الاسلام السياسي بين الدولة والسلطة – يخسرون الشورى ويكسبون الحكم

قراءة على ضوء أفكار الامام الشيرازي

محمد علي جواد تقي

2015-08-25 06:43

بحكم التجربة؛ لاحظت عدد من الشعوب الاسلامية، ان مبدأ "الشورى" وقدسيته الدينية، يمثل الجسر الآمن لوصول الاحزاب الاسلامية الى السلطة، وتشكيل "الاسلام السياسي" على مسرح الاحداث، ثم يبدأ العد التنازلي في الاعتماد على هذا المفهوم، واستبداله بمفاهيم اخرى مستحدثة مثل؛ "المصلحة الوطنية"، أو "الامن القومي" وغيرها مما يبرر إبعاد الناس بهدوء عن دائرة الحكم، في حين تتوقع هذه الشعوب من "الاسلاميين السياسيين" أن تتجسد الشورى في تجربتهم السياسية، كواحدة من أهم الركائز في أمر الادارة والحكم.

وبما أن جماهير سيكون سؤالها الأول أمام الحاكمين الجدد القادمين على أنقاض الديكتاتورية: "أين مصاديق الشورى"؟ فان هؤلاء – وبحكم البديهية، يلجأون الى تأسيس النظام الديمقراطي وتوسيع رقعة المجالس المنتخبة من قبل الشعب، فالى جانب مجلس النواب، يكون هنالك مجالس في المحافظات، ثم مجالس محلية في كل مدينة لمزيد من الاطمئنان على حق الجماهير في المشاركة السياسية وتحكيم رأيها ومشورتها في صنع القرار.

بين تجاربنا وبين ديمقراطية الغرب

هذا الحق الجماهيري – الانساني، يكفله الاسلام قبل رجل السياسة، بل ويعده من الواجبات في أمر الحكم، ومن دونه يفقد شرعيته، لأنه (الحكم) نوع من "التسلّط على الناس، ولا يصحّ التسلّط عليهم إلا برضاهم...". وهذا ما يؤكده سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الشورى في الاسلام"، حيث يرى "وجوب مشورة الحاكم مجيئاً إلى الحكم وتنفيذاً لأمرٍ دون أمر... لأن للحاكم صلاحية بقدر تخويل الناس له، ففي غيره يحتاج إلى أذنهم".

وهذا ما نلاحظه مطبقاً في بعض البلاد الملتزمة ديمقراطياً، حيث إن البرلمان يلجأ الى الناس عندما يريد التصويت على تعديل دستوري او إلحاق مادة جديدة على لائحة قانونية، فتجري نوعاً من استطلاع الرأي او استفتاء للوقوف على رأي الناس وما اذا كانوا يوافقون أم لا. والسبب واضح جداً؛ فالقوانين هناك، تستهدف بالاساس، الجماهير وعامة الشعب، فاذا كانت غير منطقية ولا عملية وغير مجدية، فانها ربما تلحق الضرر بالناس، وهو ما يؤدي الى اسقاطات سياسية تلحق الضرر الكبير بالاحزاب السياسية ومن يمثلها في البرلمان، سواءً اثناء وجودها تحت قبة البرلمان، أو خلال إعدادها لخوض الانتخابات والحصول الى أكبر عدد من المقاعد.

الى ذلك يشير سماحته في معرض حديثه عن الفوائد الحضارية للمشورة في تعزيز الامن والاستقرار في البلاد، عندما تكون الشورى، ثقافة سياسية في الاوساط الحاكمة، "فالنظام البرلماني في بلاد ما سيكون ثابتاً ومستقراً إذا كانت هناك أحزاب نشطة تتنافس فيما بينها في الرأي والعقيدة وتبحث في القضايا السياسية وتضع آراءها واتجاهاتها أمام الرأي العام من أجل التحكيم". بمعنى أن الشورى، كمفهوم وتطبيق عملي، يسهم في بناء الدولة والمجتمع، قبل ان يعود بالفائدة الأكيدة على الاحزاب السياسية وعلى النخبة الحاكمة. فهي علاوة على ذلك؛ تعد "صمام أمان"، للأمن والاستقرار في البلد، عندما يكتشف الناس حقيقة الساسة واتباع "الاسلام السياسي"، فتكون الاحتجاجات في الشارع وفي وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل، أمضّ وأشد من المطالبات العادية، لأن المسألة هنا تدخل في زاوية حرجة وتعطي الناس الحق في إدانة المسؤولين على نكولهم ونقضهم الوعد وخيانتهم الأمانة.

ما بعد خسارة الشورى

كما مرّ، فان المطلوب ليس فقط اتخاذ الشورى، شعاراً يرفع في أعلى صالات المجالس والبرلمانات؛ {وأمرهم شورى بينهم}، ولا يكفي إجراء الانتخابات والادعاء بتحكيم رأي الجماهير، إنما المهم في الاستمرارية على مدى الأربع سنوات من الفترة النيابية المحددة، وهذا ما نلاحظه على شكل أزمة حقيقية في عديد انظمة الحكم التي تتبنى "الاسلام السياسي"، فالسياسي الاسلامي، يعطي لنفسه الحق بتفسير الشورى بالشكل الذي يخدم مصالحه الخاصة ومصالح حزبه وجماعته، وحتى يذهب البعض الى نفي وجوب الشورى، أو أن النصوص الدينية الواردة في وجوب الشورى، تشير الى عهد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.

ومن نافلة القول في هذا السياق ما بينه أحد اكبر رموز الاسلام السياسي في العراق، حول تميّز التجربة الديمقراطية في العراق بانها "رقابية مزدوجة"! "فالمسؤول في الدولة، تتم مراقبته داخل البرلمان،وايضاً من قبل حزبه وجماعته..."، وهو بذلك يقلل من شأن البرلمان وحق النواب في استجواب المسؤول – ربما من حيث لا يشعر- بدعوى أن الحزب هو الذي يتكفل بمسائلته، وليس نواب الشعب.

من هنا؛ بالقدر الذي يتراجع فيه مبدأ الشورى في أي نظام حكم، يتراجع فيه بالقدر نفسه، الاستقرار السياسي والاجتماعي وتتعرض مصالح البلد والدولة للتصدّع، لذا فان سماحة الامام الراحل يشير في "الفقه السياسة" الى انعكاسات سلبية خطيرة لانعدام الشورى، يمكن ان نلخصها في أمور:

1- التماهي مع المصالح الخارجية

يشير سماحة الامام الراحل الى حقيقة أن "الديكتاتورية في البلاد الضعيفة، تنشأ من الخارج، حيث أن الدول القوية تأتي بالحكام الديكتاتوريين، او تتحالف مع من كان موجوداً منهم"، وهنالك الكثير من الأمثلة على ذلك، في بلاد مستعمَرة مثل العراق و سوريا وتونس والسودان، او في بلاد كانت تحظى بهيكلية الدولة، مثل ايران ومصر. فقد كانت تجربة الحكام في هذه البلاد مع الشورى، الذي لا ينكروه، بل يرفعونه شعاراً في كثير من الاحيان، هو التجاهل، بل والاستخفاف به مقابل الاولوية للتحالفات مع القوى الكبرى لضمان فترة أطول في الحكم. والمعادلة هنا، ليست كما أسلفنا: بقدر تقدم الشورى، تتقدم البلاد وتزدهر، بل بقدر تطبيق "البرغماتية"، وتحكيم الأمر الواقع، بنفس القدر تطمئن القوى الكبرى على قدرة الحكام الموجودين على التوازن في تحقيق المصالح واللعب على الحبال. وهذا ما نلاحظه في بلاد الاسلام السياسي، ولا أدلّ على ذلك من التجربة التركية، وكيف أنها حلّقت بالتأييد الاسلامي الواسع والقاعدة الجماهيرية الكبيرة، وفي الوقت الحاضر يشعر رموز هذه التجربة أنهم يوشكون على السقوط والانهيار بسبب تراكمات الفشل والهزائم المنكرة سياسياً وعسكرياً وامنياً، في الملف السوري، وايضاً في ملف العلاقات المفضوحة مع تنظيم "داعش" ورعايتهم المخابراتية واستلامهم الرشاوى الضخمة من اطراف خليجية.

2 - مستنقع الديكتاتورية

ربما يستبعد البعض من متابعي تجربة الاسلام السياسي؛ كيف تنتهي هذه التجربة القائمة على أسس دينية، ومنها "الشورى"، الى عاقبة ديكتاتورية؟!.

