في سباق الحياة النطق يقودنا أم المنطق؟
زينب الحسيني
2016-08-02 09:07
فقدتُ أهلی، خسرتُ سمعتی، أضعت أولادي، داري، بلدي.. بل تلاشت كل معالم الحياة عندي.. کنت احظی بسمعة طيبة، اُعرف في البلد كلها بأسلوبي الشيق والمثير في خطاباتي وبها كنت احفز الشباب نحو الخير، أشيد فيهم دعائم الإيمان واُرسخ في ذواتهم الولاء والالتزام.
لكن منذ أيام وأنا أرى تغييراً فادحاً على وجوه المأمومين. نظرات الحب والولاء والإخلاص قد انمحت من وجوههم، همسات المصلين تبدوا غريبة، نظراتهم أصبحت مريبة وكأنها تحمل سهاما من الشك والتردد..
لعلي أُخطِئ، لعل الأمر التبس عليَّ، قد يكون الوهم اخذ مني مأخذه..
بعد أيام قلائل أصبحتُ لا أطيق تلك النظرات المشوب بعضها بالكره، وأخرى بالشك والاستفهام، وكأن هناك أسئلة تجول في خاطر الناظرين، معاتبين إياي بما لم تجن يداي وما لم أعمل.
لا أعرف ما الذي حدث لهذه الجماعة! وما يجول في خواطرهم.. يا ترى ما الذي رأوه؟ أي شيء سمعوه؟ هل هناك خيوط مؤامرة نسجتها أيدي مناوئيَّ؟ أم إنَّ هناك دسائس ومكائد خطّتها لي منابذيَّ؟ لعلِّهم سمعوا ما هدم بنيان ثقتهم بي؟ قد تكون هناك أيدي خفية حاسدة حاقدة تسعى لإلغاء دوري البنّاء في المجتمع؟
بدأتُ أعاود أفكاري علِّني أجد هفوة واحدة أسقَطَت بي في هذا الحضيض.. أخذتُ أقلِّب سجل الماضي علني أجد السبب.. بحثتُ في خبايا أقوالي وأفعالي باحثاً عن الحلقة الضائعة في هذا اللغز الغريب.. نقّبتُ وفتّشتُ مراراً لأجد رأس الخيط من دون جدوى.. لم يبدر مني أي خطيئة، لم أقع في أي عثرة، طالما كنتُ مخلصا وفيا هاديا وناصحا للأمة ولم أفكر يوماً في أن أنال الدنيا بما أقوم به من جهود وأبذل من نصح.
يوما بعد يوم أصبَحتْ نظرات الناس تُشحن بمزيد من البغضاء والكراهية.. النظرات اللائمة تحولت إلى همسات.. ثم إلى سخرية..ثم إلى سباب وشتائم ليس سراً بل علانية.. عميلٌ خبيثٌ.. كيف استطاع أن يخدعنا طيلة هذه السنين المتمادية؟ كيف استغلَّ حسن نيتنا؟ كيف تمكن من قلوبنا بما يضمره من الخبث؟.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. بل اتسعت دائرة المناوئين حتى شملت أهلي وأولادي فأصبحوا هم أيضا منزعجين مني، معاتبين إياي بما لم تجنِ يداي.. ضاقت عليَّ الدنيا برحابها، أصبحتُ حليف الهموم ونجي الغموم.
استعدتُ شريط ذكرياتي مرة بعد أخرى.. عل هناك زلة..غلطة..كبوة.. أوقعت بي في هذا الشرك..
تذكرتُ بعد تنقيب طويل أنني كنت ذا علة في يوم ما، ووصف لي الطبيب فرز إبرة.. لم تكن صحتي على ما يرام لكنني لم أرد أن أخيب انتظار خيل المصلين. تهيأت وتوضأت لكن ما أن وصلت إلى المسجد حتى تذكرت أنني لم أطهر موضع الفرز؛ ذهبت إلى المرافق وتطهرت، وحين خرجت متجها إلى المصلى، رأيت واحدا من أصدقائي وهو يتوضأ. ألقيت عليه التحية ومضيت.
عاد بيٍ شريط الذكريات إلى ذلك الموقف.. ارتسم في مخيلتي صورة له وهو ينظر إلي باستغراب وكأن هناك تساؤلات تجول في خاطره لكنه مستحيٍ من بيانها.
هل يمكن أن يكون ذلك الموقف مثيرا لكل تلك المشاكل؟ هل يعقل أن ذلك الصديق القديم أساء الظن بي لزعمه أني أؤم المصلين من غير طهارة؟ٍ
أخذت هذه الهواجس والأفكار تدور في خلدي.. قوّى هذا الظن ما سمعته من أحد المصلين وهو يهمس في أذن الآخر: إنه يصلي من غير طهارة..لابد أن يكون منتمياً إلى استخبارات (الشاه)، وقد تجلبب بجلباب الدين ليخدعنا، حيث قام ساواك بجعل عيون خفية تترقب أمور المؤمنين.
لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد، لذلك آثرت الهجرة واضطررت أن ألتجئ إلى مدينة امير المؤمنين عليه السلام تاركاً ورائي أهلي وأولادي وكثيراً من الخواطر والذكريات الحلوة والمرة.. رحلتُ، وعرفتُ بعدها أنّ الناس ما إن سمعوا بهجرتي حتى تنفسوا الصعداء وشكروا الله لأنه أنقذهم من أيدي عميل تجسس عليهم سنين طويلة.. كالوا ليَ التهم لفترة غير قصيرة لكن بمضي الأيام خمد ذكري تحت أكوام النسيان.
**
لكن شمس الحقيقة لا تبقى خلف سحائب الغفلة وها هي تبزغ وتكشف عن لثامها بعد كل تلك السنوات الطويلة.
مضى عقدان من الزمن..اتجه أحمد إلى المسجد، متكئاً على عصاه المنحوتة ويداه ترتجفان لتقدمه في السن.. دخل المسجد مخترقاً صفوف المصلين، لكنه تذكر حينها أنه بحاجة إلى تطهير موضع إبرة غرزها بسبب زكام ابتلي به.. ذهب إلى المرافق ليتطهر، لكن شيئا ما بدأ يدور بخلده.. هناك في كوامنه أمر ما يزعجه ويخيل إليه أنه قد ارتكب خطأ فادحاً.. إحساس مرعب وغريب جعله يشعر بالذنب.. ضميره بدأ يؤنبه بقوة.
بدأ يفكر وينقّب في ملف ذكرياته ليجد مصدرا لهذه الهواجس التي كادت تقتله لقوتها.. بدأ صوت عال يدوي في أذنيه: من قال أن إمام الجماعة الذي رشقته بنبال التهم والإفتراء، وقلبت عليه مدينةً بأكملها، لم يكن قد ذهب إلى المرافق ليطهر موضع فرز إبرة؟ رميته بسهام تهمة قاتلة، أسقطته من أعين الناس، نلت من سمعته وأفقدته أهله وأولاده لأنهم أيضا صدّقوا ما قيل عن والدهم، من دون أن يكون لك أدلة وشواهد!!.
أخذت هذه الهواجس اللائمة تزداد قوة آناً فآن، حتى سلبته راحته، ونغَّصت عيشه، تأنيب الضمير سيقتله إن لم يجد له مخرجاً.. فراح يبحث عن رجل هاجر من المدينة قبل عشرين سنة، علّه يطلب رضاه ويستحله.
سأل كثيراً حتى علم بمهجره، تحمل أعباء السفر واتجه إلى النجف الأشرف بقلب ملؤه الندم على ما جنت يداه من تلاعب بأعراض الآخرين.
دخل المدينة حائرا لا يعرف كيف يجد الرجل وما هو السبيل إليه.. ظل هناك فترة من الزمن يسأل هذا وذاك إن كانوا قد التقوا بمثل هذا الرجل في هذين العقدين.. كل ما حُكِيَ له هو أن الرجل رؤي في بداية هجرته وقد ارتسم على وجهه ملامح حزنٍ عميقٍ، مخبراَ أحدهم عما جرى له من فقد السمعة، وخسران الأهل والأصدقاء لمجرد إشاعة كانت وليدة لظن سيئ.
دارت الدنيا أمام عينيه وهو يتخيل صديقه طريداً شريداً وحيداً؛ لكن الندم لم يكن لينفع في مثل هذا الموطن ولا ليغسل درن ذنب جناه بحق صديقه.
**
في سباق الحياة لو أن النطق سبق أسلوب المنطق والتفكير سيجني الكثير من المتاهات والهفوات.. ولو أن اللسان أخذ بعنان المرء أوقعه في كثير من السقطات..
فمهلا.. مهلا.. وقفة تأمل تسبق ما نتحدث به.. محطة تفكّر تتقدم كل حديث يخرج من طيات ألسنتنا.
فکم من کلمة تؤجج نيران الخلاف بين زوجة وزوجها.
كم من كلام فارغ يهدم بنيان عائلة ويفككها.
رب حديث عفوي يزرع الشكوك وينتج فتنة عمياء.
كم من كلام يبدو بسيطا لكنه يحمل في طياته جرحاً عميقاً لقلوب الآخرين.. جرحٌ قد لا يندمل ويبقى ينزف سنينا متطاولة.
مسك الحديث كلام لرسول الله صلى الله عليه وآله حين جَاءَ إليه رجُلٌ يستنصحه ويطالبه بوصيه يوصيه بها، فقال صلى الله عليه وآله: احْفَظْ لِسَانَكَ. فكرر طلبه معاودا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. فقَالَ احْفَظْ لِسَانَكَ. ثم أًصر على وصية أخرى قَائلاً: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. فقَالَ صلى الله عليه وآله: احْفَظْ لِسَانَكَ وَيْحَكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!.