الخوف والخوف المذموم
جامع السعادات
2024-06-09 03:56
أنواع الرذائل ولوازمها المتعلقة بالقوة الغضبية فمنها: الخوف...
وهو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال مشكوك الوقوع، فلو علم أو ظن حصوله سمى توقعه انتظار مكروه، وكان تألمه أشد من الخوف، وكلامنا في كليهما. وفرقه عن الجبن على ما قررناه من حدهما ظاهر، فإن الجبن هو سكون النفس عما يستحسن شرعا وعقلا من الحركة إلى الانتقام أو شيء آخر، وهذا السكون قد يتحقق من غير حدوث التألم الذي هو الخوف، مثلا من لا يجترئ على الدخول في السفينة أو النوم في البيت وحده أو التعرض لدفع من يظلمه ويتعرض له يمكن اتصافه بالسكون المذكور مع عدم تألم له بالفعل، فمثله جبان وليس بخائف.
ومن كان له ملكة الحركة إلى الانتقام وغيره من الأفعال التي يجوزها الشرع والعقل ربما حصل له التألم المذكور من توقع حدوث بعض المكاره، كما إذا أمر السلطان بقتله، فمثله خائف وليس بجبان. ثم الخوف على نوعين:
(أحدهما) مذموم بجميع أقسامه، وهو الذي لم يكن من الله ولا من صفاته المقتضية للهيبة والرعب، ولا من معاصي العبد وجناياته، بل يكون لغير ذلك من الأمور التي يأتي تفصيلها. وهذا النوع من رذائل قوة الغضب من طرف التفريط، ومن نتائج الجبن.
و(ثانيهما) محمود وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وجنايته، وهو من فضائل القوة الغضبية، إذ العاقلة تأمر به وتحسنه، فهو حاصل من انقيادها لها. ولنفصل القول في أقسام النوعين، وبيان العلاج في إزالة أقسام الأول وتحصيل الثاني:
الخوف المذموم وأقسامه
للنوع الأول أقسام يقبحها العقل بأسرها ولا يجوزها، فلا ينبغي للعاقل أن يتطرقها إلى نفسه. بيان ذلك: إن باعث هذا الخوف يتصور على أقسام:
(الأول) أن يكون أمرا ضروريا لازم الوقوع، ولم يكن دفعه في مقدرة البشر. ولا ريب في أن الخوف من مثله خطأ محض، ولا يترتب عليه فائدة سوى تعجيل عقوبة بصده عن تدبير مصالحه الدنيوية والدينية. والعاقل لا يتطرق على نفسه مثل ذلك، بل يسلي نفسه ويرضيها بما هو كائن إدراكا لراحة العاجل وسعادة الأجل.
(الثاني) أن يكون أمرا ممكنا لم يجزم بشيء من طرفيه، ولم يكن لهذا الشخص مدخلية في وقوعه ولا وقوعه. ولا ريب في أن الجزم بوقوع مثله والتألم لأجله خلاف مقتضى العقل، بل اللازم إبقاؤه على إمكانه من دون جزم بحصوله، فـ: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا) الطلاق 1. وهذا القسم مع مشاركته للأول في استلزامه تعجيل العقوبة بلا سبب، لعدم مدخليته لاختياره فيه، يمتاز عنه بعدم الجزم بوقوعه، فهو بعدم الخوف أولى منه.
(الثالث) أن يكون أمرا ممكنا فاعله هذا الشخص، وهو ناشئ عن سوء اختياره، فعلاجه ألا يرتكبه ولا يقدم على فعل يخاف من سوء عاقبته، فإنه إما فعل غير قبيح من شأنه التأدي إلى ما يضره، ولا ريب في أن ارتكاب مثله خلاف حكم العقل، ولو ظهر التأدي بعد إيقاعه فيكون من الثاني، أو فعل قبيح لو ظهر أوجب الفضيحة والمؤاخذة، وإنما فعله ظنا منه أنه لا يظهر، ثم يخاف من الظهور والمؤاخذة، ولا ريب في أن هذا الظن ناشئ عن الجهل، إذ كل فعل يصدر عن كل فاعل ولو خفية يمكن أن يظهر، وإذا ظهر يمكن إيجابه للفضيحة والمؤاخذة. والعاقل العالم بطبيعة الممكن لا يرتكب مثله، فباعث الخوف في الثاني هو الحكم على الممكن بالوجوب، وفي هذا الحكم عليه بالامتناع، ولو حكم عليه بما يقتضي ذاته أمن من الخوفين.
(الرابع) أن يكون مما تتوحش منه الطباع، بلا داع عقلي ولا باعث نفس أمري، كالميت والجن وأمثالهما، (لا) سيما في الليل مع وحدته. ولا ريب في أن هذا ناشئ عن قصور العقل ومقهوريته عن الواهمة، فليحرك القوة الغضبية ويهيجها لتغلب به العاقلة على الوهم. وربما ينفع إلزام نفسه على الوحدة في الليالي المظلمة والصبر عليها، حتى يزول عنه هذا الخوف على التدريج.
خوف الموت
ثم لما كان خوف الموت أشد أقسام هذا النوع وأعمها، فلنشر إلى علاجه بخصوصه، فنقول: باعث خوف الموت يحتمل أمورا:
(الأول) تصور فناء ذاته بالكلية وصيرورته عدما محضا بالموت. ولا ريب في كونه ناشئا عن محض الجهل، إذ الموت ليس إلا قطع علاقة النفس عن بدنه، وهي باقية أبدا، كما دلت عليه القواطع العقلية والشواهد الذوقية والظواهر السمعية، ولعل ما تقدم يكفي لإثبات هذا المطلوب. ومع قطع النظر عن ذلك نقول: كيف يجوز لمن له أدنى بصيرة أن يجتمع عظماء نوع الإنسان بحذافيرهم، كأهل الوحي والإلهام وأساطين الحكمة والعرفان على محض الكذب وصرف الباطل ! فمن تأمل أدنى تأمل يتخلص من هذا الخوف.
(الثاني) تصور إيجابه ألما جسمانيا عظيما لا يتحمل مثله ولم يدرك في الحياة شبهه. وهذا أيضا من الخيالات الفاسدة، فإن الألم فرع الحياة، والألم الجسماني ما دامت الحياة لا يكون أشد مما رآه كل إنسان في حياته من الأوجاع وقطع الاتصال، وبعد زوال الحياة لا معنى لوجوده، إذ كل جسماني إدراكه بواسطة الحياة، وبعد انقطاعها لإدراك، فلا ألم.
(الثالث) تصور عروض نقصان لأجله. وهو أيضا غفلة عن حقيقة الموت والانسان، إذ من علم حقيقتهما بعلم أن الموت متمم الإنسانية وآثارها، والمائت جزء لحد الإنسان. ولذا قال أوائل الحكماء: (الإنسان حي ناطق مائت)، وحد الشيء يوجب كماله لا نقصانه، فبالموت تحصل التمامية دون النقصان (نشنيده اي كه هر كه بمرد أو تمام شد) (1) فالإنسان الكامل يشتاق إلى الموت، لاقتضائه تماميته وكماله، وخروجه عن ظلمة الطبيعة ومجاورة الأشرار إلى عالم الأنوار ومرافقة الأخيار من العقول القادسة والنفوس الطاهرة، وأي عاقل لا يرجح الحياة العقلية والابتهاجات الحقيقية على الحياة الموحشة الهيولانية، المشوبة بأنواع الآلام والمصائب وأصناف الأسقام والنوائب !
فياحبيبي ! تيقظ من نوم الغفلة وسكر الطبيعة، واستمع النصيحة ممن هو أحوج منك إلى النصيحة: حرك الشوق الكامن في جوهر ذاتك إلى عالمك الحقيقي ومقرك الأصلي، وانسلخ عن القشورات الهيولانية، وانفض عن روحك القدسي ما لزقه من الكدورات الجسمانية، وطهر نفسك الزكية عن أدناس دار الغرور وأرجاس عالم الزور، واكسر قفصك الترابي الظلماني وطر بجناح همتك إلى وكرك القدسي النوراني، وارتفع عن حضيض الجهل والنقصان إلى أوج العزة والعرفان، وخلص نفسك عن مضيق سجن الناسوت وسيرها في فضاء قدس اللاهوت، فما بالك نسيت عهود الحمى ورضيت بمصاحبة من لا ثبات له ولا وفاء؟ !.
