول إلى فهم أعمق للتعقيدات التي تنضوي عليها البيئات الميكروبية في السرطان.

من هنا، تقول كولين كيلي، طبيبة الجهاز الهضمي من جامعة براون في مدينة بروفيدانس في ولاية رود آيلاند الأمريكية، إن ظهور تقنيات جديدة لا يعني أنها ستكون بسعر يجعلها متاحة للجميع. وهناك بالفعل فوارق في قدرة الأشخاص على الوصول إلى علاجات للسرطان. وقد وجدت كيلي أن فرصة الأشخاص ذوي البشرة السوداء أو ذوي الأصول الإسبانية في تلقي العلاج باستزراع البراز، للتصدي لعدوى بكتيريا المطثية العسيرة أقل من فرصة البيض. وهي تبحث الآن ما إذا كانت تلك الفوارق ترجع إلى عدم تَوفر الرعاية الصحية، أم التكاليف، أم تعود إلى إجراءات إحالة المرضى لمرافق العلاج. وتخشى كيلي أن الوضع سيكون مماثلًا في حال استزراع البراز كجزء من خطط علاج السرطان، وتتوقع أن تكون العلاجات الجديدة له باهظة الثمن. ولا تزال التجارب تمضي قدمًا وتتوسع لتتناول أنواعًا أخرى من الأورام السرطانية، رغم عدم يقينية ما ستؤول إليه في النهاية. من هنا، يقول بورسي إن هذه الدراسات "ستغير نظرتنا نحو السرطان، وآليات دراستنا له. وفي النهاية، فستغيِّر الطريقة التي نعالجه بها".

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي