قوى محركة داخل الانسان تدفعه للمجهول

محمد علي جواد تقي

2025-09-09 05:23

 تتنازع قوى داخل الانسان، كلٌ يحاول التسيد والتأثير على السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية، ويكون له التأثير في صياغة الشخصية الفردية، وتحديد الهوية داخل الجماعة.

في الرؤية الفلسفية يُنقل عن افلاطون أن ثلاث قوى مسؤولة عن حركة الانسان: الرغبة، والعاطفة، والمعرفة، فالأولى تحمل الغرائز –حسب تعريفه-، فيما تحمل الثانية الميول النفسية المعبرة عن الذات، مثل الحب والشجاعة والكرم، أما المعرفة فهو قوة العقل، بينما في الرؤية الدينية ثمة تصنيف آخر يُعبر عنه السيد محمد رضا الشيرازي في إحدى محاضراته بوجود عدة قوى داخل الانسان: "القوة الشهوية، والقوة الغضبية، والقوة العقلية".

وهذه القوى بدورها تخضع لمثيرات وعوامل تحفيز، فالمراكز التعليمية والاكاديمية تمثل ميدان حركة العقل لاكتساب العلم والمعرفة، ومحاولة تجميد او تحييد سائر القوى في هذا المضمار، ربما للاستفادة ما أمكن من هذه القوة وعدم السماح لما يعكّر صفو الذهن والتفكير كجهد يحتاج الى هدوء وانقطاع ومحيط خاص به، فعند البعض لا يشترط في العالم؛ الشجاعة، او الكرم، أو الزهد، او التواضع، وغيرها من الخصال الاخلاقية، بل واحياناً تُرحل الرغبات والغرائز عن ميدان عمل العقل، كما نلاحظه في البلاد المتقدمة علمياً. 

أما جانب العاطفة فنلاحظ ميدانه في الأسرة والبيت الصغير، ثم في حلقة أوسع؛ الجماعات الكبيرة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية، فنلاحظ الفطرة السليمة تدفع صاحبها لإظهار المشاعر الايجابية مثل؛ الودّ، والعفو، والتعاون، والشجاعة لإسداء الخدمة للآخرين، كما نلاحظ الشواهد على هذا في حياتنا اليومية، ولكن! 

ما يعكّر صفو النشاط الانساني السليم، تدخل عوامل خارجية على مسيرة التكامل البشري نحو الأخلاق والقيم الحق مثل؛ العدل، والحرية، والمساواة، متمثلة بالسياسة والمال، فالحاكم في القصر الجمهوري او الملكي، ومعه الحاكم على المصانع والمزارع والمصارف، وأيضاً؛ المعادن، وآبار البترول، لهما شغلٌ طويل وعريض مع قوى الانسان هذه، وإلا كيف يضمنون الأرباح بالمليارات؟ وكيف يضمنون الولاء والطاعة، ثم الشرعية الشرعية السياسية؟ لذا هم يريدون حركة هذه القوى بما يخدم مصالحهم لا مصالح الانسان نفسه صاحب هذه القوى! ففي اليابان –مثلاً- لم يرفّ جفناً لأصحاب المصانع الضخمة انهماك الشباب طيلة عقود من الزمن في النشاط الذهني بغية الاحتفاظ بالتفوق والابداع العلمي والتقني، وإن كان بثمن قتل العاطفة والرغبات النفسية مثل الجنس، حتى أدركوا الخطر المحدق بتركيبتهم السكانية الهَرِمة، و راحوا يتوسلون بالرجال لإحياء الرغبة الجنسية والحثّ على الزواج في نفوسهم دون جدوى، فقد تعلم الابناء عن الآباء هذه السنّة الغريبة، ومن الصعب التغيير. 

في مقابل هذا النمط من الحياة في اليابان، وربما دول غربية اخرى مهتمة بالنشاط الذهني بشكل جنوني، نلاحظ نمط حياة شهدته البلدان العربية والاسلامية طيلة الفترة الزمنية الموازية –في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، مُغرق بالميوعة والتحلل من كل شيء سوى الرغبات والشهوات لاقتناء السيارات، والبيوت، والجنس، والمال بطرق غير مشروعة.  

من يقود من؟

الرغبات و الشهوات سريعة التحضير والتفاعل مع الواقع الخارجي، بينما العقل بحاجة الى وقت للتدبّر والتفكّر للوصول الى القرار الحكيم او الى الحقيقة. 

الحالة الاولى لها وجهان للتأثير في واقع الانسان: الايجابي، فهي غرائز ونزعات وضعها الله في نفس الانسان لينتفع بها وفق مبدأ الاختبار لنوعية المنفعة المؤدية الى نتائج ايجابية وحسنة للفرد وللجماعة من حوله. 

وفي الجانب السلبي تكون مطية لتحقيق مصالح سياسية كما يحصل مع الانظمة الديكتاتورية التي تدفع نحو إثارة العواطف والغرائز مقابل تغييب العقل والتفكّر لئلا تكون ثمة فرصة لمحاسبة الحاكم على قراراته وإدانته على أخطائه وجرائمه، مما يجعل هذا النشاط النفسي الكامن داخل كل فرد مطمعاً لأهل السلطة والحكم، وايضاً؛ لأهل المال لأن مصلحتهما على طول الخط متقاربة، واحياناً متلاصقة. 

أما الاحتكام الى العقل والحكمة والتدبّر والملاحظة، فهي نشاطات ليس فقط لا تخدمها، وإنما تكبدهما خسائر فادحة عندما لا يكون ثمة استهلاك للشعارات مثل؛ "الوطنية"، و"حب القائد"، و"العدو الخارجي"، ولا يكون ثمة استهلاك للسلع الكمالية التي نرى حجم انتاجها اليوم بشكل مذهل، ولا يرتاد الناس الى الملاعب والملاهي، ثم العالم الافتراضي الفسيح الذي يمثل دوامة الكترونية تعمل على جعل الانسان منزوع القوى كاملة! 

الواقع الراهن يؤكد أن المطلوب: لا قيادة للعقل ولا للعاطفة على الآخر، إنما القيادة لقوة السياسة والمال من خارج واقع الانسان لهذه القوتين معاً ليكون مجرد أداة لتنفيذ ما يطلبه الأقوياء، بينما هو منزوع الإرادة والقوى التي وهبها الله –تعالى- له، أما بعض الدعوات "لحقوق الطفل"، أو "حقوق المرأة"، أو "حقوق الشباب"، فهو لا تعدو مسكنات للمشاعر الانسانية المجروحة بفعل أخطاء السلطة وأهل المال من حروب كارثية، وأزمات معيشية ظالمة اختلقها السياسي والثري طيلة العقود الماضية.

الرضا بقضاء الله.. الحل الثالث 

أن تكون للعقل السلطة المطلقة فهذا له محذوراته، كما دلت التجارب البشرية، كما أن تكون للعاطفة والمشاعر والرغبات السلطة المطلقة ايضاً لها محذوراته الواضحة للعيان من حياتنا اليوم، وحتى من حياة الماضين، أما الحل الثالث والنموذجي؛ فهو تحكيم العقل على العاطفة بواسطة الإيمان، فالانسان المصاب بداء معين، عقله يرشده الى الطبيب وإن احتاج الأمر الى اجراءات مؤلمة، مثل بعض العقاقير الطبية (الإبرة)، وربما يقتضي الامر عملية جراحية، فان المريض يصبر على مضض لأن فيها حياته، وهذا ينسحب على حالات عدّة في حياة الانسان. 

ولكن؛ عندما يكون التطويع من خلال الإيمان فان حب العلاج المُر، او العملية الجراحية الخطرة –مثلاً- لن تكون بحاجة الى صبر وتجلّد، وإنما يصاحبها الحب والتفاعل القلبي العميق لما يشعره الانسان بالرضا والاطمئنان بأن ما يقوم به، او ما ألمّ به ذو أبعاد واسعة تخترق الزمن وسنوات الحياة الفانية، و أروع مثال لهذا، وأقربه الى الذهن؛ أصحاب الامام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء عندما وطنوا أنفسهم على ملاقات الحتوف من أجل قضية عادلة، فحبّهم العميق لإمامهم الحسين، عليه السلام، واستعدادهم الكامل للموت دونه، سبقته حالة الرضا بقضاء الله بخوض هذا الامتحان التاريخي والاستثنائي العظيم مقابل سعادة أبدية، وإلا فان اشخاصاً مروا من قافلة الامام الحسين، وقد حكموا عقولهم وذكائهم وخلصوا بالاستنتاج بأن معسكر الامام الحسين منهار لا محالة، والخسارة والموت من نصيبه، الى جانب أقوام حكموا عواطفهم ومشاعرهم لوحدها دون عقولهم، فباتوا وأيديهم ملطخة بدماء الامام الحسين وأهل بيته، وبعدها هملت عيونهم بالدموع على سبايا الإمام في الكوفة والشام! 

إن أهل بيت رسول الله، على طول الخط، كانوا يطمحون لأن يصل المجتمع الاسلامي وأفراد الأمة الى هذه الدرجة من وعي الذات، وأن تكون قواهم الكامنة في النفس تعمل لخدمتهم في الدنيا والآخرة، لا بخدمة أهل السلطة وأهل المال.  

ذات صلة

الموازنة الفعلية في العراق بين المنهاج الوزاري والارقام الماليةفي صناعة مفهوم ثقافة الانتخابصعود الاستبداد التشريعيحذار من نداءات واشنطن المغريةروح شنغهاي: توازن مصالح