(الرابع) صعوبة قطع علاقته من الأولاد والأموال والمناصب والأحباب، ومعلوم أن هذا ليس خوفا من الموت في نفسه بل هو حزن على مفارقة بعض الزخارف الفانية. وعلاجه أن يتذكر أن الأمور الفانية مما لا يليق بالعاقل أن يرتبط بها قلبه، وكيف يحب العاقل خسائس عالم الطبيعة ويطمئن إليها، مع علمه بأنه قريب يفارقها، فاللازم أن يخرج حب الدنيا وأهلها عن قلبه ليتخلص من هذا الألم.
(الخامس) تصور سرور الأعداء وشماتتهم بموته. وهذا وسوسة شيطانية صادرة عن محض التوهم إذ مسرة الأعداء أو شماتتهم لا توجب ضررا في إيمانه ودينه، ولا ألما في روحه وجسمه، على أن ذلك لا يختص بالموت، إذ العدو يشمت ويفرح بما يرد عليه في حال الحياة أيضا من البلايا والمحن، فمن كره ذلك فليجتهد في قطع العداوة وإزالتها بالمعالجات المقررة للحقد والحسد.
(السادس) تصور تضييع الأولاد والعيال، وهلاك الأعوان والأنصار. وهذا أيضا من الوساوس الباطلة الشيطانية والخواطر الفاسدة النفسانية، إذ ذلك يوجب ظن منشئيته لاستكمال الغير وعزته، ومدخليته في قوته وثروته، وذلك ناشئ من جهله بالله وبقضائه وقدره، إذ فيضه الأقدس اقتضى إيصال كل ذرة من ذرات العالم إلى ما يليق بها وإبلاغها إلى ما خلقت لأجله، وليس لأحد أن بغير ذلك أو يبدله. ولذا ترى أكثر الأفاضل يجتهدون في تربية أولادهم ولا ينجح سعيهم أصلا، وتشاهد غير واحد من الأغنياء يخلفون لأولادهم أموالا كثيرة ونخرج عن أيديهم في مدة قليلة، وترى كثيرا من أيتام الأطفال لا تربية لهم ولا مال، ومع ذلك يبلغون بالتربية الأزلية مدراج الكمال، أو يحصلون ما لا حصر له من الأموال.
والغالب أن الأيتام الذين ذهب عنهم الآباء في حالة الصبي تكون ترقياتهم في الآخرة والدنيا أكثر من الأولاد الذين نشأوا في حجر الآباء. والتجربة شاهدة بأن من اطمأن من أولاده بمال يخلفه لهم أو ذي قوة يفوض إليه أمورهم اعتراهم بعده الفقر والفاقة والذلة والمهانة، وربما صار ذلك سببا لهلاكهم وانقراضهم. ومن فرض أمورهم إلى رب الأرباب وخالق العباد أزداد لهم بعده عزا وقوة وكثرة وثروة. فاللائق بالعقلاء أن يفوضوا أمور الأولاد وغيرهم من الأقارب والأنصار إلى من خلقهم ورباهم، ويوكلهم إلى موجدهم ومولاهم، وهو نعم المولى ونعم الوكيل.
وقد ظهر أن الخوف من الموت لأجل البواعث المذكورة لا وجه له. ثم ينبغي للعاقل أن يتفكر في أن كل كائن فاسد ألبتة، كما تقرر في الحكمة. وهو من الكائنات. والفساد ضروري له فمن أراد وجود بدنه أراد فساده اللازم له، فتمنى دوام الحياة من الخيالات الممتنعة، والعاقل لا يحوم حولها ولا يتمنى مثلها. بل يعلم يقينا أن ما يوجد في النظام الكلي هو الأصلح الأكمل وتغييره ينافي الحكمة والخيرية، فيرضى بما هو واقع على نفسه وغيره من غير ألم وكدورة. ثم من يتمنى طول عمره فمقصوده منه إن كان حب اللذات الجسمية وامتداد زمانها، فليعلم أن الثيب إذا أدركه ضعفت الأعضاء واختلت القوى وزالت عنه الصحة التي هي عمدة لذاته فضلا عن غيرها، فلا يلتذ بالأكل والجماع وسائر اللذات الحسية، ولا يخلو لحظة عن مرض وألم، وتتراجع جميع أحواله، فتتبدل قوته بالضعف وعزه بالذل، وكذا سائر أحواله، كما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق) يس 68.
ومع ذلك لا يخلو كل يوم من مفارقة حبيب أو شفيق، ومهاجرة قريب أو رفيق. وربما ابتلى بأنواع المصيبات، ويهجم عليه الفقر والفاقة والنكبات، وطالب العمر في الحقيقة طالب هذه الزحمات. وإن كان مقصوده منه اكتساب الفضائل العلمية والعملية، فلا ريب في أن تحصيل الكمالات بعد أوان الشيخوخة في غاية الصعوبة، فمن لم يحصل الفضائل الخلقية إلى أن أدركه الشيب، واستحكمت فيه الملكات المهلكة من الجهل وغيره، فإني يمكنه بعد ذلك إزالتها وتبديلها بمقابلاتها، إذ رفع ما رسخ في النفس مع الشيخوخة التي لا يقتدر معها على الرياضات والمجاهدات غير ممكن. ولذا ورد في الآثار: أن الرجل إذا بلغ أربعين سنة ولم يرجع إلى الخير، جاء الشيطان ومسح على وجهه وقال: بأبي وجه من لا يفلح أبدا. على أن الطالب للسعادة ينبغي أن يكون مقصور الهم في كل حال على تحصيلها، ومن جملتها دفع طول الأمل والرضا بما قدر له من طول العمر وقصره، ويكون سعيه أبدا في تحصيل الكمالات بقدر الإمكان والتخلص عن مزاحمة الزمان والمكان، وقطع علاقته من الدنيا وزخارفها الفانية والميل إلى الحياة واللذات الباقية، والاهتمام في كسب الابتهاجات العقلية والاتصال التام بالحضرة الإلهية، حتى يتخلص عن سجن الطبيعة ويرتقي إلى أوج عالم الحقيقة، فيتفق له الموت الإرادي الموجب للحياة الطبيعية، كما قال (معلم الاشراق): مت بالإرادة تحيى بالطبيعة، فينقل إلى مقصد صدق هو مستقر الصديقين، ويصل إلى جوار رب العالمين، وحينئذ يشتاق للموت ولا يبالي بتقديمه وتأخيره، ولا يركن إلى ظلمات البرزخ الذي هو منزل الأشقياء والفجار ومسكن الشياطين والأشرار، ولا يتمنى الحياة الفانية أصلا، ينطق بلسان الحال: (خرم آن روز كزين منزل ويران بروم راحت جان طلبم وزپي جانان بروم بهواي لب أو ذره صفت رقص كنان تالب چشمه خورشيد درخشتان بروم) (2).
(السابع) تصور العذاب الجسماني والروحاني المترتب على ذمائم الأعمال وقبائح الأفعال. ولا ريب في أن الخوف من ذلك ممدوح، وهو معدود من أقسام النوع الثاني، إلا أن البقاء عليه وعدم السعي فيما يدفعه من ترك الخطيئات وكسب الطاعات جهل وبطالة، إذ هذا الخوف ناشئ من سوء الاختيار، وقد بعث الله الرسل وأوصياءهم لاستخلاص الناس عنه. فعلاجه ترك المعاصي وتحصيل معالي الأخلاق. ومعلوم أن المنهمك في المعاصي مع خوفه من العذاب كالملقي نفسه في البحر أو النار مع خوفه من الغرق والحرق، ولا ريب في أن إزالة هذا الخوف باختياره، فليترك المعاصي ويجتهد في كسب وظائف الطاعات ليتخلص عنه، واهتمام أكابر الدين من الأنبياء والمرسلين والحكماء والصديقين في وظائف الطاعات وصبرهم على مشاق العبادات ومجاهدتهم مع جنود الشياطين إنما هو لدفع هذا الخوف عن نفوسهم، فهو في الحقيقة ناشئ منك ومن سوء اختيارك، فبادر إلى تقليله بالمواظبة على صوالح الأعمال وفضائل الأفعال. وقد يأتي أن هذا الخوف هو سوط الله الباعث على العمل، ومعه لو كان مفرطا فليعالج بأسباب الرجاء، وبدونه فلا بد أن يكون حتى يبعثه عليه، على أنه مع عظم جرمه وقصور باعه عن تداركه فلا ينبغي أن ييأس من روح الله، فلعل واسع الرحمة السابقة على الغضب يدركه بسابقة من القضاء والقدر.