الاسلام السياسي بين الدولة والسلطة- تسطيح الوعي وتحريف قُدرات الجماهير
قراءة على ضوء أفكار الامام الشيرازي
محمد علي جواد تقي
2015-11-01 04:16
كل انسان يتوفر على مجموعة من القدرات تمكنه من تحقيق اهداف عديدة في حياته، يكتسبها وينميها في ذاته، وهي من جملة النعم الإلهية على الانسان، حيث أعطاه العقل والارادة، من خلالها يبلور هذه القدرات ويعطيها الهوية والاتجاه المطلوب.
وقد حدد العلماء القدرة على نوعين: القدرة السلبية والقدرة الايجابية. فالنوع الاول؛ يتجسد في حالة المقاومة والدفاع عن النفس وإثبات الوجود. أما النوع الثاني؛ فانه يمكن تعريفه بانه القدرة البناءة أو "التأثير في الاشياء". وكلما تقدمت الانسان بقدراته في الحياة، كلما كان اكثر مَنَعة من جهة، و اكثر تأثيراً على الواقع من جهة اخرى. وهذه تحديداً ما نلاحظه في الشعوب والأمم المتقدمة التي تحرص على تحقيق التوازن بين القدرتين؛ فهي تحصّن حدودها الثقافية، فضلاً عن حدودها الجغرافية، وما يستتبع ذلك من أمن اقتصادي وسياسي واجتماعي، عن التأثيرات الخارجية، وفي نفس الوقت تهتمّ في إعداد المشاريع والخطط الكفيلة بالتأثير على الآخرين، من منطلق "اغزوهم قبل أن يغزوكم....". كما جاء في الحديث الشريف.
تسطيح الوعي لتحقيق الطاعة العمياء
هذا المستوى المتقدم من الدول تطمح اليه الشعوب التي يحكمها "الاسلام السياسي" نظراً للمبادئ والافكار التي تحملها هذه التجربة السياسية الحديثة في العالم، بيد ان المشكلة تبدأ من تحول هذه التجربة من حالة البناء الانساني والعمراني، ثم الحضاري، الى البناء السياسي – السلطوي البحت، لذا يكون الحديث عن القدرة الانسانية، او تنمية قدرات افراد المجتمع، مدعاة للتقاطع والتصادم مع المصالح السياسية، لان ببساطة؛ توفر القدرات في مساحة واسعة من المجتمع، كأن تكون في شريحة الشباب وطلبة الجامعات وعلماء الدين والتجار والمثقفين، يعني حضوراً متساوياً في الساحة، ومشاركة واعية ومؤثرة في شؤون الدولة والحكم، وهو ما يحلم به الكثيرون! ولكن حتى مجرد، السعي الى هذا الهدف، يمثل تهديداً ماحقاً لأهل الحكم وطلاب السلطة، لذا فهم يفكرون في الطريقة التي ينتزعون هذه القدرات واحتكارها لهم وحدهم لتحقيق الهدف المنشود لهم وهو؛ فرض حالة "الطاعة" في المجتمع، وهو ما نلاحظه يحصل بكل سهولة في بلادنا، فما السبب في ذلك؟
سماحة المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه- يسلط الضوء على هذه القضية في كتابه "الفقه السياسة" بان "الطاعة لأحد سببين: أما لجلب النفع أو لدفع الضرر، لكن تزايد القدرة في جانب الآمرين، وتزايد الطاعة في جانب المطيعين، ناشئ عن جهل المطيعين بقدراتهم الحقيقية". ولسماحته تفصيل في هذا المجال، لسنا بوارد التطرق اليه، حيث يشير الى التقسيم العادل للقدرات بين الدولة والمجتمع، بما يحقق العدالة الكاملة ويمحو الظلم من وجه المجتمع والشعب والدولة بشكل عام.