سماحة الامام الراحل، يشير الى النقطة السوداء الصغيرة التي تنشأ منها الديكتاتورية، وهي تجاهل الشورى، ليس في أروقة الحكم، وإنما في أوساط الحزب السياسي نفسه، فالحزب الناجح هو ذاك الذي "يعقد مؤتمرات دورية تجمع الاعضاء واللجان، لاجراء الانتخابات العامة، وكيفية ان يكون لكل فرد في الحزب صوت بمقدار خدماته... واللازم ان يتم الانتخاب – للاعضاء الذين يحضرون المؤتمر والذين يصوت لانتخابهم- في اجواء حرة، و حينذاك يكون الحزب "استشارياً" ديمقراطياً".

من هنا نفهم جيداً، أن الديكتاتورية في الحكم، إنما تنشأ من بذرة الديكتاتورية في الحزب وفي الحركة او التنظيم السياسي، وهو في العمل السياسي، سواءً "المعارضاتي" ايجابياً، كما في بعض بلادنا، او حتى في مرحلة "النضال السلبي" في فترة الديكتاتورية.

3 - فقدان الثقة

وهذا ما تشكو منه عديد الدول التي يحكمها "الاسلام السياسي"، وهي بذلك تسجل مفارقة عجيبة امام الرأي العام العالمي ، في كيفية نشوء جدار عدم الثقة، مع وجود تجربة ديمقراطية، و وجود حكومة منتخبة مع كم هائل من الشعارات الدينية والوعود الكبيرة. بل ان سماحة الامام الراحل، يجد في هذا النوع من الحكم من القدرة اكثر من غيره في اسكات صوت المعارضة، لانه يحظى بادوات كثيرة وفاعلة، فهو ربما يقذف المعارضين بتهم الخروج عن الاسلام و"الولاية"...! او يصفهم "بـ "عديمي الاخلاق"، الى جانب الاتهامات الجاهزة بالارتباط بالاجنبي وغير ذلك كثير.

المخرج والبديل

إن مروق الساسة الاسلاميين – او نقل بعضهم- لا يعني نهاية العالم، وأن كل شيء يطبع بالسوداوية، وأن لا أمل في تجاربنا السياسية، فالشورى وسائر المفاهيم والقيم الكبرى، مثل العدل والمساواة والحرية، ليس بالضرورة ان تقودها التجربة السياسية، إنما هنالك قيادات لها من الكفاءة والتجربة الطويلة أن تهب النجاح للشورى في الحكم في ظل الشريعة الاسلامية. وهذا تحديداً ما يدعو اليه سماحة الامام الراحل عندما يذكرنا بتجربة الغرب مع الديمقراطية، وكيف انه لجأ الى الثقافة للنجاة بالشعوب والأمم من قبضة الديكتاتورية، فقد "ألف عقلاء الغرب، عشرين ألف نوع من الكتب التوعوية ـ كما قرأت في إحدى النشرات ـ وقاموا بتوزيع هذه الملايين من الكتب على الناس، وقد أدّت هذه الكتب إلى أيقاظ الناس وتنبيههم إلى أنّ المشكلة التي يعانون منها، سببها الحكام المستبدون، وان الخلاص لا يتحقق إلاّ بتوزيع السلطة، وكانت الحصيلة انتصار الغرب على مشكلاته وارتفاعه فوق الحضيض حتى أنهُ أصبح سيداً ليس على نفسه بل على العالم بأسره". ويتابع سماحته: "ونحن هنا لا ندعي أنّ الغرب قد وصل حدّ الكمال، لأنّ الكمال في الإسلام، إلاّ إننا لابدّ أن نقرّ بأن الغرب لمّا حاول تطبيق الشورى ـ إلى حدّ ما ـ ارتفع عن ذلك الحضيض إلى هذا المكان المرتفع الذي وصله".

فالكرة في معلب النخبة السياسية، متمثلين بالاسلاميين في دوائر الحكم، فعليهم أن يتخذوا من الشورى، قارب نجاة من الديكتاتورية ومن كل اسباب الضياع والهلاك في هذا البلد او ذاك، من خلال التثقيف والترويج والتطبيع، بوسائل مختلفة، أهمها التطبيق العملي والسلوك الفردي الذي يلمس منه الناس مصداقية حقيقية لهذه القيمة العظيمة والحضارية.

ولنا في أمير المؤمنين، عليه السلام، خير قدوة في هذا الشأن بالذات، عندما أعطى الشورى منزلتها الرفيعة في زمانه وللاجيال، عندما قال: "لا رأي لمن لا يطاع"، إذ لا فائدة حقيقية للانسان والمجتمع والدولة، لسلطة ومناصب حكومية من دون شورى، ومن دون آراء واجتهادات واحترام الآخر.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي