الحجّ: شعيرة وحياة
موقع الامام الشيرازي
2018-08-15 07:45
إن الحج ليس عملاً عبادياً فحسب، بل هو شعيرة إلهية، قد أنعم الله بها على الأمة الإسلامية خاصة، دون غيرها من الأمم. يقول الإمام الشيرازي الراحل(قده): (هناك روايات تؤكد، أن الهدف من الحج هو ذكر الله أولاً، ثم التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فحينما يشاهد الناس آثاره ((صلى الله عليه وآله) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرون ويعيشون أيام الله، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب الرسول العظيم ((صلى الله عليه وآله) وتضحياته وجهوده من أجل تثبيت أسسها وأركانها).
كما الحج مؤتمر عالمي للمسلمين، يبعث في نفوسهم روح الإيمان والتقوى، ونبذ التفرقة، وترسيخ الوحدة بينهم، وتوطيد فضيلة التعاون على البر والتقوى، وهو ملتقى إيماني يشعر من خلاله المسلمون بقوتهم وعزتهم. يقول الإمام الشيرازي الراحل(قده): (الحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمون أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع من خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة، والعودة إلى الإسلام والإيمان الحقيقي، الذي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة، ويجعلهم أمة عزيزة كريمة، تستطيع مواجهة الأعداء، وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم، وترفده وتزيده قوة، فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة الله تعالى ليست شيئاً مذكوراً).
والحج قبل أن يكون مناسبة أو مكاناً يجتمع فيه المؤمنون القادمون من شتى بلاد الأرض ليتعارفوا فيما بينهم، وليتقاربوا على أخوة الإسلام وصالح الأعمال، فإن الحج فريضة يتعاهد من خلالها المؤمنون على اجتناب الإثم والبغي والعدوان، وأن دم المسلم على المسلم حرام، وعرضه حرام، وماله حرام، وليبحثوا عن سبل الارتقاء بواقع الأمة في مجالات الإيمان والعلم والفضيلة والرفاه والحياة، ومد يد العون لاستنقاذها من الجور والقهر، وتحشيد الإمكانيات لانتشال شبابها من وحل التعصب والتكفير والكراهية. يقول الإمام الشيرازي الراحل (قده): (أما التبادل الثقافي، والتعرف على مشاكل المسلمين، وإيجاد الحلول المناسبة لها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين، وهي من أهم ما يحققه الحج).
الحجّ .. شعيرة إلهية وتجمع إنساني
الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة.
وهذا الميل يعبر عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان، الساعي سعياً دائباً لإشباع غرائزه، فإن ميله نحو التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه، وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية، وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى سوف نتعرض لها، والحجّ من أبهج مناسبات المسلمين التي تتجلى فيها ظاهرة اجتماع عدد كبير منهم في ملتقى عبادي ومؤتمر إسلامي عالمي. يقول الإمام الشيرازي الراحل(قده): (أكدت الشريعة على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، والروايات التي تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة.
وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ إن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، تمثل نموذجاً عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية، ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها، وفي ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها.
إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان. والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة (ويذكروا اسم الله)، وهذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة).
ويقول(قده): (للحج منافع أخروية، وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى، بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من التوجه إلى الله (عزّ وجل)، وترك لذائذ الحياة، وشواغل العيش، والسعي إليه (عز وجل)، بتحمل المشاق والطواف حول بيته، والصلاة، والتضحية، والإنفاق، والصيام، وغير ذلك، والحج بما فيه من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشريك).
من هنا، فإن الحج وقفة يختلي بها الإنسان مع نفسه ليحاورها ويكاشفها ويعاتبها، والحج مواجهة يستكشف بها الحاج موقعه، هل ما زال في ساحة الإيمان أم إنه قد استدرج من حيث يعلم أو لا يعلم إلى خارجها؟! وهل ما زال في مراتب الإيمان الدنيـا، حيث استوقفت صعوده صغائر ذنوبه وفلتات أفعاله؟!
والحج رحلة ينطلق الحاج فيها _بعد ندم وتوبة_ لمحاسبة الذات إزاء مسؤوليتها، فيما عليها للأهل، والجيران، والأصدقاء، والأمة، والإنسانية جمعاء، ليتساءل: هل الناس منه في راحة؟! وهل هو من أخيار الناس، من حيث إنه مِنْ أنفعهم لهم؟! وهل يتقرب من خلالهم إلى رب الخلائق، فيراهم إما أخاً في الدين أو نظيراً في الخلق؟! وهل هو ما قبل الحج وبعده سيان؟!
يقول الإمام عليّ الرضا (عليه السلام): (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله (عز وجل) وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية).