ألغام تهدم القلوب والمجتمعات

المراء والجدال والخصومة

صباح الصافي

2025-09-07 05:59

خلف تقاطع الكلمات وتصادم الآراء تختبئ أخطار خفيَّة قادرة على هدم القلوب قبل أن تمزِّق المجتمعات؛ إنَّها المراء والجدال والخصومة. إنَّها نزاعات تبدو صغيرة في ظاهرها؛ لكنَّها ألغام دقيقة تنفجر في النُّفوس، فتزرع الحقد، وتربك الفكر، وتقطِّع أوصال المودَّة؛ فالمراء، حين ينشغل بتصيُّد كلمات الآخرين وإبراز عيوبهم بلا بصيرة، يفتح أبواب الغرور ويغذِّي الكِبر في النُّفوس. وأمَّا الجدال إذا انحرف عن جادَّة الحقِّ، صار سلاحًا يثير الشُّكوك ويقوِّض دعائم الإيمان. وأمَّا الخصومة، فهي الوجه العملي للصراع، تنتقل من الكلام إلى النِّزاع، فتغدو القلوب مثقلة بالغمِّ، والمجتمع مشحونًا بالعداوة.

لذلك، تعال معي لنكتشف هذه الآفات والرَّذائل والألغام، ونتعلَّم كيفيَّة اجتيازها والتَّخلص منها: 

المحور الأوَّل: تشابه الألفاظ وتباين المقاصد

من الأفضل قبل بيان آثار هذه الآفات أن نتعرَّف عليها أوَّلًا، ونكشف الفروق بينها؛ فالمعرفة هي الخطوة الأولى في طريق الوقاية والتَّخلُّص. ونبدأ بالمراء:

1. المِراءُ لغة: "الجِدالُ. والتَّماري والمُماراةُ: المُجادَلةُ على مذهَبِ الشَّكِّ والرِّيبةِ، ويُقالُ للمُناظَرةِ: مُماراةٌ، ومارَيتُه أُماريه مماراةً ومِراءً: جادَلْتُه" (1).

وفي الاصطلاح: "طعن في كلام الآخرين لإظهار خلل فيه، من غير غرض سوى تحقيره وإهانته، وإظهار تفوقه وكياسته" (2).

2. الجَدَلِ في اللُغة: "اللَّدَدُ في الخُصومةِ والقُدرةُ عليها، وجادَلَه، أي: خاصَمَه، مجادَلةً وجِدالًا. والجَدَلُ: مُقابلةُ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ، والمجادَلةُ: المناظَرةُ والمُخاصَمةُ، والجِدالُ: الخُصومةُ، سُمِّي بذلك لشِدَّتِه" (3).

وفي الاصطلاح: "المفاوَضةُ على سَبيلِ المنازَعةِ والمغالَبةِ" (4).

أو: "دَفعُ المرءِ خَصمَه عن إفسادِ قَولِه، بحُجَّةٍ أو شُبهةٍ، أو يَقصِدُ به تصحيحَ كلامِه" (5).

أو: "مراء يتعلَّق بإظهار المسائل الاعتقاديَّة وتقريرها" (6).

3. الخصومة لغةً: "هي الجدل والنزاع (7)، وخصمه غلبه (8)، ويقال تخاصم القوم واختصموا أي تجادلوا وتنازعوا (9). والخصم في اللغة الواحد والجمع والمؤنث والمذكر؛ لأنَّه مصدر" (10).

وفي الاصطلاح: "لجاج في الكلام لاستيفاء مالٍ أو حقٍّ مقصود، وهذه تكون تارة ابتداءًا وتارة اعتراضًا"(11).

ومن خلال التَّدبر في التَّعاريف يظهر أنَّ هذه المصطلحات الثَّلاثة (المِراء، الجِدال، الخُصومة) متقاربة في ظاهرها، حتَّى إنَّ بعضها قد يستعمل مكان الآخر في اللغة، لكن التَّدقيق يكشف أنَّ لكلِّ واحد منها دائرة خاصَّة ومعنى مميزًا.

فالمراء أدنى أشكال الجدال، ويركِّز على الطَّعن في كلام الآخرين من دون غاية في الوصول إلى الحقِّ أو البحث عن الصَّواب؛ وإنَّما لإظهار الخلل وتحقيق التَّفوق وإهانة الطَّرف المقابل. وينشأ عادة اعتراضًا على قولٍ سابق، وغالبًا ما يكون ثمرة عداوة أو حسد، ولهذا أصبح مذمومًا بكلِّ المقاييس.

وأمَّا الجدل فهو أوسع نطاقًا؛ إذ يقوم على مقابلة الحجَّة بالحجةَّ، وقد يكون سبيلًا للهداية إذا قصد به إثبات العقائد الحقَّة ونصح الخصم غير المعاند، فيندرج ضمن قوله (تعالى): (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (12)، وحينئذٍ سيكون من دلائل رسوخ العلم وقوَّة الإيمان. لكنَّه إذا كان بالباطل، أو حملته العصبيَّة وحب الغلبة والطَّمع، صار من الرَّذائل. فهو إذن يحتمل المدح أو الذَّم بحسب المقصد والوسيلة.

وأمَّا الخصومة فهي أقرب إلى ميدان النِّزاع العملي؛ إذ تتعلَّق بالمطالبة بالحقوق والأموال. فإن كانت بحقٍّ، كالدِّفاع عن مال ثابت أو دفع ظلم واقع، فهي جائزة، وقد تكون واجبة، بشرط أن تقتصر على قدر الحاجة من دون إفراط في اللجاج أو تعدٍّ باللسان. ولكن إذا تجاوز الجدال حدود الحقِّ بعد بلوغ الغاية، فإنَّه يوقظ الأحقاد ويزرع الفتن في القلب، وتترك الخصومة أثرًا لا يُستهان به من الهمِّ والحزن.

وبذلك يتَّضح أنَّ المراء مذموم على كلِّ حال، والجدل يتردد بين الفضيلة والرَّذيلة بحسب الغاية، والخصومة مشروعة بقدر الضَّرورة لكنَّها تصير مذمومة إذا تجاوزت حدود الحقِّ؛ فالمراء شرارة عداوة، والجدل سلاح حجَّة، والخصومة ميدان نزاع، وكلُّها إن لم تُضبط بالحقِّ انقلبت أبوابًا للفتنة والفساد (13).

المحور الثَّاني: مفاسد الصفات المذمومة

إنَّ من أشدِّ ما يفسد صفاء النُّفوس، ويعكِّر صفو العلاقات، ويزرع بذور البغضاء في المجتمع: المراء والجدال والخصومة حين تخرج عن حدود الحقِّ والاعتدال؛ فهي سهام نافذة تصيب القلوب، فتورث الضَّغائن، وتشوّش الفكر. ولأجل خطورتها نبَّهت النُّصوص الشَّريفة على اجتنابها والتَّحذير منها؛ إذ تنقلب من نقاش أو مطالبة إلى باب من أبواب الفتن والشَّحناء. ومن هنا سنقف على جملة من آثارها الخطيرة، لنرى كيف تنعكس سلبًا على الفرد والمجتمع:

1. إثارة الشُّبهات وإضعاف العقيدة

 إنَّ أخطر ما يبتلى به العقل أن يتحوَّل الجدال إلى وسيلة لإثارة الشُّبهات، بدل أن يكون طريقًا إلى بيان الحقِّ؛ فالإنسان حين يجادل بغير علم ولا هدى، فإنَّه لا يزيد نفسه إلَّا تيهًا، ولا يزيد قلبه إلَّا ظلمة، ولا يزيد من حوله إلَّا حيرة واضطرابًا. ومثل هذا الجدال يغلق أبواب المعرفة؛ لأنَّه يقوم على التَّكبر والرِّياء وحبِّ الغلبة، لا على طلب الحقيقة. 

ولذلك ترى صاحبه يزرع الشُّكوك في العقول، ويهز العقائد من جذورها، حتَّى يصبح الحوار معه إلى أرض خصبة للوساوس، وبدل أن يكون الكلام وسيلة هداية يصبح معولًا للهدم؛ فالقلب الذي كان مطمئنًا قد يضطرب، والإيمان الذي كان راسخًا قد يتزعزع؛ لأنَّ الشُّبهة في حقيقتها سهم مسموم، إذا أصاب قلبًا ضعيفًا أثخنه وأضعفه. ولهذا كان من الواجب على المؤمن أن يحذر من هذا اللون من الجدال، وألَّا يجلس إلى من يحسن فنَّ الكلام وهو فقير في نور العلم والهدى، فإنَّ كلامه يُلبس الحقَّ بالباطل، ويزين الشُّبهة حتَّى تغدو عند السَّامع أقرب إلى الحقيقة.

2. إيذاء النَّاس 

إيذاء النَّاس وتحطيم كرامتهم يترك جرحًا عميقًا في النُّفوس ويزرع الحقد في القلوب؛ عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) يَقُولُ: "إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي وأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي" (14). 

وهذا التَّحذير يكشف أنَّ الانتقاص من عباد الله (تعالى) تحدٍ مباشر لعظمة الله (سبحانه) وتعريض للنَّفس لسخطه؛ فالإهانة تمزِّق العلاقات، وتزيد مشاعر الغضب والكراهيَّة. 

إنَّ الكلمة الجارحة قد تسبب أثرًا يفوق الجراح الجسديَّة؛ لأنَّها تستقر في القلب وتثقل الرُّوح. ومن هنا تأتي عظمة التَّحذير، لندرك أنَّ حفظ الكرامة ضرورة شرعيَّة وإنسانيَّة، تُبنى عليها سلامة الفرد واستقرار المجتمع.

3. فقدان الكرامة

الجدال من غير علم يفتح أبواب الفوضى. وقد نبَّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى هذا الخطر حين قال: "مَنْ جادَلَ في خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَمْ يَزَلْ في سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ" (15)؛ فالذي يدخل في نزاع بلا بيِّنة ولا بصيرة يظلُّ أسير الانفعال، تائهًا في دوَّامة الغضب، غائبًا عن الطَّمأنينة والسَّكينة. 

وقال النَّبي (صلَّى الله عليه وآله): "إنَّ أبغضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألدُ الخَصيمُ" (16)، فالمجادل العنيد يجعل من الغلبة هدفًا أعمى، ولا يسعى إلى حقٍّ أو إنصافٍ، فيخسر نفسه عند الله (سبحانه)، وينفر منه النَّاس. 

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَا أَتَانِي جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطُّ إِلَّا وَعَظَنِي، فَآخِرُ قَوْلِهِ لِي: إِيَّاكَ وَمُشَارَّةَ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ الْعَوْرَةَ، وَتَذْهَبُ بِالْعِزِّ" (17)، فالمكابرة لا ترفع صاحبها، وإنَّما تكشف ضعفه أمام الآخرين وتذهب بمكانته بينهم. 

4. هدم الألفة

لقد قدَّم أمير المؤمنين (عليه السلام) درسًا بليغًا حين قال: "إِيَّاكُمْ وَالْمِرَاءَ وَالْخُصُومَةَ؛ فَإِنَّهُمَا يُمْرِضَانِ الْقُلُوبَ عَلَى الْإِخْوَانِ، وَيَنْبُتُ عَلَيْهِمَا النِّفَاقُ" (18). وهذه الكلمات تحمل تحذيرًا عميقًا من داءٍ خفيّ يفتك بالقلوب والعلاقات على السَّواء؛ فالمراء والخصومة يوصلان في النِّهاية إلى تشويه المحبَّة، ويزرعان مكانها بذور العناد والحقد، حتَّى تنمو في النُّفوس غشاوة تجعل القلب أسيرًا للضغائن. وحين يتغذَّى القلب على الجدل العقيم تنقلب الثِّقة إلى ريبة، وتضعف الرَّوابط بين الإخوة والأصدقاء والجيران. ومع مرور الوقت يظهر النِّفاق في صورته المقلقة: تصنعٌ في الظَّاهر، وكراهيَّةٌ في الباطن. وهكذا تتصدَّع الألفة، ويُصاب المجتمع بضعف يهدد تماسكه.

5. فقدان الشَّفاعة

في أكثر من موقف كشف النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) عن خطورة المراء بأسلوب حاسم لا يترك مجالًا للتَّهاون؛ فقد رُوي أنَّ جمعًا من الصحابة كانوا يتجادلون في أمر من الدِّين، فخرج عليهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مغضبًا غضبًا لم يُرَ مثله، وقال: "إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم بِهذا، ذَرُوا المِراءَ لِقِلَّةِ خَيرِهِ، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُؤمِنَ لا يُماري، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُماري قَد تَمَّت خَسارَتُهُ، ذَرُوا المِراءَ فَكَفاكَ إثما أن لا تَزالَ مُمارِيا، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُماري لا أشفَعُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ، ذَرُوا المِراءَ فَأَنَا زَعيمٌ بِثَلاثَةِ أبياتٍ فِي الجَنَّةِ في رِباضها ووَسَطِها وأعلاها لِمَن تَرَكَ المِراءَ وَهُوَ صادِقٌ، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ أوَّلَ ما نَهاني عَنهُ رَبّي بَعدَ عِبادَةِ الأَوثانِ المِراءُ" (19). 

وهذه الكلمات ترسم صورة واضحة لمصير المماري: خسارة في الدُّنيا، إذ يزرع الخصومة ويخسر قلوب النَّاس، وخسارة أعظم في الآخرة؛ إذ يُحرم من شفاعة النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) ويُبعد عن رحمة الله (تعالى)؛ فالمماراة لا تُنتج يقينًا ولا تهدي إلى حقٍّ. وتنتهي إلى القسوة والانقسام، وتفتح أبواب الهلاك التي أهلكت الأمم السَّابقة.

6. الخسارة الدَّائمة

لقد لخَّص الإمام الصادق (عليه السلام) في كلماته البليغة حقيقة المراء وآثاره فقال: "لَا تُمَارِيَنَّ حَلِيمًا وَلَاسَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَقْلِيكَ، وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ" (20). وهذه الكلمة تكشف عن حكمة عمليَّة عميقة؛ فالدُّخول في جدال لا يثمر سوى خسارة مزدوجة: مع العاقل تخسر مكانتك، ومع الجاهل تخسر سلامتك.

فإذا جادلت الحليم، بدا ضعف حجَّتك أمام قوَّة منطقه، فيتَّضح عجزك وتفقد احترامك. وإذا خاصمت السَّفيه، انحدرت معه إلى مستوى جهله، وتعرَّضت لأذاه وإساءته، من غير أن تنال فائدة أو تحقق حقًا. وفي كلا الحالينِ المراء يضعف القلب، ويستنزف الطَّمأنينة، ويزرع الشِّقاق بين النَّاس.

7. من مصادر الهلاك

في حديث آخر للرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) رسم فيه صورة واضحة لمصادر الهلاك التي تهدد الأمم، فقال: "أشَدُّ ما يُتَخَوَّفُ على أمَّتي ثَلاثةٌ: زَلّةُ عالِمٍ، أو جِدالُ منافقٍ بِالقرآنِ، أو دُنيا تَقْطَعُ رِقابَكُمْ فاتَّهِمُوها على أنفُسِكُمْ" (21). 

فالجدال حين يخرج من قلب منافق يصبح أداةً لنشر الفتنة وتعميق الانقسام بين النَّاس، ويشوّه الحقائق حتَّى تلتبس على العقول البسيطة. وأمَّا زلَّة العالم فإنَّها تُضِلّ الاتِّجاه وتُربِك البصيرة، فيسير النَّاس خلف الخطأ وهم يحسبونه صوابًا، فتتسع دائرة الخلل في المجتمع. وأمَّا الدُّنيا إذا تسللت إلى القلوب واستبدَّت بها، صارت سيفًا قاطعًا يُفني القيم ويمزِّق الرَّوابط، حتَّى يهدد أمن الأمَّة واستقرارها.

8. تبدل الحقيقة الإنسانيَّة

وبعد كلِّ هذه الأضرار يقدِّم الشيخ عباس القمِّي (رحمه الله) صورة دقيقة لحال المماري حين قال: "ولا شكَّ أنَّه إذا اشتدَّت هذه الصِّفة المذمومة فإنَّها تصل بصاحبها إلى حدٍّ يصبح معه كالكلب المتوحش الذي يبحث دومًا عمَّن يتصارع معه، ويترصد المماري إن سمع من أحدٍ كلامًا؛ ليجادله فيه، ويتابعه" (22). وهذه الصُّورة تكشف مدى تأثير المراء على النَّفس، وكيف يصبح صاحبه إنسانًا يعيش في صراع دائم، لا يهدأ ولا يطمئن، يرى في كلِّ كلمةٍ تحديًا وفي كلِّ نقاش فرصة للخصومة. كما يشبهه بالكلب المتوحش، الذي لا يعرف الهدوء ولا السَّلام، ويعيش في حالة تأهب دائم لأي فرصة للصراع. وهذا التَّشبيه يجعلنا ندرك أنَّ المراء المفرط يقطع صلة الإنسان بالآخرين، ويبعده عن راحة القلب وسلامة المجتمع.

المحور الثَّالث: شرائط الجدال

الجدال بطبيعته يحمل في طيَّاته قوَّتينِ متناقضتينِ: قد يكون سببًا لهداية النُّفوس وزيادة العلم، وقد يكون أداة للضَّلال والهلاك، بحسب نيَّة المجادل وشرائطه. وأهم هذه الشَّرائط: 

أوَّلًا: أن يكون الجدال خالصًا لله (تعالى)، متوجهًا لنصرة الحقِّ وإثباته، لا لطلب الغلبة أو إظهار التَّفوق الذَّاتي؛ فنعرف من هذا أنَّ الجدال الممدوح هو ذلك الذي يُستخدم لإصلاح العقائد، وهداية الضَّالين، وحماية الحقوق، أو على الأقل للحفاظ على الحقِّ من الضَّياع. وفي هذه الحالة، يصبح الجدال واجبًا أحيانًا. وقد شدَّد الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) على مثل هكذا مجالات في الجدال وعلى وجوب البراءة من أهل البدع والتَّحذير منهم، مشيرًا إلى أنَّ السُّكوت عن الباطل قد يفتح الباب لانتشاره ويضعف المجتمع المسلم، فقال (صلَّى الله عليه وآله): "إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي، فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ، وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ، وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ، وَلَايَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ؛ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذلِكَ الْحَسَنَاتِ، وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ" (23). 

ومن هذا الحديث نعلم أنَّ الجدال الموجه نحو الحقِّ والبراءة من الباطل هو وسيلة لنشر الهداية، وحماية القلوب من الضَّلال، وضمان استقامة الأمَّة على مبادئها.

 ويظهر هنا الفرق الجوهري بين الجدال البنَّاء الذي يرفع الإنسان ويهدي الآخرين، وبين الجدال الملوث بالمراء والغرور، الذي يزرع الشُّكوك ويورث العداوة. 

ثانيًا: ألَّا يكون أحد الأطراف عنودًا أو عنيفًا في موقفه، فإن صار الجدال من بحث عن الحقِّ إلى عناد شخصي، صار خصومةً، وخرج عن مساره الإيجابي إلى الاختلاف السَّلبي الذي يفسد القلوب ويشتت الصُّفوف. وهنا يظهر أنَّ نيَّة المجادل وسلوكه أهم من كلامه؛ فالمجادلة بلا إخلاص قد تكون سببًا للانحراف والهلاك، لا وسيلة للهداية.

ثالثًا: أن يظلَّ ضمن المبادئ والقيم الصَّائبة، وألَّا يخرج عنهما؛ فالكثير من النَّاس، وللأسف، نتيجة قلَّة العلم أو الجهل، يحتجون بأمور لا علاقة لها بالعلم أو الهُدى، فيدخلون في جدال لا ينفع ولا يثمر إلَّا الضَّلال والانحراف.

وقد حذَّر الله (سبحانه) من هذا النَّوع من الجدال فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ* ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (24). فمن يجادل في أمور الدِّين بلا علم ولا هدى، يضل نفسه ويضل من حوله، ويقع في باب الخسران. وأكَّد (سبحانه) ذلك عندما ذكر مصير أقوام بالباطل ليُدحض الحقَّ، فقال: (عزَّ من قائل): (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (25). ومع ذلك، فإنَّ الله (سبحانه) يأمر بالجَدل بالحسنى وبما يحقق الهداية، فقال: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (26)، وقال (سبحانه): (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (27). وبذلك، تصبح المعادلة واضحة: الجدال بلا علمٍ أو هدى هلاك، والجدال بالتي هي أحسن هداية، والشَّرط هو أن يكون الحوار مبنيًا على الحقِّ، ومتوجهًا للهداية والإرشاد، بعيدًا عن حبِّ الغلبة أو التَّباهي بالعلم، حتَّى يكون كلام الإنسان سببًا للنُّور لا للضَّلال.

الجدال بالتي هي أحسن

"عن عكرمة، عن ابنِ عبَّاس بَيْنَما كانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، إذْ قامَ إلَيْهِ نافِعُ بنُ الأزرَقِ، فقالَ لَهُ: يا ابْنَ عبَّاسٍ!

تُفْتي النَّاسَ في النَّمْلَةِ والقُمْلَةِ؟! صِفْ لِي إلهَكَ الَّذي تَعْبُدُهُ. فأطْرَقَ ابْنُ عبَّاسٍ إعْظامًا لِقَوْلِهِ، وكانَ الحُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِما السَّلامُ) جالِسًا ناحِيَةً، فقالَ: إلَيَّ، يا ابْنَ الأزرَقِ!

قالَ ابْنُ الأزرَقِ: لَسْتُ إِيَّاكَ أسْأَلُ.

قالَ ابْنُ عبَّاسٍ: يا ابْنَ الأزرَقِ، إنَّهُ مِنْ أهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وهُمْ وَرَثَةُ العِلْمِ.

فأقْبَلَ نافِعٌ نَحْوَ الحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلامُ).

فقالَ لَهُ الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلامُ): يا نافِعُ! إنَّ مَن وَضَعَ دِينَـهُ عَلَى القِياسِ لَمْ يَزَلِ الدَّهْرَ في الالْتِباسِ، سائِلًا ناكِبًا عَنِ المِنْهاجِ، ظاعِنًا بِالاعْوِجاجِ، ضالًّا عَنِ السَّبِيلِ، قائِلًا غَيْرَ الجَمِيلِ. يا ابْنَ الأزرَقِ! أصِفُ إلهِي بِما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وأعْرِفُهُ بِما عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ، لا يُدْرَكُ بِالحَواسِّ، ولا يُقاسُ بِالنَّاسِ، قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَصِقٍ، وبَعِيدٌ غَيْرُ مُنْتَقِصٍ، يُوَحَّدُ ولا يُبَعَّضُ، مَعْرُوفٌ بِالآياتِ، مَوْصُوفٌ بِالعَلاماتِ، لا إلهَ إلّا هُوَ الكَبِيرُ المُتَعالِ.

فَبَكى ابْنُ الأزرَقِ وقالَ: يا حُسَيْنُ، ما أحْسَنَ كَلامَكَ؟!

قالَ لَهُ الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلامُ): بَلَغَنِي أنَّكَ تَشْهَدُ عَلَى أبِي وَعَلى أخِي بِالكُفْرِ وَعَلَيَّ؟

قالَ ابْنُ الأزرَقِ: أما واللهِ، يا حُسَيْنُ! لَئِنْ كانَ ذلِكَ لَقَدْ كُنْتُمْ مَنارَ الإسلامِ، ونُجُومَ الأحْكامِ.

فقالَ لَهُ الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلامُ): إنِّي سائِلُكَ عَنْ مَسْألَةٍ؟

قالَ: سَلْ.

فَسَأَلَهُ عَنْ هذِهِ الآيَةِ: (وأمَّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ)، يا ابْنَ الأزرَقِ! مَن حَفِظَ في الغُلامَيْنِ؟

قالَ ابْنُ الأزرَقِ: أبُوهُما.

قالَ الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلامُ): فأبُوهُما خَيْرٌ أمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟

قالَ ابْنُ الأزرَقِ: قَدْ أنْبَأَنا اللهُ (تَعالى) أنَّكُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ!" (28).

إنَّ الجدال بالتي هي أحسن هو منهج يقوم على احترام عقل المخاطَب ومخاطبة وجدانه في آنٍ واحد، بحيث تصبح المعرفة أداة هداية ووسيلة لإيصال الطَّمأنينة والسَّكينة؛ فالكلمة إذا خرجت صادقةً، مرتبطة بالحكمة، تملك قدرة على إيقاظ البصائر، حتَّى عند أشدِّ الخصوم قسوةً في الموقف. ومن هذه النقطة يظهر الفرق الجوهري بين الحوار الذي يُبنى على طلب الحقِّ ويقود إلى الهداية، وبين الخصومة التي تنتهي إلى نزاعٍ شخصي يغذِّي الضَّلال ويُبعد عن الحقِّ. 

المحور الرَّابع: علاج المراء والجدال والخصومة

بعد أن بيَّنا مخاطر المراء والجدال والخصومة على النَّفس والمجتمع، يصبح من الضَّروري التَّوجه نحو العلاج العلمي والعملي؛ وأهم خطوات العلاج:

1. التَّدبر في النُّصوص المقدَّسة

التَّأمل العميق في كلام الله (تعالى) وأحاديث النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسيلة فعَّالة لعلاج المراء والجدال والخصومة؛ وفهم ما ورد في القرآن الكريم والرِّوايات الشَّريفة يكشف أثرها السَّلبي على العلاقات والمجتمع، وفي المقابل يبرز قيمة السُّلوك المضاد لها، مثل التَّواضع، والصِّدق، وضبط النَّفس، والرِّفق بالآخرين. وقد ورد في الحديث الشَّريف عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): " ثَلَاثٌ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ: مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ، وَخَشِيَ اللَّهَ فِي الْمَغِيبِ وَالْمَحْضَرِ، وَتَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً" (29). 

2. العمل بخلاف النَّفس

من أهم ما ينبغي على الإنسان أن يتدرَّب عليه هو كبح نزعات النَّفس الميَّالة إلى الغرور والإصرار على الرَّأي؛ فإذا دخل في نقاش مع غيره، وتبيَّن له أنَّ الحقَّ مع الطَّرف الآخر، كان عليه أن يعترف بخطئه بصدق وتواضع. وهذه الخطوة قوَّة أخلاقيَّة عظيمة؛ فهي تُظهر العدل والصِّدق، وتكسب القلب راحة وطمأنينة، وتمنع المراء أن ينقلب إلى خصومة أو عداوة؛ فالاعتراف بالحقِّ يقطع جذور الغضب والكبر، ويجعل الحوار وسيلة للبناء بدلًا من أن يكون ساحة للصِّراع.

من ثمار قبول الحقِّ

قالَ الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) لرجُلٍ قالَ لَهُ: اجلِسْ حتَّى نَتَناظَرَ في الدِّينِ: "يا هذا أنا بَصيرٌ بدِيني مَكشوفٌ علَيَّ هُداي، فإن كُنتَ جاهِلًا بدِينِكَ فاذهَبْ واطلُبْهُ، ما لي ولِلمُماراةِ؟! وإنَّ الشَّيطانَ لَيُوَسوِسُ لِلرّجُلِ ويُناجيهِ ويقولُ: ناظِرِ النَّاسَ في الدِّينِ كيلا يَظُنُّوا بكَ العَجزَ والجَهلَ!

ثُمَّ الْمِراءُ لا يَخْلُوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُه:

 إِمَّا أَنْ تَتَمارى أَنْتَ وَصاحِبُكَ في ما تَعْلَمانِ، فَقَدْ تَرَكْتُما بِذلِكَ النَّصيحَةَ، وَطَلَبْتُما الْفَضيحَةَ، وَأَضَعْتُما ذلِكَ الْعِلْمَ، أَوْ تَجْهَلانِهِ فَأَظْهَرْتُما جَهْلاً، وَخاصَمْتُما جَهْلاً، وَإِمَّا تَعْلَمُهُ أَنْتَ فَظَلَمْتَ صاحِبَكَ بِطَلَبِكَ عَثْرَتَهِ، أَوْ يَعْلَمُهُ صاحِبُكَ فَتَرَكْتَ حُرْمَتَهُ، وَلَمْ تُنْزِلْهُ مَنْزِلَتَهُ، وَهذا كُلُّهُ مُحالٌ، فَمَنْ أَنْصَفَ وَقَبِلَ الْحَقَّ، وَتَرَكَ الْمُماراةَ فَقَدْ أَوْثَقَ إيْمانَهُ وَأَحْسَنَ صُحْبَةَ ديْنِهِ، وَصانَ عَقْلَهُ" (30). 

3. تصحيح النيَّة

النيَّة الخالصة لله (تعالى) هي روح النِّقاش وجوهره؛ فإذا خلت من نزعات الغلبة والتَّفاخر والتَّعالي، كان الحوار وسيلة للهداية ونورًا يشرح الصَّدر، وأمَّا إذا تلوَّثت بالأهواء امتلأ القلب حقدًا وغِلًّا، وتبددت الطَّمأنينة والرِّضا؛ فالنَّية الصَّحيحة ترتقي بالجدال من ساحة خصام إلى فرصة للتَّعلم، ومن نزاع إلى وسيلة لإصلاح النَّفس والمجتمع.

في مدرسة الأتقياء

عالمان كبيران المرحوم ملا عبد الله التستري والمرحوم المقدَّس الأردبيلي جمعهما مجلس كان يحضره جمع من النَّاس.

تقدَّم الملا عبد الله التَّستري بسؤال المقدَّس الأردبيلي، فرَّد عليه الأردبيلي قائلًا: سوف أجيبك فيما بعد!.

ولما انتهى المجلس أخذ بيد الملا التستري، ومشى معه صوب الصَّحراء (أطراف القرية) فشرح له جواب سؤاله، فاقتنع به التَّستري بعد نقاش خفيف، ولكنه قال: لماذا لم تجبني في المجلس بحضور الجمع؟

قال المقدَّس الأردبيلي: لو كنَّا نناقش الموضوع هناك لكنت أنا وأنت معرَّضينِ لهوى النَّفس؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منَّا كان يريد الانتصار لرأيه، وكنت أخشى أن يغلب علينا العجب فيحاول كلُّ منَّا التَّفوق لذاته... فيتحكم فينا حينئذٍ الرِّياء، وحبُّ الظُّهور، ونكون بذلك أقرب إلى المعصيَّة منَّا إلى الطَّاعة والقربة لله (عزَّ وجلَّ).

وأمَّا في الصَّحراء حيث لا أحد معنا سوى الله (تعالى) فلا مجال للشَّيطان، ولا أرضيَّة للرِّياء، ووسوسة النَّفس" (31).

وهذه الحكاية تذكِّرنا أنَّ السَّعي وراء المعرفة والحقِّ يحتاج إلى ضبط النَّفس، وأنَّ ظروف النِّقاش ومكانه تؤثِّر على صدق النيَّة؛ فالحكمة لا تكمن في الظُّهور أمام النَّاس؛ بل في الإخلاص والعمل لله (تعالى) وحده، بعيدًا عن الوسوسة والشَّهوات.

4. المداومة على طيب الكلام

المداومة على فضيلة طيب الكلام، ومكافحة النَّفس على التَّمسك به حتَّى يصبح عادة راسخة، فتزول أضداد المراء والجدال والخصومة من القلب تمامًا، ويصبح الإنسان متحررًا من نزعات العناد والغرور والحقد.

وقد ورد في الأحاديث الشَّريفة ما يؤكِّد عظيم أجر الكلمة الطيِّبة وترك المراء؛ فقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "ثَلَاثٌ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ: مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ، وَخَشِيَ اللَّهَ فِي الْمَغِيبِ وَالْمَحْضَرِ، وَتَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً" (32). وقال (صلَّى الله عليه وآله): "يُمَكِّنُكُم مِنَ الجَنَّةِ طِيبُ الكَلامِ، وَإِطعامُ الطَّعامِ، وَقَد قالَ اللَّهُ (تَعالى): (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (33)" (34).

وبعد هذه الجولة النَّافعة يتجلَّى لنا أنَّ المراء والجدال العقيم والخصومة المذمومة ليست سوى ألغام خفيَّة تهدِّد القلوب وتمزِّق المجتمعات، بينما الوعي والنيَّة الخالصة وضبط النَّفس هي الوقود الذي يحوّل النِّقاش إلى نور، والحوار إلى سلَّم يرتقي بالإنسان نحو السموّ. وأنَّ منْ ترك المراء لوجه الله (تعالى)، وجعل جداله هدايةً ورحمة، وابتعد عن الخصومة بغير حقٍّ، فقد صان قلبه من القسوة، وحمى مجتمعه من الفرقة، وحفظ علاقاته من التَّصدُّع، ورسم لنفسه طريقًا يفضي إلى الطَّمأنينة والسَّعادة الحقيقيَّة. فلنجعل ترك المراء والالتزام بالجدال القويم سبيلنا إلى قلوب طيِّبة، ومجتمع متماسك، ونفوس مطمئنة؛ فسلام القلب هو البذرة التي تثمر سلام العالم.

.........................................

الهوامش:

1. لسان العرب: ج15، ص278.

2. ينظر: جامع السعادات: ج٢، ص٢١٧.

3. لسان العرب: ج11، ص105.

4. المفردات في غريب القرآن: ص189.

5. التعريفات: ص74.

6. جامع السعادات: ج٢، ص٢١٧.

7. تاج العروس: ج2، ص278.

8. القاموس المحيط: ج4، ص120.

9. المصدر نفسه: ج4، ص236.

10. المنجد في اللغة والاعلام: ص182.

11. جامع السعادات: ج٢، ص٢١٧.

12. سورة العنكبوت/ الآية: 46.

13. ينظر: جامع السعادات: ج٢، ص٢١٧- 219.

14. الكافي (دار الحديث): ج٤، ص71.

15. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج١، ص117.

16. المصدر نفسه.

17. الكافي (دار الحديث): ج٣، ص737.

18. المصدر نفسه: ج ٣، ص734.

19. بحار الأنوار: ج2، ص138.

20. الكافي (دار الحديث): ج٣، ص735.

21. نزهة النواظر وتنبيه الخواطر: ج2، ص209.

22. خمسون درساً في الأخلاق: ص32.

23. الكافي (دار الحديث): ج٤، ص123.

24. سورة الحج/ الآيتان: 8-9.

25. سورة غافر/ الآية: 5.

26. سورة النحل/ الآية: 125.

27. سورة العنكبوت/ الآية: 46.

28. من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام): ص84.

29. الكافي (دار الحديث): ج٣، ص734.

30. بحار الأنوار: ج٢، ص135.

31. قصص وخواطر: ص72.

32. الكافي (دار الحديث): ج٣، ص734.

33. سورة البقرة/ الآية: 83.

34. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1، ص110.

ذات صلة

الوعي الديني في زمن التكنولوجيا الرقميةالابتزاز الإعلامي في زمن الديمقراطيةالمدن الذكية بين الرفاهية التقنية والضرورة المستقبليةأين القطة الآن؟هل يجوز ان تنفذ الاحكام القضائية جبرا بواسطة الدائن؟