هنا يقفز السؤال المحوري؛ كيف يتمكن أهل الحكم والسلطة، من تسطيح الوعي بحيث يجعلون البعض يتخلّى عن قدراته البناءة والمؤثرة؟
من التجارب التي خاضتها بعض انظمة "الاسلام السياسي" يمكننا الاشارة الى طريقين تم اتباعها وكانت النتائج ايجابية لها:
الطريق الأول: إثارة القدرات السلبية في النفوس وتحفيزها، بشكل يفوق بكثير من المساس بالقدرات الايجابية البناءة. فالحديث المستمر عن "العدو الداهم" و"الخطر الماحق" وما يكمن وراء الحدود... وغير ذلك من إثارة المخاوف والهواجس لدى الناس بانهم غير آمنين ما لم يكونوا في حالة استعداد للتصدّي للقادم...! كمن يحذر شخصاً من حيوان مفترس خلف الجدار، الامر الذي يؤدي بهذا الشخص بلزوم مكانه وعدم الحراك بتاتاً.
والمثير حقاً؛ ان تكون هذه الحالة السائدة تكرار لتجربة بائدة استنفذت اغراضها منذ اكثر من نصف قرن، عندما عكف التيار اليساري في العالم، وفي العالم العربي – تحديداً- على الترويج لـ"بعبع"الامبريالية الغربية والامريكية، بهدف كسب الطاعة والولاء للنظرية الاشتراكية كمنهج للحياة، وعدم السماح للشركات الغربية الضخمة من التمدد في دول العالم، لاسيما دولنا الغنية بالنفط والثروات المعدنية والزراعية وحتى الانسانية. ومن بعد ذلك؛ نسمع اليوم بما يسمى بنظرية المؤامرة، وهي تلف باذرعها أيدي وأرجل الجيل الصاعد، وتجعله في حالة من الشدّ العصبي والشلل الفكري ثم التخلّف عن ركب التطور والقبول بالواقع الفاسد.
وهذا لا يمسّ بأي حال من الاحوال، حالة المقاومة والجهاد ضد الاعداء المتربصين الذين يشهرون العداء بشكل واضح ومعلن. فهذا من الواجبات التي يحضّ عليها الاسلام ويؤكد على التصدّي للعدو من لحظة تحركه من مكانه، كما هو الحاصل في العراق، حيث ان الشعب العراقي يواجه تحدياً حقيقياً في ارضه وعرضه وهويته. كما ان مفهوم المقاومة الذي تتبناه سائر الشعوب المسلمة، يعد حقاً طبيعياً من خلاله تثبت ليس فقط قدراتها العسكرية وحالة المَنَعة وقوة الردع، إنما ايضاً، تبين للعالم قوة تأثير ايمانها وعقيدتها بما تضحي من اجله امام جماعات ارهابية ودموية مدعومة من قوى كبرى في العالم.
أما الطريق الثاني؛ فان سماحة المرجع الراحل يشير في كتابه الى استغلال بعض الاحزاب السياسية حاجة الفرد للانضمام الى المجتمع لكسب القدرة والخروج من حالة الضعف والحاجة، لتحقيق مكاسب سياسية وحزبية خاصة. "فالجماعة كما تعطي الفرد المنضمّ اليها قدرة تفوق قدرته الفردية، تأخذ منه قسطاً من حريته...". وعندما يفقد الانسان هذا القسط من الحرية، فان ذلك سينعكس سلباً على مواقفه وآرائه وحتى قراراته في الحياة، ثم يندفع من حيث او لا يريد نحو حالة "الازدواجية" في الفكر والثقافة، فهو يكون مرغماً على الانصياع لتوجهات غير التي يؤمن بها في قرارة نفسه، او تبعاً لمنظومة فكرية خاصة به، اكتسبها من العائلة او المحيط الديني او القومي او غير ذلك.
من هنا نلاحظ عجز العديد من البلدان عن مواجهة حالة الفساد المستشرية في دوائر الدولة وفي المجتمع، لان الافراد في ظل هذا الوضع، أشبه بمعصوب العين لا يقوى على الحراك، إلا بمعونة يد تحركه، فضلاً عن التأثير على الآخرين، و"فاقد الشيء لا يعطيه". وهذا بحد ذاته يدفع الجميع نحو مآلات خطيرة، منها الانهيار الاقتصادي او الافلاس السياسي – إن صحّ التعبير- ولن يكون المتضرر في هذه التجربة المرّة سوى الشعوب وحدها.