مكافحة الفساد في العراق بين الإجراءات والتنظيرات
د. طارق عبد الحافظ الزبيدي
2019-04-07 04:55
المشكلة الحقيقة في العراق اليوم، ليست بالفساد بحد ذاته بل المشكلة في شرعنة الفساد وإضفاء الشرعية بطرق مبتكرة وغاية في الاحتراف، لكن مهما حاول الفاسد من أن يقنع نفسه بأن عمله شرعي وقانوني، يبقى القانون والشرع والعقل والمنطق كفيل في تمييز الصواب من الخطأ.
وهنا يجب تثبيت ملاحظة مهمة وهي أن كشف عملية الفساد لا تتم بسهولة؛ لأن الفاسد محترف ومراوغ، وبالتالي المكافحة بحاجة إلى محققين وقضاة محترفين، ولابد من القول أن المواطن العراقي الصالح وحلفائه يتطلع إلى حلول حقيقية وجذرية لمكافحة الفساد، والمواطن الفاسد وحلفائه يتطلع لحلول ترقيعية ويسعى للمماطلة لكي لا تطاله الإجراءات الحقيقية، لذلك بالإمكان القول: "كل من يرفض الحلول الجذرية سوف يضع نفسه موضع الشك شعبياً وبرلمانياً وحكومياً".
إن من غير المنطقي القول، إن الفساد كظاهرة وجدت منذ عام 2003 في العراق، بل أن هذه الظاهرة وجدت لطالما وجد الانسان الذي لا عصمة له من الأخطاء والرزايا، فالفساد كظاهرة موجودة في كل المجتمعات، لكن قدر تعلق الأمر بالعراق، فالفساد الإداري والمالي بالرغم من وجوده منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، الآن ما بعد 2003 تحولت هذه الظاهرة إلى أزمة حقيقة واضحة للعيان، فنسبة الفساد سابقاً كانت أقل بشكل ملحوظ بالقياس إلى ما بعد 2003 نتيجة عدة أسباب -لا يسع المجال لذكرها- (لعل من أبرزها أن النظام الإستبدادي قاسي في التعامل مع منظومة الفساد إذا كانت خارج إرادته ويقبلها إذا كانت ضمن توجيهاته)، إضافة إلى كميات الأموال الطائلة التي دخلت العراق ما بعد 2003 بسبب ارتفاع أسعار النفط على المستوى العالمي، فضلا عن أن البعض استغل فسحة الحرية المتاحة وغياب سلطة الدولة، والأهم من كل ذلك نحن هنا لسنا بصدد المقارنة ما بين نسبة الفساد في ظل النظام الدكتاتوري والنظام الديمقراطي، بل نحن بصدد مكافحته بعد استفحاله وتهديداته إلى بنية النظام السياسي والدولة العراقية برمتها.
ابتداءً لابد من القول: "لولا الفساد الإداري والمالي في العراق ما بعد 2003 لما بقى مواطن عراقي فقير أو تحت خط الفقر"، فالأموال كثيرة ولكنها ذهبت لغير مستحقيها، والتساؤلات التي تطرح حول الموضوع كثيرة، كيف تحول الفساد من كونه ظاهرة مجتمعية إلى أزمة حادة؟، بل أصبح اليوم منظومة متكاملة مترابطة لا يمكن عزل طرف عن باقي الأطراف؟
والتساؤل الأبرز: كيف السبيل إلى القضاء أو التخفيف من حدة الفساد الإداري في العراق؟، لاسيما وأن الرأي الشعبي والحكومي والبرلماني يصنف الفساد مع الإرهاب أو أشد منه ضرراً!، تساؤل آخر يطرح لماذا أغلب الدعوات لمكافحة الفساد تنظيرية أكثر من كونها إجرائية، هل الباحث أو صاحب السلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية خائف من السير بالإجراءات الواقعية ويكتفي بالتنظيرات المثالية لغرض إبعاد الحرج والضيق؟، إلى متى يبقى العراق يعاني من هذه المنظومة الخطيرة على حاضر ومستقبل الوطن والمواطن؟
تنطلق الورقة البحثية بتواضع من فرضية مفادها (إن إجراءات مكافحة الفساد في العراق فشلت وسوف تفشل أيضاً بالمستقبل، إذا ما ظلت حبيسة التنظير ولم تتحول إلى الواقع الإجرائي، هذه من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن تكرار نفس المعالجات التي فشلت سابقاً. إذن لا بد من إيجاد إجراءات واقعية غير مجربة سابقاً خاصة الإجراءات التي أثبتت فشلها).
لا يمكن إخفاق حقيقة أن جميع الباحثين يخشون الدخول في هكذا مواضيع، ويعدوها بمثابة مجازفة كون العراق اليوم يعيش حالة عدم الاستقرار الأمني، مما يعرض نفسه ممن يخوض في هذا المضمار إلى الخطر، لكن الأمانة العلمية والأمانة الإنسانية تدعونا إلى الخوض في الموضوع وبيان بعض الحلول المقترحة للتساؤلات المثارة.
من خلال متابعة ظاهرة الفساد في العراق، وجدنا أنها أصبحت تشكل منظومة كبيرة وخطيرة لا يمكن معالجتها بسهولة بل بحاجة إلى معالجة قانونية قضائية صارمة، وإذا ما كانت جميع المعالجات السابقة تعتمد على الحكومة أو البعض اعتمد على هيئة النزاهة والبعض اعتمد على مكاتب المفتشين العموميين، وبعد إعلان رئيس الوزراء تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق بموجب الأمر الديواني رقم (70) بتاريخ 29/1/2019، بنى الكثير من العراقيين الآمال على هذا التشكيل في مكافحة الفساد، فاليوم نقترح تشكيل محكمة عليا مستقلة لمكافحة الفساد على غرار المحكمة الجنائية العليا التي تشكلت في العراق قبل سنوات.
وهنا الموضوعية تحتم علينا القول: "لا يمكن أن نبخس الناس أشيائهم، فلكل جهة دور في مكافحة الفساد، والجميع يعمل من مكانة ومنصبه، لكن ماهي النتيجة؟. الجميع يريد حلول قطعية والجميع أيضا يرفض جميع الحلول الترقيعية، والجميع يقول أين الفاسدين لماذا لم يعرضون على القضاء؟ متى نبدأ بالمحاكمة؟ وغيرها من التساؤلات.
في هذا الجو المتداخل وفي ظل الظروف السياسية التي يعيشها العراق، نعتقد بتواضع أن محاولات مكافحة الفساد فشلت لسببين: الأول التداخل بين السياسي والقضائي، والسبب الثاني متابعة القضايا المشتبه بها بشكل عام دون التفاصيل.
هنا الجميع ينتظر الحل، كيف يتم فصل السياسي عن القضائي في العراق بمكافحة الفساد، ثم كيف متابعة القضايا التي تحول حولها الشبهات بشكل تفصيلي، مما سبق يتضح، إن الحكومات المتعاقبة والهيئات المعنية بمكافحة الفساد لم تنجح بمكافحة الفساد بشكل قطعي وبشكل إجرائي بل المجاملات السياسية والتقاطعات السياسية ساهمت بغلق عدد غير قليل من الملفات.
لطالما أن الفساد بكل أنواعه لا يقل خطورة عن جرائم النظام الإستبدادي، لذا نقترح تشكيل محكمة عليا لمكافحة الفساد تنقل إليها جميع ملفات الفساد، بشرط أن يعين القضاة فيها لمدى الحياة أو لغاية الانتهاء من عملها لكي تكون مستقلة ولا تخضع للضغوط.
إن الغاية الحقيقة من تشكيل المحكمة المستقلة العليا لمكافحة الفساد على غرار المحكمة الجنائية العليا سابقاً، هو لغرض فصل الجانب السياسي عن الجانب القضائي في متابعة القضايا المعروضة، ومن جهة أخرى لكي يتسنى للمحكمة الدخول في التفاصيل وعدم إبقاء الملفات عالقة والبت فيها قضائياً، والأهم من ذلك سوف نسحب من الحكومة الحرج التي طالما تقع فيه عندما تفتح ملفاً قد يكون فيه طرف من قريب أو بعيد بإحدى الكتل التي قد تهدد بقاء الحكومة أو تهدد بسحب الثقة عنها.
البعض يجعل من مستقبل تشكيل محكمة مستقلة عليا لمكافحة الفساد شبيه بالتشكيلات السابقة التي وضعت بهذا الشأن، هنا نقول: إن هذه المحكمة سوف يكون لها وقع مهم لطالما كانت مستقلة بعيدة عن كل الضغوط السياسية وبعيدة عن التبعية عن كل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية).
ومما سبق يتضح، إن فشل المحكمة المستقلة العليا المنشودة لمكافحة الفساد مقروناً بعدد من المعوقات لعل من أبرزها مايلي:
1- المماطلة بتشكيل هذه المحكمة ومحاولة إيجاد الأعذار.
2- المحاصصة السياسية في إختيار القضاة.
3- تقييد صلاحيات المحكمة المستقلة لمكافحة الفساد المزمع تشكيلها.
4- عدم التأييد والمساندة الشعبية والحكومية والبرلمانية لهذه المحكمة.
وفي نفس الوقت نقول: إن نجاح المحكمة المستقلة العليا لمكافحة الفساد ممكن ومتاح لكن بحاجة إلى عدد من المقومات لعل من أبرز تلك المقومات هي:
1- الدعم الكامل لتشكيلها شعبياً وبرلمانياً وحكومياً.
2- رفض المحاصصة السياسية في إختيار القضاة وإعتماد الكفاءة والنزاهة.
3- دعم مراجع الدين في العراق لعمل المحكمة.
4- تحويل جميع ملفات الفساد دون استثناء إلى المحكمة.
5- القبول بجميع قرارات هذه المحكمة وعدم تسييس عملها.
وفي خاتمة القول، لابد من التوضيح بأن العراق لا يمكن له أن يبقى في هذه الدوامة، لأن من غير المعقول بناء الدولة، والتخطيط لمستقبل البلد في ظل وجود هذه الظاهرة، لاسيما وأن الفساد أخذ يهدد التجربة الديمقراطية في العراق، حيث استغل البعض الحريات المتاحة ووظف البعض المنصب لغرض منافعه الشخصية، ولا يمكن القبول بالحلول الترقيعية في مقابل الأموال الكبيرة التي تم هدرها وما زال الاستمرار بهدرها، فالمحاسبة القضائية الشديدة كفيلة بوقف الفساد نهائياً.
وقد توصلت الدراسة لعدد من التوصيات لعل من أبرزها:
1- تحولت قضية الفساد من كونها ظاهرة إلى منظومة متكاملة، والسبب يعود كون جميع المعالجات السابقة غالباً ما تحمل بعداً نظرياً أكثر من كونه واقعياً عملياً.
2- هناك فرق كبير بين المجلس الأعلى الذي شكله السيد رئيس مجلس الوزراء وبين المحكمة العليا المنشود إقامتها، فالأول صلاحياته محدودة وطبيعة عمله حكومية، أما الثانية صلاحياتها واسعة وطبيعة عملها قضائية.
3- الفساد بكل تفاصيله جريمة ضد الإنسانية لاسيما إذا ما ظهر بهذا الظهور اللافت بالعراق ما بعد 2003، لذلك يجب أن يعطى الموضوع استحقاقه من الأهمية فضرورة تشكيل محكمة عليا أسوة بمحكمة الجنايات العليا التي حاكمت رموز النظام السابق ممن ارتكبوا جرائم ضد الشعب العراقي.
4- تعيين سبعة قضاة أو تسعة في المحكمة العليا المستقلة لمكافحة الفساد لمدى الحياة أو لغاية إنتهاء عملها، وفق معايير مهنية لغرض إعطائهم الحصانة.
5- حتى يتخلص رئيس الوزراء الحالي والمستقبلي من الحرج والضيق الذي قد يتعرض له في مكافحته للفساد، عليه أن يدعم قضاة المحكمة المستقلة العليا لمكافحة الفساد لغرض إكمال مهامها بشكل عادل وشفاف.
6- خضوع الموظف البسيط والوزير إلى نفس الضوابط والإجراءات، وعدم الكيل بمكيالين في التعامل مع القضايا المعروضة.
7- تحويل جميع الملفات دون استثناء الموجودة في هيئة النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين وهيئة الرقابة المالية إلى المحكمة العليا المستقلة لمكافحة الفساد.
8- التركيز على سبل مكافحة الفساد أكثر من طرق كشفه، لأن الجميع اليوم يعي ويفهم ما هو الفساد لكن يتطلع للقضاء عليه، والمواطن العراقي اليوم يمتلك من الوعي مايُمكنه من تشخيص الفساد لكن المشكلة تكمن في طرق المعالجة.